ادب وفن

رسالة من مارسيل خليفة الى عاصي الرحباني في ذكرى رحيله

سوف يأتي ونصطف
.. . " دقيت طلّ الورد عالشبّاك "
وأطل وجه أمي.
منذ خمسة عشر عاماً حين شاهدت وجهها للمرة الاخيرة وعدت بين البيوت صبياً ودّع غفوة أمه الى الأبد. تسرّب من إحدى النوافذ هناك صوت " فيروز :
" ماتت لشو تخبر، أنا ويّاك وحدنا، ياورد رح نبكي ".
البارحة رأيت مجدداً وجه أمي فودعته ثانية بوجه عاصي.
الاغنية نفسها رافقته وهو في طريقه الى تراب الورد.
لا أعرف كيف اختلط وجه امي بوجهك يا سيدي.
أهو الورد، أم نداه، أم برودة الجبين " لم المس جبينك، لكني ذقته بشفتي عندما كنت صغيراً في جبين " ماتيلدا "
" ماتيلدا " أمي.
لا أعرف سرّ هذا الشعور الذي انتابني وانت تغادر من بوابة المتحف. أحسست أن كل الشبابيك في المدينة فتحت، وكل بواباتها فتحت، وانت تعبر بوابة المتحف.
لا أعرف سرّ هذا الشعور لكني اذكر جيداً حين كنت أراك ذات يوم بعيد. أذكر وجهك جيداً حين يطلّ وتتحوّل الضيعة الى ساحة من ساحات أعيادك. كنت أحييك متهيباً إذ أني أعرف المقام وكنت شغفاً ومولعاً بحبّات النغم.
وحين كنت تغادر أعود الى وجه امي وأراه مشرقاً يحرضني على أجوبة لأسئلة كنت أقرأها في عيون " ماتيلدا ". اخبرها عن اطلالة عاصي عن كلامه عن ابتسامته عن نكته واخبرها عن تهيبي أمامه. فتذكرني بأن لي موعداً مع أستاذي فريد غصن في التمرين على العود.
إنني حزين حتى نهايات الاغنية. إنني حزين وما بوسعي إلاّ أن أنثر عليك وانت تعبر بوابة المدينة كل أغنية، كل ورد، أجمع من حقول البريّة كل العشب وكل الزهر وكل الشوك. وأركض صبياً حافي القدمين في عمشيت في جبيل في بعلبك في صور في القدس في بغداد في الشام في كل المدن والقرى لألملم حلمك واعيد نسجه وغزله كي ألغي كل بوابات المدن وكل الحواجز التي منعتني أن أمشي خلف جسدك " النبوي " أو أمشي الى البيت الاول الى بيت أمي. أركض في ضيعتك التي امتدت الى أطراف الخيال. أركض في ثيابك وفي يديك في اطراف اصابعك وفي عينيك في نطقك في عتابك في حنين وترك في الموّال البلدي مساءً في كلك. أركض الى الزمان لأعيد إليك كل شيء كان ينتظرك وأنت تمشي إلى الحب، إلى الفرح إلى الحرية.
لو عدت يوماً ومررت قرب الدرج الطويل الذي أرى فيه من بعيد كمدخل لمعبد قديم لقبّلت الحجارة والعشب ورحت أقرأ ـ حيث غفا وجه أمي ـ كل الشعر الذي كتبته ورحت أرتّل كل الالحان التي صنعتها ورحت أغني كل الغناء الذي أنشدته ثمّ كتبت على كل شجر " الكينا " وكل الشجر البرّي وكل حجارة الضيعة حلم عاصي وفلسفة عاصي. واترك الموج يمحو على الرمل ما كتب عليه حين رسمت باصبعي الطري دوائر وأشكال وكنت أرى في البعيد حلماً ووجوه وملائكة.
لو عدت يوماً الى هناك لنصبت الخيام.
لو عدت يوماً الى هناك لقرعت الطبول، وأقمت عرساً غجرياً ترقص فيه الكمنجات.
لو عدت يوماً الى هناك لأنرت مليون شمعة يحملها مليون طفل يمشون بها وبأكاليل الغار واغصان النخل والزيتون ـ كأحد الشعانين ـ من عمشيت الى الصحارى البعيدة ويكون القمر بدراً عند الزمان ووجه عاصي قمرا.
" حين بكى الطفل واراد أن تقطف له امه القمر أتت بدلو الماء وصوبته الى السماء، مدّ الطفل يده الى الماء فانكسر القمر. ضحك الطفل ثمّ نام "
ماذا تراك فعلت بي يا عاصي.
صحيح أن الولد ضحك ثم نام. أما أنا فبقيت ساهراً الملم تناثر القمر على وجه ذاكرة تموج كالماء الهارب من الولد ليغطي مساحات شاسعة من الزمن، يصبح ماء الدلو جدولاً نهراً بحراً ضجيجاً غناءً رقصاً سكراً عرساً وجعاً ناراً تصهر كل ما قسا فيّ وتحجّر، وتعيده جديداً ندياً نقياً مثل قربانة أولى أو مثل قبلة أولى.
أعود بالذاكرة الى الماضي لا لأجل اجترار الحنين، بل لأرتوي وارتاح واخزّن مؤونة قبل متابعة الطريق صوب المستقبل الذي أراه عبر الخنادق والدخان واضحاً عادلاً جديداً، كما اراده عاصي أو تصوره.
عودتي الى الماضي رقاد جميل لا يمنعني من الحلم الفاعل، من الحلم بوقت علني قادم لا محالة.
لعاصي قرأته يصقل مرآة للقمر على صفحة الماء. أتصوره يضحك كالطفل أمام انكسار القمر. هناك قدم أقوى من يد الطفل.
قدمك يا عاصي، تمشي على الماء وتصل ـ " ولو بعد مليون اشارة " ـ ونصير لا نفرّق أيهّم فتات القمر المكسور وأيتهم اثر أقدامك على صفحة الماء الوعر.
لعاصي، عدت صبياً حافياً يركض في الماضي، ولا يلبث أن يكسّر كل بوابات المدن والحواجز، وينير شمعة أبديّة في خاطر مدينة العمّال والبحارة والصيادين.
كل شيء قلته يا عاصي في حياتك جميل، جميل. كل بدويّة في كلامك، كل امرأة كل رجل كل طفل ثمّ كل الاشياء.
كل شيء عرفت أن تقطفه تمد يدك واحلى زهرة في البرية تسوّي منه باقة. تمد يدك وتعمر أجمل البيوت والحجر " صوّان " دائماً تبقي على الحلم الذي عشش في كل البيوت، لأنك ولع بالحرية مبغض للاستعباد. لذلك يا سيدي الانسان فيك والفنان المرهف لن يغادر حقول القمح والحصادين وبيروت والعمّال والبحارة.
عاصي أنت غني، غني، ورغيفك طيب المذاق وقوت لمن يمر بضعف العزيمة.
عاصي.
كلمة أخيرة
كلامك الكبير يجعلنا نخجل أن لا نحاول أن نكون، ولو لمرة، كبارا !
قلبي على جبينك البارد.
ودمعة على ترابك.