ادب وفن

ذل مباح .. حب مقدس : قراءة لقصيدة "أذلني حبا" ليحيى السماوي / رائد مهدي

"أذلني حبي
وجرحي الممتدّ من جدائل النخل
إلى أرغفةِ الشعبِ
أذلني حبي
وحينما حاصرني الطغاة ذات ليلةٍ
عبرتُ سورَ الوطنِ المذبوحِ
زادي : قلقي ..
وكوثري : رعبي
طوّفتُ في حرائق الشرقِ
وفي حدائق الغربِ
مطاردا
وليسَ من صحبِ
إلا بقايا من رماد الدارِ
من طين الفراتينِ على ثوبي..
فتشتُ في كلِ نفايات حروب القهرِ
عن مدينتي ..
فتشتُ ما بين سبايا العصرِ عن حبيبتي ..
فتشتُ عن طفولتي
وعن فراتٍ ساحرٍ عذبِ
وفجأةً
رأيتُ نخلةً على قارعة الدربِ
هززتها
فانهمرَ الدمعُ على هُدبي
وحينما هززتُ جذع الأرضِ
يا ربي :
تساقط العراقُ
في قلبي!
منذ عرفت البشرية الذل وهي تفهمه بأنه نوع من الانسحاب وقبول دور لا يراه المرء مناسبا له بل لا ينتمي اليه. والذل على نوعين منها القهري الذي لا مناص عنه ومنها الاختياري الذي بإمكان المرء ان يبتعد عنه ذهنيا على أقل تقدير. ولكن من الصعب جدا ان يعتز أمرؤ بالذل ويدونه تاريخا له على مرأى الأجيال. فقد يذل المرء بفقر لكنه يستعير من ذكراه وقد يذل أمرؤ لأجل شهوة فيشعر بالقرف من ذكراها وقد يذل أمرؤ من مرض فيتمنى لو لا يذكره. لكن الذل بالحب هو ذل مبرر فلأجل من نحب نتحمل الذل ولأن الانسان قد يمكنه مقاومة كل ما في العالم لكنه يضعف أمام من يحب.
ما أعظمك يا يحيى السماوي وأنت تحب العراق حد الذل، ما أروعك وانت تفتخر بذل الحب للوطن. هنيئا للعراق بحبك يا ابن العراق البار. وأذن لي أن أتحدث عنك من خلال نصك الذي هالني ما قرأت فيه واكتشفت فيك من الحب للوطن ما ضاقت به محيطات العالم وعجزت عن تعويضك عما تحن اليه وتشتاقه أيها العاشق المتيم بحب العراق.
وإذا نتقابل مع نص لا سابق له في قوة العاطفة التي تبدأ من مطلعه فنحن لا نواجه نصا شعريا بل إعصار من مشاعر يتهشم أمامنا فيه كل كبرياء وتكون نقطة انطلاقنا من التواضع والانحناء لقضية أول ما قال فيها الشاعر "أذلني حبي" فكان الحب عاتيا وبالغ الدمار يقوده الى جرح يترفع به صاحبه كسعف النخل التي تئن كلما يهزها هواء العراق تئن من فوق مترفعة لكنها تضيق ذرعا بذلك الأنين الصاخب فيهوي على بطونها التي تستحيل جمرا تشوى عليه ارغفة للشعب وإذ نحاول ان نلتفت إلى جانب آخر في هذه العاصفة العاطفية المهولة يلتف علينا من جديد ما أكده الشاعر ثانية بقوله أذلني حبي للمرة الثانية وهذه المرة تبدو معالم الشكوى واضحة من طغاة أحكموا الحصار وغرزوا أنياب الظلم في رقاب شعب العراق يبتلعون سلامه ويذبحون فيه الحياة فيتعالى شاعر النص من شعوره بالوجع ويتجاوز سور ذلك الوطن المغدور ويعبر حدوده مهاجرا إلى غيره حاملا في ذهنه عجائب من زاد قلق ويتدفق في قلبه نهر من رعب احمر يتخذ شكل الدم ولونه، ويسري الى كل جزء من بدنه كمسرى الدم في العروق، والى اين يقودنا ذلك الدم في ذلك الجسد الذي طاف على الدم لكثرة ما حمل في داخله من هموم الضحايا الذين ذبحتهم أيدي الطغاة ودماء المناضلين والأبرياء ودماء المقتولين بالحروب فلم يكن الدم يطوف حول عروق جسده بل هو من كان يطوف بجسده الذي تلسعه حرائق الحسرة على ما طاله من الشرق فيفر من غابة شرقية يابسة مشتعلة إلى حديقة غناء غربية لا تخلو من ذئب مهمته مطاردة الحملان والفتك بكل منشق ومنفصل من حضيرة الموت والتخلف،
ورغم تلك النقلة الكبيرة لكن الشعور بالغربة واللا انتماء يحضر ثانية وقد عبر عنه الشاعر قائلا "وليس من صحب" فكان رماد السعف حاضرا وشاهدا في أجمل الحدائق وكان يحمله الشاعر في جيوب قلبه وكان لطين الفراتين نقش لذكريات تلبسها الشاعر ثوبا لروحه فلم يكن أمامه من خيار سوى تقصي البديل والبحث عما يربط فيه ألمه ويرتبط معه مخففا عنه فكانت مخلفات كل الحروب حالكة بالفوضى وتعذر تمييز الهوية وكان الموت متشابها في تلك المدينة القصية بقلب الشاعر فلم يكن للحياة من منفذ لحبيبته "مدينته" وكان قد قارنها بكل مدينة منكوبة بالطغاة فلم يجد لحبيبته صورة مشابهة لنكبتها ففر من حاضره الى ماضيه لعله يجد فيه عزاء وطراوة لقلب مازال يعلق فيه سحر الفرات العذب الذي لطالما اروى ظمأه وبرد جسده فيه في صيف الوطن اللاهب وحينما كان يرهقه اللعب كان الفرات حضن ارتياح له وكانت ضفافه تمنحه قبلة السحر ليعود اليه بقدميه من كل وطن وليعود اليه عبر ذاكرته من كل زمن فقد اعتاد على المفاجآت كلما مر بالفرات ماضيا وحاضرا ولربما كان الفرات ملتقاه بمن يحب وقصة في قلبه متجددة عبر السنين وإذ هو سائر على ضفاف الفرات عبر ذاكرته يرى نخلة ليست في محلها بين الشجر ولا مكانها في وطن النخيل بل على قارعة الدرب وأي درب هو درب الهزات ومعلوم أن كل من يسير على هذا الدرب سيهزه الحنين لأنه درب تال لكل فجأة ومفاجأة و لابد ان يعقب الفجأة هزة لأن كل ما يفاجأ به المرء يهزه فكانت تلك النخلة حاضرة في دروب الذاكرة فتشابهت اوراق السعف فيها مع أهداب الشاعر ولأنه كان يستظل بسعفها من المطر النازل من سماء العراق فلم يجد الشاعر سوى اهدابه يستظل بها من دمع الحنين المنهمر ولأن جذع الحبيبة في أرض غير التي كان تقل الشاعر لذا ارتأى ان يهز الأرض بقدميه ليوقظ الأعين وليسمع الآذان ماذا يعني حب الأوطان وعشق الإنسان في كل زمان ومكان.
وحين تنفذ طاقة المرء وتضيق به السبل ذرعا لابد من باب يطرقه المرء برجاء أن يفتح له وينال منه خلاصا فنجد الشاعر قد قال يا ربي: قارعا على بابه ويا لهول ذلك القرع فقد تزامن قرعه باب الرجاء مع معاول كانت تقرع على العراق من كل جانب وكانت تتساقط اوصال العراق بيد العابثين ومعاول الهمجيين وحيث كانت الخرافة تنسف معالم العراق وكانت الكراهيات تحطم وجه العراق وتبدد معالمه تحت الدخان ولأن الشاعر كان يحمل العراق في قلبه الى كل وطن لذا كان يشعر بفجيعة ذلك التساقط الحضاري للعراق وكان يشعر بمعاول الهمجية وهي تنسف تاريخ العراق بأبشع النسف لذا كان العراق يتساقط في قلب الشاعر وقد يتساءل أحد عن سر تساقط العراق في القلب وهنا يكون الجواب أن ما يشيده المرء على قلبه لن يتساقط الا فيه وعليه. وهكذا احتضن شاعر النص العراق مشيدا ومدمرا في قلبه ولم يفرط فيه للحظة مهما كان او يكون.
وبعد تلك النظرة الخاطفة لنص الشاعر تتبلور أمامنا استنتاجات التقصي للنص فحب الشاعر كان جرحا وحصارا وحرمانا وطوفانا وغربة وذكريات محترقة وبقعا من غبار الزمن والاضطرار إلى البحث في الخراب وأحلام في غير وقتها ومفاجآت لم تكن في الحسبان وكل تلك الأهوال كان وطنها هو قلب الشاعر والذي كان العراق يستوطنه ولا يزال.
ونرى أن الشاعر قد وهب قلبه للعراق لأن الشاعر يرى في العراق المحبة والحضارة وارض ميلاده ووطن ابداعه و وطن حبيبته ومهد قيمه ومن فراته شرب الحب عذبا صافيا وتحت سعف نخيله له الف حكاية من حب، العراق كان للشاعر رمزا مقدس ولشدة قدسيته لم يجرؤ أن يضعه الا في قلبه ولا يقلب اوراقه الا على صفحات قلبه. وإذ نجد النص يطرح فكرة غنية بحب الوطن والانتماء اليه حتى الرمق الأخير ومع أن العاطفة في النص كانت جارفة كالطوفان ويكاد لا يقاومها منطق فكان الشاعر يحيى السماوي ساحرا في حبه للعراق ولا يملك المتلقي الا التعاطف مع تلك العاطفة الصادقة النبيلة والوقوف إلى جانب قضية الشاعر وفكرته التي تملكت إحساسه وهناك التفاتة بسيطة في النص حين قال الشاعر "تساقط العراق في قلبي" فلم يقل سقط العراق في قلبي ولم يقل أسقطت العراق في قلبي ولم يقل أسقطوا العراق في قلبي بل قال "تساقط العراق" وهنا يبعث برسالة مضمونها أن كل ما يتساقط فهو قابل للترميم وللبناء من جديد فهو يريد القول اننا محبو العراق وعشاقه نبنيه من قلوبنا التي يتملكها الحب حد الذل وأن العراق مستحق منا ان نذل لأجل بنائه وعودة وجهه الحضاري وطرد كل فكر ظلامي هدام يقتل الحياة فيه ويشوه وجهها. لكن هناك اشكالية واحدة وهي خاتمة النص التي وقف فيها الشاعر على تساقط العراق فكانت الصورة الشعرية الى التساقط وحسب أي ان الصورة كان فيها فقط جانب الانفعال وحسب فلا يجد المنفعل نقطة يهدأ فيها أو تخفف من غضبه لحب العراق والتعاطف مع قضيته وربما يكون الشاعر قد تقصد أن يجعل من النص انفعاليا بحتا ليجعل من نصه ثورة تهز ضمير كل العراقيين لحب وطنهم على شاكلة الأرض التي هز جذعها وتساقط العراق فيها بقلبه بسبب عدم التمسك وانعدام التماسك في ارضية ذلك الجذع الذي نشأ عليه العراق نخلة شامخة في التاريخ ترمى عبر الأجيال بالحجر ولا تكف عن العطاء. الشاعر عبر عن تلك النخلة التي كانت على الدرب وهزها وكانت النخلة بدلا من ان تساقط عليه من ثمرها الشهي أسقطت له دموعه لبؤس حالها وعقمها عن الإثمار نتيجة الوباء المنتشر في مناخ الفوضى العارم الذي يكتنفها .وختاما نقول لصاحب النص علمنا أنك كنت في غاية الكرم مع ما وهبت للوطن من مشاعر مقدسة زرعتها من حوله في قلبك السلسبيل ايها العاشق الجميل وابن العراق الأصيل نعتز بك ونضع نصك على قلوبنا محط الفخر ولتقر عيون الوطن بأمثالكم.