ادب وفن

الكتابـةُ فيما نكرهُ الكتابةَ فيه / حميد الخاقاني

مرةً أخرى وأخرى، وأخرى، أذهبُ للكتابةِ فيما أكرهُ كتابتَهُ وقراءتَه، وسَماعَهُ كذلك : أنْ أنْـدِبَ رحيلَ أحدِ الأحبة عنا. صديقٌ ورفيقُ دربٍ آخرُ يمضي عنا. يمضي في زمنٍ تتسارعُ فيه خُطى الماضين. زمنٍ يكثُرُ فيه النـدْبُ، ويشُـقُّ علينا فيه الفُقْدان. أندبُ لنفسي رحيلَ صادق البلادي. أندبُهُ لي ولأصدقاءَ ورفاقٍ عرفوه وعملوا معه وأحبُّوهُ.
منذ مطلع سبعينات القرن الماضي ونحن نعرف بعضنا. جَمَعَنا خيارُ الفكر، ورفقةُ الدربِ، والعملُ في (طريق الشعب)، والجيرَةُ وصداقةُ العائلتين.
في أيامِ مُلتَقانا الأَولى عرفتُ من صادقٍ أنَّ لقَبَهُ يرجعُ إلى (بلاد القديم)، أحدِ حواضر البحرين القديمة، وعاصمتِها قبل وجود المنامة، ومجيئ آل خليفةَ إليها. عرفتُ منه أنَّ أسلافَهُ قد هاجروا منها نهايات القرن التاسع عشر ربما، ليُلْقوا رحالَهم، فيما بعدُ، بالبصرة القديمة. كان يُحدثني عن (بلاد القديم) هذه مبتسماً وكأنه يتمثَّلُها شاخصةً، تلكَ اللحظة، أمامه، رغم أنه لم يأتِ إلى الدنيا فيها، ولم يرَها طوالَ حياته، كما أعرف. في ذاكَ الموطن خَلَّفَت العائلةُ أطياناً وعقارات لم يجهَدِ الوالدُ الزاهدُ، ولم يكترثْ أبداً، لاستعادتها. قبل ما يقرُب من عشرة أعوام عدنا، هنا في مغتربنا الألماني، للحديث عن تلك الجذور الأولى. أثناء حديثنا ذاك أخبرني صادق، مبتسماً هذه المرةَ أيضا، بأنَّ التاريخ المُحَدَّدَ لاستعادة ذاك الحق قد مضى قبل شـهور، ومضَتِ الأطيانُ معه. لم يَرِثْ صادقٌ، ولا أخوتُهُ وأخواتُهُ، شيئاً من أطيان الوالدِ الزاهدِ فيما هو زائل، والذي قضى سنوات حياته الأخيرة مُجاوراً لأضرحةِ الزُهاد والصالحين. ورثَ الوليدُ عن ذاك الوالد، كما أرى، زهدَهُ وتواضُعَه وهدوءَ نفسِهِ ورضاه عنها.
(بلادُ القديم) تلك ظلّت لدى صادقٍ ذاكرةً. ظلَّت وهماً يعود إليه، مبتسماً، من حين لحين.
أَتُراهُ الآنَ يَحُثُّ الخُطى، بعد رحيله الأخير، عائداً إليها. إلى ما لم يكنْ فيه يوماً؟
(بلاد القديم) هذه أحدُ أصداء مملكة (دلمون) البحرينية القديمة التي كان يصفُها السومريون بأنها (أرض الفردوس). أرضُ الخلود والحياة ـ الأزَل. غيرُ قليلٍ من علماء الآثار والباحثين في حضارات الشرق الأولى يرَونَ بأنَّ (دلمون) كانت مَقْصَـدَ رحلة (جلجامش) الرمزية، ومُنْتَهى تيهِـهِ البحري الطويلِ، باحثاً عن عشبة الخلود. هناك عثرَ سيّدُ (اوروك) على العُشْبَةِ ـ المُبْتَغى. وهناك أضاعَ، في غفلةٍ من النوم بين مروج (دلمون) وغاباتِ نخيلها، مُبتغاه. مرةً قلتُ لصادقٍ إنَّ البحرَ لم يكنْ هو جغرافيا ذاك التيه الجلجامشي، كما أعتقد. جغرافيتُهُ هي الروحُ وحدَها. تيهُ يوليسيس، أي جلجامش الإغريقي، تيهٌ مشابهٌ هو الآخر لتيهِ صاحبنا. لا جغرافيةَ له غير الروح.
في حينها تباصَرْنا، طويلاً، في أحوال التيه العراقي المعاصر، وجغرافياته الروحية وغير الروحية، بعدَ أنْ تعاقبتْ أفاعي البلاد الرقطاءُ منذ مطلع الستينات، وإلى يومنا هذا، على اختلاسِ عُشْبةِ الخلود السومرية، على اختلاس العراقَ ـ المُبتَغى من أهله، حيثُ جعلتْ عشّاقَهُ الصادقين غرباءَ فيه وعنه، وغرباءَ خارجَهُ.
أكثرُ من أربعين عاماً جمعتنا ببعضنا. تطابقنا طوالَها في أشياء واختلفنا في أشياء. في الأعوام الثلاثين الماضية أخذتنا تجارب الحياة والثقافة، تجاربنا نحن، وتجارب الآخرين كذلك، إلى الاقتراب، في هذه الجوانب، من بعضنا. اتَّسَعَتْ مساحةُ التطابق، وضاقت رُقعَةُ الاختلاف. صرنا نعرف كيف يكون التطابُقُ والاختلافُ مصادرَ للغِنى والاغتناء. وبهذا المعنى كنا نتوادعُ على جَدَلٍ ونلتقي على جدلٍ، أو نتهاتفُ حول ما قرأه أحدنا، أو كتبهُ، إنْ طالتْ المسافةُ بين لقاءٍ وآخر. وغالباً ما يكون صادقٌ هو من يختزلُ مثلَ هذه المسافة.
لم يكن الراحلُ، وريثُ (دلمون)، منشغلاً بسؤال الموت وأسراره. ما كان يعنيه هو الاجتهادُ في أنْ يكون الزمانُ، ما بين قدومِ أحدنا إلى هذا العالم وخروجِهِ منه، مُمتلئاً بما هو ذو معنى ونفعٍ للحياة وللناس. وأرى أنَّ صادقاً سعى، حضوراً وسلوكاً وكتابةً وجدلاً، ومهنةً كذلك، إلى أنْ يملأَ زمانَه هو، وعلى قَـدْر طاقته، بما ينفع الناسَ والحياة أيضاً.
طوالَ زمان رفقتنا وصداقتنا لم أسمَعْ صادقاً يتحدثُ بسوءٍ عن أحدٍ، أو يُظْهِرُ ضغينةً أو كراهيةً لأحد. حتى حين يتحدث، أو يصغي لحديثٍ، عن مستبدٍ أو جلادٍ ما، يعرِضُ لأفكاره وأفعاله، بهدوءٍ يكاد يكون حيادياً حتى، تاركاً لمن يسمعُهُ التأمّلَ الحرَّ في صورة ذاكَ الجلاد، وهذا المستبد، والحُكْمَ عليه.
ما كان يعنيه هو أفكارُ الأفراد والجماعات وأفعالُها، والجدَلُ الهادئ معها : هل تنفعُ البشرَ والحياةَ، أم تسيئُ لهما؟
مَزِيَّةُ الإصغاء الهادئ لآراء الآخرين، طابَقَتْ ما يراه و يعتقدُه هو، أو ناقضتهما، لم تُغادِرْهُ حتى رحيله عنا. صوابُ الآراء والأفكار وخطلُهما يتحقَّقُ في الحياة، وفي حقول التجارب التاريخية والعملية. هذه التجاربُ هي ما يُظْهِرُ صوابَ الأشياء أو خطَأها. منافعَها وأضرارَها. شرورَها وخيراتِها. الحسَنَ منها والقبيحَ كذلك.
وإذا ما أرادَ نقدَ أحدٍ، أو شيئٍ لأحَدٍ، كان(كم يشُقُّ عليَّ أنْ أتحدث عن صادقٍ بصيغة الماضي؟) يُمَهِّـدُ لنقده بابتسامةٍ، أو بضحكةٍ، أو بكَفٍّ تلامسُ كَفَّ المنقود أو كَتِفَهُ بمحبَّة.
لم أَعِشْهُ، طيلةَ هذه العقود الأربعة، لحظةً يغضبُ فيها، أو يحْتَدُّ على أحدٍ، أو يسخطُ على هذه الدنيا وزمانها. حتى في المرة الوحيدة التي شكى لي فيها حَيْفاً، رأى أنَّ هيئةً حزبيةً ما ألْحَقته به، ظلت نبرةُ شكواه، وقتَها، أقربَ للعَتَبِ منها للشكوى.
هذه الأحوال تجسيدٌ لنفسٍ شفيفةٍ فيه. نفسٍ تتحلى بجميلِ صبرٍ لا ترى أنه "مفتاح الفرج"، ولا تنشُدُ فيه ثواباً ما، وإنما هو حالةٌ من طاقةِ هذه النفسِ على حَمْلِ أعباء العيش، ورِضاها عن نفسِها وعن صاحبها، ورضاهُ هو عنها وعنه.
منذُ الأوقات المُبَكِّرَة لرفقتنا عرفتُ فيه ذلكَ الدأَبَ والبحثَ في التفاصيل، والنبشَ في الكتب والمصادر، والتقاطِ ما يجدُ فيه سَنداً لآرائه، ولما يُحاججُ فيه، اختلافاً مع الآخر، أو قبولاً له.
هذا الدأَبُ والنبشُ تجلَّيا في أهمِّ نصٍّ كتبه صادقٌ، حتى اليوم في تقديري، ونشرَه في (صفحة ثقافة) في (طريق الشعب) في السبعينات. نَشَرَهُ تحتَ الاسم الذي آثَرَ النشرَ فيه آنَذاك: (حمدان يوسف). هذا النصُّ ـ البحثُ، الذي جادل فيه موضوعاتٍ أساسية في الرؤيةِ الاجتماعية للعلامة (علي الوردي)، منطلِقاً، في حينها، من أساسيات علم الاجتماع الماركسي، لفَتَ الانتباهَ إلى هـذا الـ(حمدان يوسف). في مساء يوم نشرِ البحث كنتُ، كما العادة، في حدائق اتحاد الأدباء، مع رفقةٍ وأصدقاء آخرين. في ذاك المساء سألني غير قليلٍ من الأدباء عن كاتب هذا البحث، أذكرُ منهم أستاذي الراحل (علي عباس علوان) والناقدان (شجاع العاني) وطراد الكبيسي، والكاتب والناشر (حميد المطبعي). وقد أتانا بحثُ صادقٍ ذاكَ بمفاجأةٍ ذي دلالةٍ عميقةٍ عَلَّمَتنا الكثير. بعدَ يومٍ من نَشرِ البحث، أو يومين كما أذكر، ظهرَ العلاّمَةُ الوردي في مبنى (طريق الشعب)، في شارع السعدون، سائلاً عن كاتب البحث، راغباً بلقائه، والنقاش معه. من عَظَمةِ شأنِ العالم، وتواضُعِ الكبار فيه، أنه أسِفَ، أثناء زيارته ونقاشه، على عدَمِ معرفته واطِّلاعِهِ الكافيَيْن، من قبلُ، على المصادر الماركسية التي قام عليها بحثُ صادقٍ، خاصةً دراسةُ أنجلز الهامة في (أصل العائلة والمِلْكية الخاصة والدولة). العلاّمةُ الذي كنا نُصّنِّفَهُ، وفْقَ ما درجْنا عليه من تصنيفاتٍ طبقيةٍ صارمة، في تلك الأزمان، بأنه "مثقَّفٌ بورجوازي" علَّمَنا بحضوره المتواضع والبَهِيِّ ذاك، أنَّ النظَرَ لأشياء الحياة وظواهرها وتصنيفها في "خاناتٍ" نظريةٍ ثابتةٍ أبداً، لا يَصِحُّ دائماً، ويُقيمُ حيطاناً عاليةً بين الناس. هذا الدرسُ كانَ لصادقٍ ومقالهِ هذا فضلٌ فيه كذلك.
صادقُ الذي رحلَ عنا يظل، شأنَ أحبَّةٍ كُثْرٍ غادرونا، في ذاكرتنا. نفتَحُ أبوابَها ونمضي إليه حيثُ نشاء، ويأتينا هو حيث يشاء.