ادب وفن

فضاءات النص الروائي من نص التاريخ إلى نص الواقع / جاسم عاصي

المتخيل السردي
ثمة صيّغ كثيرة تعمل على توظيف وممارسة المتخيّل السردي، ووفق ضوابط ذاتية تنبع من داخل فعل النص. ذلك لأن ما هو متخيّل، سيكون فعلاً نصاً له دلالات زمانية ومكانية وبالتالي دلالة واقعية. فالتخييل سمة وفعل ذهني، يعتمد أساساً على المعرفة الشاملة، والثقافة الجدلية، أو غير المستقرة على ثابت جائر، يمحو حركة الذهن ويذوّب المعرفة والثقافة في قالب غير صالح للاستعمال. لذا توّجب ليس الآن، بقدر ما كان هذا ضمن حراك الروي والسرد عبر التاريخ. فما هو تاريخي يكون واقعي وفق رؤى حذقة وجدلية، تبتعد عن التراكم والترهل والمباشرة في ما يعنيه المتخيّل من خلال مفرداته. من هذا كانت نظرتنا إلى استعمال المتخيّل السردي في كتابنا "المجاورة والابتكار" يسير وفق مبداً التوظيف "المجاورة" والإزاحة "الابتكار" وبهذا نحاول العمل بحثياً ونقدياً ضمن حقل مصطلح التناص، ولكن برؤى ذاتية. ووفق هذا درسنا رواية " جهاد مجيد ، حكايات دوّمة الجندل" وسندرس رواية" أزمنة الدم" ليس من منظار مختلف عما تمت دراسته للمنتج العراقي حصراً، حيث مارس الكتّاب انتاج نصوصهم القصصية والروائية. فالمتخيّل السردي عند " مجيد" ينطلق من التوّفر على الحدث الذي ينطوي على ظواهر، ثم ربط هذه الأحداث والظواهر في نظام روائي، كان فعل التوالي في " دوّمة الجندل" قد أخذ بالنصوص على استقلالية، ومن ثم التوّفر على بعضها لإنتاج نص روائي. ومصطلح "المتوالية السردية" كنا قد اجترحناه مبكراً في عام 1996 وعام 1999في مجلة الأقلام الأعداد "2 ـــ 5،7 " وقد أشرنا بهامش للقصتين نُوّضح مثل هذا المسعى الإنتاجي في وقتها.
والروائي "مجيد" كان يسعى للكتابة الروائية على وفق هذا المصطلح في "دوّمة الجندل" أما في رواية" أزمنة الدم" فقد كانت الرواية نصاً كُتب وفق سياقات الكتابة الروائية المعروفة، غير أنه في ما خص المعنى، استفاد من وعي عملية التوليف والتوظيف لنص التاريخ، وحصراً نص الحقب الرافدينية. وقد اجتهد في مجال المخيّال لخلق وانتاج شخوص وأمكنة افتراضية، استطاع أن يضعنا من خلالها على ضفة النص التاريخي المستل من الوثائق ؛ بأن توّفر على وثيقة مدوّنة وهي "شاكر لازم اللامي ، سجلات ميزوبوتاميا القديمة ج1 ط1 " وقد ورد هذا في الصفحة "88" وسواها. لذا فنحن أمام مرجع تاريخي وإن كان افتراضياً. لقد شمل المتخيّل السردي مفاصل الرواية التي هي بالتراتب:
ــ تخيّل المكان ، وقد ابتدأ من نقطة بحث أركيولوجي، كان نموذجه باحث ومنقّب في الآثار ضمن فريق تنقيب. كما وأنه كاتب روائي، استطاع أن يتحرك ضمن حيّز المكان الذي نُقب فيه، كمنطلق لشحذ مخيّلته، معتمداً في بحثه وتنقيبه على ذاكرة مدوَّنة عائدة لـ "شاكر لازم اللامي" وبهذا فهو لم يخلق مكان روايته من فراغ، بل اعتمد الوقائع لرفد مخيّاله قدر ما استطاع، من خلال ايقاظ ذاكرة المكان، وتوسيع محيطها. بمعنى حوّل المكان من منطقته المفترضة، إلى حيّز واقعي نابع من وثيقة وطوبوغرافيا مرئية، وشواهدها ملموسة عبر عملية التنقيب والتوّصل إلى نتائج كانت مادة تداول النص.
تخيّل الزمان ، كما أن للمكان زمان، فقد حاول الكاتب في نصه، أن يمنحه زماناً ضمن التاريخ القديم. وهذا وفّر مساحة رافدة لمكانه بمعنى ؛ ما تتداوله الرواية، كان قد حدث في زمان ومكان، أكدته عمليات التنقيب، وما توّفر من مدوّنات. أي أصبح الواقع النص، واقعاً ثانيا افتراضيا، لكنه يُقدم أسسا لقناعات معرفية مضافة، بل شكّلت أسس انتاج النص.
ــ تخيّل الشخوص، كما أن للزمان والمكان صورة في النص، أي مجالاً حيوياً، فقد كانتا حاضنة لحراك الشخوص أو الحيوات الأخرى. وهذا بطبيعة الحال أنتج أفعالاً أنتجت ظواهر وصراعات محايدة وحادّة "عنيفة" في آن واحد؛ الأمر الذي انطوى على وجود الشخوص بأفعالها، عبر تشكيل دلالات موضوعية لزمن لاحق نعيشه الآن. من هذا أصبح التاريخ المفترض، جسراً لواقع راهن. ولأحداثه دلالات معاصرة.
ــ تخيّل الحُقب ، إن الحُقب بطبيعة الحال من صناعة انتاج الشخوص، فكيف ما كان الإناء، كان الماء. لذا كان لوجود الشخوص، وضمن حيّز زماني ومكاني، ساق هذا الفعل إلى أن تكون لهذا كله حُقبة تحرك فيه واقع النص. وفعلاً ومن خلال الوثيقة المفترضة، أنتج سمات حُقبة زمنية، كان فيها صراع الأضداد منتجاً لأحداث، وانبثاق الظواهر. لعل أهمها تصفيات الآخر المغاير. فكان القصد من تشكيل كهذا، أن يتوّفر على دلالات معاصرة. فالفعل الروائي في كل تشكيلاته، يرمي إلى تحقيق دلالات معاصرة. تماماً كما فعل في نص "دوّمة الجندل".
ــ العلاقات ، لما كان لكل وجود تلك التشكلات التي تطرقنا إليها، فقد كانت العلاقات بين الأفراد، والعلاقات بين الملك وحاشيته ورعاياه، ثم رجال المعبد، ورعايا المدينة المفترضة، كلها تنحو إلى حالة التوّتر، أي صراع الأضداد. وبهذا أنتجت صورة دموية، مارسها الأقوى على الأضعف. أي أن التوّتر قائم بين الحاكم والسلطة مع الرعايا وصفوّتهم الواعية من جهة، وبين رجال المعبد والصفوّة من جهة أخرى. هذه التناقضات أنتجت علاقات وتوّتر، أشّرت طبيعة الصراع الدائر في المدينة. وهو معبّر لدلالات معاصرة. مارسه الكاتب بهذه الطريقة أو تلك، مما أنتجت قناعات موّضوعية في جانب، وأصبحت معزولة عن ذلك في الجانب الآخر.
ــ استنطاق الصامت ، ونعني هنا أن كل ما هو مفترض، أنتج بفعل التنقيب الآثاري، حقيقة موّضوعية، استندت على وثائق حفر وتنقيب، وظهور شواهد وقبور، قُرئت بإمعان ودربة حرفية ووظيفية. وبهذا وضعنا الكاتب إزاء ظاهرة مهمة؛ هي محاولة استنطاق الصامت، أي الصلد، الحجر وقِطع الآثار، محوّلاً إياها بربط تاريخي مفترض إلى حياة جديدة، عبر إحالة الشواهد التي توّقف عندها التنقيب، إلى حقائق ناطقة، تتحرك وفق حيّزها المعرفي. مما أتاح للكاتب أن يوّظفها كحقائق تاريخية قديمة، إلى حياة جديدة تعيش أحداثها بيننا وعلى مرأى من نظرنا، سواء كان حراكها ضمن توصيفات عامّة، أو عبر خلق حياة جديدة لها، كانت مسرحاً لتداول المعلومة التاريخية كحياة مرئية، من خلال مكوّنات حيّة متحركة. كما لو أننا أمام شاشة تعرض لنا وثيقة تاريخية مصوّرة بدقة. فقد حوّل الصراع القديم بكل مكوّناته، إلى صراع معاصر بدلالته وتناقصّاته.
توظيفات متباينة،
ذكرنا ما مفاده ؛ إن اشتغال " جهاد مجيد" ينطوي على معرفة بخاصيات المتن الذي ينوي توّظيفه داخل النص، كذلك قدرته على خلق الدلالة المعاصرة من خلال تقريب نص المتن باتجاهات متمكنة من إقامة صلة ديمومة مع الراهن، حتى لو كان بالإشارة والعلامة التي تصطدم مباشرة بمعرفة المتلقي، وبقدرته الذهنية على خلق مواءمة بين ما هو مقروء، وما هو منتج، بما هو مقرون بالمعرفة الذاتي والموّضوعي. وبذلك يضعنا الكاتب بإزاء انتاج معادل موضوعي، من خلال فعل التلقي. وهذا ما فعله في رواية "دوّمة الجندل" عبر استدعاء مفاصل التاريخ العربي الإسلامي القديم، ثم خلق من خلاله حكايات التفّت على المكان " دوّمة الجندل" باعتباره مكانا توّفرت عليه الجغرافيا، وخلق منه فعلاً ضمن مدوّنة التاريخ. أما في رواية "أزمنة الدم" فقد توّفر على تاريخ قديم أيضاً، لكنه مختلف. ألا وهو التاريخ الرافديني القديم. غير أننا نرى أن فعل التوليف في رواية "حكايات دوّمة الجندل" كان أكثر توفيقاً، من حيث ترك الحكاية تخلق دلالتها، والابتعاد عن المباشرة في الدلالة. إذ نجده في الرواية هذه ، يعمد إلى ليّ صورة التاريخ باتجاه دلالتها. غير أن الذي يشفع للكاتب في هذا العمل والذي سبقه، كوّنه اعتمد على مخيّال ثر. وقدرة على خلق الصورة التاريخية، ومن ثم خلق وشائج "السدة واللحمة" لأحداث روايته. إن اشتغال " مجيد" يلتم في محوّر، بعد أن يدور على محاور. هذه المحاور تدور على بعضها من أجل خلق محوّر مركزي، ولعله في هذا يُساير مجموعة من ثوابت متحركة ذهنياً. أي حركتها مرهونة بحركة الحيوات داخل النص. معتمداً في ذلك على جدلية الوجود، والصراع ضمن حياة النص. فالسرد ينغمر في التخييل المنبثق من حركة الواقع، وذلك بفتح مجالات التخيّل، أي تحويل ما يراه في الواقع إلى ما هو مرتقب ومتصوّر. أي أنه يُفعُل المتخيّل لصالح واقعية النص، بدلالة رموزه ومفرداته المتعددة. فتلقي النص يعتمد حقيقة متواصلة تقول: أن لا شيء يُذكر في النص بريء من التأويل. أي لا يُذكر لذاته، بقدر ما يرد لذات أخرى، تُعمق الصورة الذهنية لاستيعاب مفاصل الواقع. فرمزه المكاني والزماني وبنية الشخصيات موّظفة لصالح المشهد الجاري من أحداث. كذلك تمركّز النص لديه في تيمة البحث، فإذا كان في "حكايات دوّمة الجندل" قد تمركز في البحث عن مدينة، ففي" أزمنة الدم" كان البحث عن دالة للمدينة، ولكن من خلال فعل التنقيب الآثاري، ومن ثم شحذ الذهن السردي باتجاه خلق عالم واقعي. وهذا يتم عبر تفعيل صورة الماضي، وخلق حيوية جديدة، أي تحويل الساكن "القطع والشواهد والأمكنة الأثرية" إلى حيوات يستنطق لسانها ويحييها بالسرد المتزن والمتوازن عبر مخيّال معبأ بجدلية الصراع، سواء في التاريخ القديم، أو ضمن حركة المُعاصر من الأحداث. أي أنه يحاجج الواقع بدلالات التاريخ. وله في هذا تخيّل اعتباري يتكئ عليه في انشاء نصه.