ادب وفن

الشعر... والتنوّع / جاسم عاصي

الشاعر أياد حياوي كتب الشعر بتنوعاته" العمودي، التفعيلة، النثر، وله في كل نوع منها إمكاناته الفنية. فهو شاعر أتقن حرفة أوزان الخليل، وخلق إتقانه لذلك أذناً موسيقية مرهفة، استطاع من خلالها أن يخلق إيقاعا ً وهو يكتب قصيدة النثر. كذلك جرسا ً موسيقيا ً رحّله من نبرة البحور التي كتب بها شعره العمودي. وله قرابة واضحة ونفسية ببعض البحور التي تنحى بالمشهد الشعري إلى النبرة المتلاحقة، والإيقاع المتتابع كبحر السريع والخبب والمتدارك مثلا ً. إن وضع سياق القصيدة تحت مهيمنة وزنيه كهذه تعني مجاراة البعد النفسي الذي يخلق مزاجا ً تهيمن عليه الحساسية الشعرية. وهذا مرتبط أساسا ً بالأجواء النفسية التي تكتنف القصائد، أو الشعر الذي يكتبه الشاعر عبر أزمنة متباعدة. ما تكشفه قصائد الديوان" مؤونة الكلمات" خير دليل على ذلك. فالمؤونة عدة المسافر، أو الذي وقع تحت وطأة ظرف ما، يحاول أن يدخّر ما بوسعه للسيطرة على ما تنتجه تلك الظروف الجارية نحو قابل الأيام. لذا فمجاز التعبير في هذه الثريات توحي بمباشرة وبغير مباشرة إلى نوع الظرف الآني من جهة، ما تحاول الذات استيعابه في ما بعد تلك اللحظات غير المرهونة بطول الزمن أو قصره من جهة أخرى. وهذه دالّة على وجه خراب مضمر. لذا يلجأ منذ العتبة هذه إلى ادّخار الكلمات التي يتنبأ بندرتها، لا بكميتها ووجودها اللساني، بقدر ما تكون ندرتها مرهونة بصلتها الأخلاقية في وجود الذات والآخر. فالشاعر بإزاء أزمة وندرة أخلاقية ترشحها دالة الكلمات، إذ تؤشر طبيعة المنظومة الاجتماعية بخاصّة والإنسانية بعامّة. وهذا يرتبط أيضا ً بالعتبة الثانية، وهي" الإهداء" حيث تكون شارحة ومؤكدة على ما جاء به العنوان من معان. فهو إذ يُشير إلى الأفق الممتد، ليقدم له مشهده الشعري إهداء، إنما يشير إلى زمنه الماضي الذي وصفه بـ"المبهم" ولحظة تشبيهه بالطائر، إنما يؤكد على ذوبان الزمن المنصرم على عجالة، أي دون معنى. من هذا نراه يُدين الأزمنة المنصرمة، لأنها تعاملت مع ذاته بصرامة الوجع، التي يصفها بالأغنية التي ارتبطت كصدى بمداد الدم الذي يكتب به كلماته. من هذا يُحيلنا الإهداء إلى العنوان، ليستشرف التأكيد على قيمة الكلمة، ومحرابها القيمي.
أما العناوين للقصائد ؛ فهي تصب في المنظومة ذاتها التي اجتمعت عليها متون القصائد وهي تحاول كبنية أن توحي بما سوف تتناوله القصيدة بالرغم من استقلالية بنيته:
ــ أباريق، في العنوان نكهة دالّة على مطلق أو مضمر في طبيعة ما تحويه تلك الأباريق.
ــ احتضارات مغترب ، جمع مُسقط على نوع إنساني تحوّل به المكان.
ــ ارتباك الصوت ، مجاز بلاغي من خلال إضفاء حال على مطلق.
ــ حكايات البيادر ، ثنائية موفقة بنيويا ً، لأنها جمعت بين دالين على النماء والتجدد
فالحكايات تضمر سحر السرد والوصف. والبيادر الخير والخصب.
ــ أفياء أزقتي ، فيه ألفة جامعة بين طبيعة الأزقة وما ينتظمها من علاقات، وبين
الفيء الذي هو محطة لاستراحة الإنسان من العناء. هذه الحميمية يتوسل بها لكشف خلل الحاضر.
ــ أعالي الرماد ، جملة مبالغ بها تكشف هيمنة الاحتراق.
ــ الأرض ضياع، كشف لصورة مناهضة للحقيقة، ونعني بها حقيقة دالّة الأرض التي تقترن بالضياع.
عموما ً ومن خلال هذه العيّنات من العناوين نستطيع أن نستوضح مدى العلاقة بين العتبة والمتن من جهة، وبين عتبة القصيدة ومعانيها. الأمر الذي يرجح الجهد الذي يبذله الشاعر، سواء كان هذا بقصدية أو من خلال الحس الشعري الذي يقود إلى تشكيل هذه البنية الاتصالية.
في مجال المعاني، نرى أن الشاعر يدخل إلى معنى عام من خلال توزيع الرؤى الشعرية، التي يُدرك من خلالها طبيعة الحالات الإنسانية، لاسيّما، أن رهافة الحس ومقدار الألم والتوجع، تقرّب شعره من تأثيرات أدب المهجر في الشعر وأجواء وفضاء مجمل الآداب التي كتبوا بها، فمرجعيته الشعرية مزيج من قراءات متنوعة، سواء لأدب المهجر الذي يتقارب حسيا ً ونفسيا ً من فضاء الشاعر، حيث ينعكس على شعره. كذلك مرجعيته في الشعر العربي قديمه وحديثه. أما الاغتراب في شعره، فهو ذو طبيعة نفسية أخلاقية، تتعلق بالقيّم الاجتماعية. وهذا الحس ينتظم ضمن سياق ميثولوجي محرّك، لكنه يبقى خفيا ً. ذلك لأنه كشاعر متأثر بوقائع التاريخ، وما قدمته الرموز الإنسانية الكبيرة من تضحية. وله في واقعة الطف مثالا ً لفعل تاريخي، ومديات للشهادة، وإحقاق صوت الحق. فهو يتعامل مع الكل، أي مع مجمل من كتبوا الواقعة بالدم، ومع الأجزاء من اعتبار تقديم النموذج. لكنه موصول بأسس النظرة الميثولوجية التي وضعت نظرته لنشأة الكون والوجود، فقوله:
{ حين استنشقت رائحة
التراب بعد هطول المطر
أيقنت بعودتي }
وهذا افتتاح لوضع الخطوة باتجاه رؤية التكوّن الأول، فالتراب اشتقاق الإنسان، والماء سر التكوين، واتحادهما من منطلق الأسطورة تشكل الوجود الأول. والشاعر هنا يزاوج في تشكيل الوجود بين الحس الأسطوري والحس الديني" و جعلنا من الماء كل شيء حيّ ) و( كان الوجود فراغا ) فاتحد الآبسوبتيامات. وهو يعود إلي تلك النظرة في القصيدة حيث يذكر :
{أفلت إجاباتي لتكتب حيرتي متأملا ً كيف الرجوع إلى التراب }
ولعله مولع بسر الوجود، ومعالجته لكثير من المنطلقات من باب الاقتراب من الحس الوجداني الديني. فنظرته للظواهر أخلاقية بحتة، وتشوفه للخلاص تشوف صوفي، مما جعل شعره منطويا ً على وصايا للآخر خاصة الأبناء، أي إلى من يكون في قابل الأيام كما في هذا البيت :
{ يا صغيري أجمل الأحلام أن توعد بالأشياء }
ويعني أن توفر لنفسك الصبر، ولا تبتعد عن ما تريد ابتغاءه. ولعل خلاصة رؤاه كشاعر يبدأ من حيث انتهى الواقع بكل ما عليه. فما عليه هو سوى النظر بصفاء. فشعره بالرغم من غضبه ورفضه القيّم المهيمنة، إلا أنه لم يكن حادّا ً كثيرا ً، بل مولعا ً بنمط لوصيته المخلّصة للنفس الإنسانية.
في قصيدة" احتضارات مغترب" يتناول الاغتراب من اعتبار الانفصال عن التاريخ السري مع المكان وحيواته. لذا فهو اغتراب ينطوي على حنين، وخالق لرهافة الحس الشعري. والمُهاتفة فعّلت الكثير من هذه الأحاسيس. فالنص يقترب من الأداء المسرحي بما احتواه من حوار يتطلب الأداء لو أتيح المجال لتطويره، فيمنح القصيدة أصواتا متحاورة. تحمل همَّ المغترب عن وطنه، ضمن مفارقات بين الأم وولدها. يفتتحها بمشهد عفوي من خلال الهاتف:
{ ألو.. ألو من ذا يكلمني لعلك جدتي
أو من.. فقولي }
وهذا الافتتاح يتيح للحدس إدراك المُهاتف، فتنبري انثيالاته:
{ أمي فديتك مهجتي
ما أعذب الكلمات منك حبيبتي
أنا ابنك
أنا من يقطّعه الرحيل }
تفتح القصيدة مجالها الحسي لتستقبل صورة المكان والطقس الديني وشعيراته، تلك التي تشكّل بواكير وعي المخاطِب إزاء المُخاطَب. فالولع هنا ينطلق من المكان بكل سريته وتاريخيته. وهي قصيدة تستحق التطوير لتكون ممسرحة.
إن قصائد الديوان تحفل بالتنوع في الرؤى والانثيالات، وقد اكتسبت أحقيتها من توالد الهم الجمعي عبر أنا الشاعر، الذي اكتظت ذاكرته بالصوّر، واحتشدت شعريته بالرموز التلقائية مستدرجا ً عاطفته الدينية الجياشة، ملبيا ً صوت الصفاء الذي يرمي بناء الحياة الجديدة. الشاعر مهموم بتردي الواقع، لكنه لا يقع في فخ المباشرة، بل يتعامل بحذر، كما لو أنه يطوف حول قارّات يحاول اكتشافها. بالموعظة والصفاء الروحي وتأنيب الذات الخطاءة.