ادب وفن

التشكل التداولي لعناوين روايات "الركابي" أنموذجا .. الخطاب السردي من منظور تداولي / قراءة: داود سلمان الشويلي

من القضايا المهمة التي تناولها النقاد واللغويون في دراساتهم وبحوثهم هي قضية المعنى، وقد اجتهدت المناهج المتداولة في الشرق والغرب -القديمة والحديثة- في الوصول الى المعاني الكامنة خلف التراكيب والبنى اللغوية. وجاءت التداولية، أي: "العلاقة بين العلامات ومستعمليها" كمنهج وآلية فحص وتحليل الألفاظ المستعملة في النصوص الأدبية، ولدراسة هذه العلاقة، ان كانت في ذهن الكاتب او في ذهن المتلقي. فقد وجدنا من المفيد أن ندرس عناوين الروايات في ضوء هذا المنهج وما يحمله من آلية للفحص والتحليل، أي كيف استعمل الروائي اللغة في العناوين، وقد اتخذنا من روايات الكاتب عبد الخالق الركابي نموذجاً لما نريد دراسته، لما تشكله رواياته من تميز في السرد العراقي والعربي من خلال تميزها في الكم والنوع الابداعيين.
التداولية التي نعنيها هي طريقة، أو آلية لفحص الخطاب الادبي وتحليله لما دعته الحاجة الى تفسير الظواهر اكثر من وصفها، لأن الملفوظات اللغوية الحاملة لمحمول العنوان لا يمكن تتبع حركتها الا من خلال ارتباطها بالعملية التواصلية. وقد وجدت ان الوقت قد حان لأدرس عناوين الروايات في ضوء هذه الالية من خلال دراسة الأدلة اللغوية وهي تتصل بظروف استعمالها لمعرفة كيفية نهوضها في التعبير عن الكل الجامع لأحداث الرواية هذه او تلك، ومدى قوة التأثير التي تصيب المتلقي وهو يستخدم هذه الملفوظات اللغوية "العناوين" واتصالها بأحداث الرواية.
ستعتمد الدراسة هذه على غايتي الخبر والانشاء.
فالأسلوب الخبري هو ما حصر بمفهوم الصدق والكذب، أي بما يقدمه الكلام الخبري من صدق او كذب. اما الاسلوب الانشائي، فهو الكلام الذي لا يحتمل عليه الحكم اثباتا ونفيا، أي الكلام الذي لا يقال لصاحبه انك صادق أو كاذب.
أطلق الركابي على رواياته عناوين متعددة ومتنوعة، منها الذي يتشكل من عمل قولي "لفظ" واحد "الراووق"، ومنها من لفظين كما في روايتي "اطراس الكلام وسفر السرمدية"، ومنها من ألفاظ ثلاثة، ومنها من أربعة ألفاظ.
عنوان روايته "الراووق" يتكون من لفظ واحد، وهو خبر لفعل كلامي دلالي، ودلالته هو ما سنتعرف عليها عند قراءتنا للرواية، فمعناه السجل الذي تسجل فيه الاحداث التي كتبها احد ابناء عشيرة البواشق، الا انه فقد، فيبدأ البحث عنه، ومن خلال هذا "الراووق" سنتعرف عن اصول العشيرة، ومن ثم الصعود بهذه الاصول الى القادم من الايام، حيث التثوير، والوصول الى ثورة العشرين، وما قامت به هذه الثورة العراقية الكبرى.
الرواية تدور حول مخطوطة "الراووق" التي تشكل العمود الفقري لروايتين تلتا هذه الرواية وهي روايات: "قبل ان يحلق الباشق" و"سابع ايام الخلق" وهذه الروايات تشكل ثلاثية تتحدث عن مخطوطة "الراووق" التي تنوقلت عبر الاجيال، ودوّن فيها اناس عديدون، ستة وسابعهم الراوي، وعن مدينة "الاسلاف"، والجد الاكبر "مطلق"، حيث تتخذ هذه الثلاثية التاريخ اسلوباً لها في الطرح السردي، الا انها لم تكن تاريخاً.
أما عنوان "قبل ان يحلق الباشق" فإنه يتألف من اربعة الفاظ هي "قبل" و"ان" و"يحلق" و"الباشق".
لنتساءل: ماذا حدث قبل ان يحلق الباشق؟ احدث شيء ما، ام انه لم يحدث؟ واذا حدث شيء ماذا علينا ان نفعل؟ واذا لم يحدث فماذا علينا فعله؟ فهل ظل الباشق طائرا محنطاً، ام ان عشيرة "البواشق" قد طيروه عاليا؟
أحداث رواية "سابع ايام الخلق"، وعلى الرغم من بنائها الالف ليلي، واسلوبها الصوفي، تتناص خفياً مع اسطورة الخلق في كل الديانات، والفاظها معروفة لنا جميعا، الا انها تفترق عنها بأنها تبحث عن اصل شيء ضاع، الا انها تشكل الجزء الثالث من هذه الثلاثية. ان العبارة الثلاثية الالفاظ استعملت بطرق مختلفة سابقاً، ان كان ذلك في الاساطير او الكتب الدينية.
و"سابع" هو اليوم الذي ارتاح فيه الاله من خلقه للعالم والاشياء كما في اسطورة الخلق في كل الديانات، ومنها الاسطورة السومرية، فتأتي هذه الرواية لتغلق الحكاية على ما قدمته روايات الثلاثية من احداث واشخاص، ورؤى اسطورية او واقعية.
والطريف ان نذكر ان هناك ستة رواة في هذه الرواية يتناوبون على تسجيل الاحداث ويأتي الروائي/ الكاتب، وهو السابع، ليكون المهيمن على الرواية، وهذا تناص مخفي بين اسطورة الخلق وبين هذه الرواية.
يمكن ان نضع الاحداث المروية من قبل الرواة الستة في هذه الثلاثية في جدول طوبولوجي يضم ثلاثة رواة شفاهيين، وثلاثة كتابيين، اما السابع فهو مؤلف الرواية التي بين ايدينا، وهذا الجدول هو الاتي: الراوي الاول عبد الله البصير. والثاني مدلول اليتيم. والثالث عذيب العاشق. والرابع السيد نور، والخامس ذاكر القيم. والسادس: شبيب طاهر الغياث. والسابع: المؤلف.
اما العناوين التي تتكون من لفظين، اي علامتين، مثل "اطراس الكلام، وسفر السرمدية)" ففيها الاطراس تعني الكلام الذي ستقدمه الرواية، والسفر تابع للسرمدية.
و"طرس" بمعنى الصحيفة المكتوبة والتي تمحى ويكتب عليها مجدداً، وهي في هذه الرواية الاوراق التي وجدها بطل الرواية في صندوق جده، وكانت الورقة الاولى قد كتب عليها عنوان "طرس الكلام"، ومعنى ذلك ان الارث قد عاد اليه، وكأنها ملكية الاب والجد قد انمحت وصارت للابن، لهذا فإن البطل نجده يقول في نهاية الرواية انه سيكتب روايته المنتظرة.
اما رواية "سفر السرمدية" فإن سفر معناها كتاب، وسرمدية معناها "دوامٌ لا بدء له ولا نهاية"، فيكون المعنى الجامع هو "الكتاب الذي لا بدء له ولا نهاية". إذ ان السرمدية هذه هو بقاء كل شيء كما هو، ان كان في الماضي اوفي الحاضر. فها هي الرواية تحكي عن شخص مطلوب منه الدخول الى 39 غرفة ويترك الغرفة الاربعين، وهو ما نجده في حكايات الف ليلة وليلة، وتبقى هذه الغرفة سرا من الاسرار الذي يجب الكشف عنه بدخولها. وكذلك نرى فيها الحديث عن كتاب "الكلمات والاشياء" لفوكو، والحديث عن لوحة "الوصيفات" للفنان فلاسكيز التي شارك فوكو في الحديث عنها ووضعها في الغلاف الاول. كل هذا يفسر لنا لماذا وضع العنوان هذا لروايته، انه الحديث عن الانسان الذي لا أول له ولا آخر.
وعنوان "مقامات اسماعيل الذبيح" تتكون من الفاظ ثلاثة، الاول جمع مقام وهو الحال، واريد به ما يشبه مقامات الحريري، والثاني اسم تأتي بعده صفة، فيكون عند ذاك بمعنى: هذه احوال اسماعيل الذبيح، والعنوان متناص مع النبي "اسماعيل" الذي اراد ابوه ذبحه قربانا للإله، ففدي بكبش.
وربما جاءت "مقامات" بمعنى المقام الصوفي الذي يصل اليه المتصوف للتقرب من الحضرة الالهية، كما رأينا في دراسة سابقة، الا ان الركابي قال في تعليق له بأنه يريد به ما يشبه مقامات الحريري.
و"الذبيح" هي الكنية التي اطلقها عليه "كامل الاطرش" والتي تتشابه ومراحل حياة اسماعيل الرواية، وحياة اسماعيل القرآني، مثل: ميلاده بعد كبر والديه، والهجرة القسرية له ولامه ، ومحاولة ابيه ذبحه، وغير ذلك من الاحوال والمقامات التي مر بها كما تذكر المصادر المحايثة للقرآن.
وعنوان روايته الاولى "نافذة بسعة الحلم" يتكون من الفاظ ثلاثة ايضا، هي: نافذة، بسعة، الحلم. وقد اختزلت دلالات الرواية كلها، فكأن هذا العنوان هو نص صغير اراد منه المؤلف ان ينوب عن النص الكبير "الرواية" الا انه يبقى قاصرا عن ذلك ما لم نقرأ النص الكبير.
وعبارة العنوان تخبرنا بجملة مفيدة تتكون من عبارتين، الاولى هي نافذة، والنافذة هذه يمكن ان تكون نافذة حقيقية او نافذة مجازية، ولا يمكن معرفتها لوحدها ما لم تتصل بعبارة اخرى هي: "بسعة الحلم"، والحلم في هذه العبارة مجهول العائدية والمنشأ.
واذا كانت نافذة الركابي تتسع للحلم المفتوح على سعته الى ما لا نهاية، فان موضوع الرواية الذي يمتد على مساحة نهار كامل ويضم تاريخ السنوات الست التي بين الحربين، من عام 1967 "حرب حزيران" ولغاية حرب تشرين عام 1973، وبهذا تنشأ المفارقة المضحكة والمبكية في آن واحد، والتي تختبئ في مكنون الرواية، بين زمن الرواية "نهار كامل" وبين ست سنوات، وايضا بينهما وبين عنوان الرواية الذي يفتح نافذة بسعة الحلم. وقد توضحت قدرة الروائي على السيطرة على هذه الازمان الثلاثة، نهار يوم، وست سنوات، والحلم.
و"من يفتح باب الطلسم "العنوان الذي يتكون من الفاظ اربعة هي: "من" حرف جر، و"يفتح" فعل، "باب الطلسم" أي الباب الذي لا يفتح الا بقول عبارة ما.
وقد لعب الروائي في عنوان روايته على التورية التي يحملها "باب الطلسم"، اذ انه يحمل معنى مخفيا هو اسم لباب من ابواب بغداد القديمة، الذي روي في التاريخ ان السلطان مراد الرابع قال عنه انه بسده سيمنع أي عدو من الدخول منه. ومعنى ظاهري هو ما كنا نقرأ عنه في الحكايات، خاصة في الليالي، أي الباب الذي يفتح بإلقاء الكلمة الشيفرة.
وقدم الروائي الواقع الاجتماعي "الفلاحي" في روايته "مكابدات عبد الله العاشق"، الذي يتكون عنوانها من الفاظ ثلاثة هي: "مكابدات "جمع مكابدة وهو التحمل، و"عبد الله" وهو اسم مركب، و"العاشق" وهو لفظ معروف المعنى والدلالة. والمكابدات التي طرحت في الرواية هي تحمل الفلاحين همّ شح المياه، وموت احدهم جراء تعميق مجرى النهر.
اما عنوان روايته "ليل علي بابا الحزين" المتكون من الفاظ ثلاثة هي "ليل" وهي لفظة تدل على جزء من اليوم، وترمز الى السواد والظلام والهدوء والسكينة والظلم في الوقت نفسه، ومعنى الاحتلال في وقتنا الحاضر، وهي في هذه المعاني تتصف بالحزن، و"علي بابا" اسم مركب يرجع بنا الى التاريخ الحكائي الذي ورثناه والذي يستدعي من الذاكرة الشخص الذي سجن كل سارق وناهب وحجزهم في "خوابي"، و"الحزين" صفة لعلي بابا والتي جاءت من الليل، والعبارة بأجمعها تشير الى ما خيم على العراق من حزن بسبب الاحتلال، كما خيم على "علي بابا" بهروب السراق من النصب.
وعنوان "ما لم تمسسه النار" عبارة تفصح عن ان هناك شيئا ما لم تحرقه النيران، فما هو؟ هذا ما سنعرفه من مجريات احداث الرواية التي بنيت على ما تبقى من صفحات غير محروقة من يوميات "نديم".
إذن، فالعبارات التي تحمل عناوين الروايات لم تكن شاذة عما تضمنته الروايات في التركيب او المعنى، وهذا تابع للمؤلف، وقد اعطت تلك العناوين معنى ودلالة ظهرت في الدراسة هذه، وهذا تابع للمتلقي، لهذا كانت صناعة المعنى متبادلة بين المؤلف والمتلقي، فكانت العناوين تلك تقع صمن السياق العام لكل رواية، لهذا جاءت مقبولة وملائمة وناجحة في التواصل والمعرفة.
لقد قدم الروائي، اعني به المؤلف الثقافي لا المؤلف الفرد حسب مفهوم النقد الثقافي، في رواياته تلك من خلال مصادره التاريخية والحكايات الشعبية، الليالي خاصة، تاريخ منطقته الجغرافية، وتاريخ وطنه، والتاريخ العربي، واستعمل عناوين داله عن الموضوع الذي طرحه، مازجا بين الواقع والخيال، الواقع الذي تخيله هكذا يكون، والخيال الناضح من المخيلة النشطة.