ادب وفن

بمناسبة مرور 6 أعوام على رحيله محي الدين زنكنة.. الحاضر الغائب / عبد الكريم جعفر الكشفي

في صباح يوم تموزي حار كنت في مأتم احد الاحبة، واذا بهاتفي يدق على غير عادته، وعندما تفحصته واذا برسالة من صديقي العزيز ابراهيم الخياط تقول: الكاتب الكبير محي الدين زنكنة يرحل الى دار الخلود، اسودت الدنيا في عيني وزادني هذا الخبر المؤلم شجنا على شجن، وسيدخل تاريخ 21/8 من كل عام احد قواميسي وسيبقى هذا التاريخ علامة مؤلمة في حياتي.
في اليوم الثاني شكلنا وفدا باسم اهالي ديالى الكرام لحضور مجلس العزاء المقام في محافظة السليمانية، ضم كلا من المربي والشخصية الوطنية صلاح وهابي وكاتب السطور، وصادق الدر ابو احمد وجعفر عباس الدر والحاج جاسم المهداوي ووفدا من محلية ديالى للحزب الشيوعي ضم كلا من اعضاء اللجنة المحلية في ديالى وهم موفق الشيباني ابو علي، ومهدي مراد والكاتب المعروف كريم الدهلكي، حيث قدمنا باسم أهالي ديالى المواساة الى نجل محي الدين زنكنه ازاد .
انت فعلا تستحق ان اذرف الدموع مدرارا بحقك وتستحق ان اكتب عنك حتما اشعر بتقصير عندما ارثيك بقلمي المتواضع، فعلى مثلك فليبكي الباكون يا ابا ازاد انت الحاضر تبكينا والغائب تبكينا لهموم شعبنا من وطأة الحياة على هذا الشعب المكافح، استذكار هذه القامه الباسقة وهذا الطود الشامخ قنديل كردستان ونخلة ديالى الباسقة هذه القامة التي اولدتها كركوك وغذتها وأصلبت عودها بعقوبة الخضراء، اعرف ان روحك ودماءك تجري في بعقوبة والتي احبتك واحببتها واعطتك الكثير واعطيتها الكثير.
تعود علاقتي بالكاتب العراقي الكبير محيي الدين زنكنة إلى عام 1990حينما كنت اصطحبه الى شارع المتنبي مع صديقيه صادق الدر ابو احمد والحاج خالد عبد الرزاق ابو الوليد، وكنت ازوده بين الفينة والفينة بالكتب المستنسخة الممنوعة عندما كنت بائعا للكتب في شارع المتنبي رئة العراق الثقافية وقد جمعتني به أمسيات عديدة في ضيافة الاخ والاستاذ الكبير صلاح وهابي المعروف بكرمه وثقافته وشجاعته، وكنت التقيه ايضا عند صديقه وتلميذه النجيب مذ وطئت قدماه بعقوبة نهاية الستينيات قادماً من كركوك، الكاتب والمسرحي اللامع صباح الانباري حينما كان الأنباري يعمل مصوراً فوتوغرافياً في استوديو الامل في بعقوبة مطلع التسعينات، والذي له الفضل في جمع وتوثيق كتابات ومسرحيات وروايات محي الدين زنكنة.
لقد كان ابو ازاد دمث الاخلاق حلو الحديث طيب المعشر، متحدثا لبقا، حاضر النكتة، واسع المعرفة، واضح الفكرة، يسحرك بحُسن إدارته الحوار، وبتدفق كلماته التي تنساب بقوة وهدوء وسلاسة. بالمقابل كان جم التواضع في علاقته بأصدقائه وجيرانه ومعارفه. كان يترفع عن الصغائر ولا يحب مخالطة أصحاب السلطة إلاّ من كانوا من أصدقائه، وكان زاهدا بالشهرة، جدا ولعلّه من أكثر أدباء العراق ابتعاداً عن الأضواء، لكن هذا الواقع لم يمنعه من عمله الإبداعي، وان يقّدّم نفسه بنفسه وليس بحاجة إلى وسائل ترويج ودعاية ولهذا بقي شامخا في ذاكرة الثقافة العراقية والعربية.
لكن هموم شعبه ومعانته جذبته الى الواقعية الاشتراكية في الأدب فاقتحم الساحة الادبية بصورة واضحة هو ومجوعة من زملائه في كركوك والذين عرفوا بجماعة كركوك الذين تبنوا الواقعية الاشتراكية وفكر اليسار ،وان جماعة كركوك الادبية 1964 ـ 1968من أكثر الجماعات الأدبية التي ظهرت في العراق المعاصر شهرة، وإنتاجا، وتأثيرا وقد ضمت هذه الجماعة نخبة من كبار ممثلي الحركة الثقافية العراقية شعرا ونقدا وقصة وفنا تشكيليا وترجمة ومقالة، والتي ضمت جليل القيسي، ومحي الدين زنكنة ،وفاضل العزاوي، ومؤيد الراوي وسركون بولص، وجان دمو، ويوسف الحيدري، وصلاح فائق سعيد، وانور الغساني، ويوسف سعيد وفاروق مصطفى وكان القاسم المشترك الأعظم الذي جمع هؤلاء المثقفين تحت مظلة أدبية واحدة هو روحهم التجديدية، وقد ازدهرت هذه الجماعة ازدهاراً كبيراً في بداية الستينيات من القرن الماضي تبعاً لازدهار حركة اليسار العراقي والعالمي بوجه عام، وبات للأدب الواقعي القصصي والروائي رموزه ومنابره ومجلاته ، ففي بغداد كان من رموز الأدب الواقعي والداعين إليه غائب طعمة، وفؤاد التكرلي وصلاح خالص، وعبد الرحمن مجيد الربيعي وجمعة اللامي وآخرون، وفي بغداد اصدرت مجلة الثقافة الجديدة وفي لبنان حملت مجلة الطريق ومجلة الثقافة الوطنية ومجلة الطليعة في الكويت ومجلة الآداب اللبنانية، لقد نشرت هذه المجلات الكثير من نتاجات هؤلاء الجادين منذ بداية الستينات. رغم الازدهار الذي عرفته الواقعية الاشتراكية في منتصف القرن الماضي على وجه الخصوص، فإنها كانت موضع انتقاد ومحاربة كبيرة من قيل التيار العروبي وادعياء الثقافة لكن مع الاسف الشديد وفي نهاية العقد الاخير من القرن الماضي شهدت الواقعية الاشتراكية في الادب انحسارا كبير بسبب حالة الانكفاء الكبيرة التي شهدتها الحركة اليسارية وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق نصير الشعوب المستغلة، حيث لم يعد لها اليوم مروّجون أو أنصار على النحو الذي كان لها في الماضي، فكأنها كانت في ساحة الأدب صدى لما كان في ساحة السياسة والإيديولوجيا من سيادة للاتجاه اليساري النضالي والوطني، لكن الساحة الادبية لا يمكن ان تنكر فضلها على عموم الادب والثقافة العالمية .
آه وكم آه يا ابا ازاد لقد كنت نعم الاخ الحنون، والصديق الوفي والانسان المناضل المبدئي صاحب القلب الكبير والاخلاق الجمة والتواضع المعهود ،لقد كنت حتى سكن خافقك الكبير وتداعت نياطه وسرى بك الداء الوبيل تحمل عذابات الشعب وهموم الوطن وحتى الرمق الأخير وبكل صبر وجلد وطول اناة وخاصة بعد رحيل الاحبة وسيطرة خفافيش داعش على بعقوبة الخضراء والذي كان سبب رحيلك عنها، لقد كنت عصاميا كبيرا تكحلت بمحياك الاجيال... لقد كنت تكتب وتناضل وانت تصارع المرض وتلوك الالم... فوا أسفي وحزني عليك فقد فارقتنا ونحن لم نزل ظمأى لكتاباتك ورواياتك ومسرحياتك ودوحتك الوارفة التي تفيض علينا حنوا وتوددا....لقد كانت مسيرتك الوضاءة مسيرة مناضل واديب لامع اضاءت لمرحلة كاملة وفضحت ممارسات نظام البعث المجرم ضد الفكر الوطني والمبادئ السامية، لقد عشت في وجداننا وضمائرنا الى ان اغمض الموت عينيك الضاحكتين إغماضة مطلقة احتضنت بها عالم الخلود لقد كنت مرآة مجلوة على حب الناس والوطن حتى لفتك الاكفان نم قرير العين يا ابا ازاد في عالم اللا عودة، وان الاجيال الحاضرة واللاحقة سيذكرون مفاخرك وكتاباتك ونضالك العتيد، ولا بد للجراد الاسود الذي حل بعراقنا الجريح ان يرحل وسينهض شعبنا الابي من كبوته لأنك انت ورفاقك سقيتموه من عصارة جهدكم وافكاركم النيرة....ختاما يا ابا ازاد لقد بكتك الجوارح قبل المقل ورثتك الحنايا قبل اليراع وسنبقى سائرين على دربك ولن تخيفنا صوارم التكفيرين القتلة ودسائس اعداء الشعب، وساسته الجهلة التي اتعبتنا اميتهم وتصرفانهم البائسة التي وضعت الثقافة وكل ما هو منير تحت حذاء سلطتهم الثقيل.
نأمل ان تكون هذا الخسارة خاتمة احزانا ومنتهى خطوبنا، فطوبى للأرض التي انجبت واحتضنت انسانا طيبا ومناضلا كبيرا اعطى للوطن كل ما يملك، سلام عليك انسان تحمل كل معاني الانسانية الرائعة وسلام عليك راحلا.