ادب وفن

في ذكراه .. صاحب الشاهر.. شاعر البساتين والسواقي / جاسم عاصي

الخصائص الذاتية
يتميّز شعر «الشاهر» بخصائص تخص الشعر أساساً، وهي تنبثق من ذاته، التي تواجه واقعاً بيئياً مختلفاً، فيه مرائي كثيرة وتجديدات متواصلة، لذا يستجيب لها، بما يشكّل معماره الذاتي اتجاه ظواهر ومشاهد بيئية. فالشاعر وإن عاش في المدينة المتاخمة للريف، إلا أنه يستجيب ذاتياً في شعره للمفردة الريفية، وتتطابق صوّره الشعرية وفق منظور يخضع إلى ترسبات الطفولة. فنجده في هذا يخضع إلى المداولة المستمرة، لخلق صوّر متباينة، خاضعة للمنظور الفلسفي حصراً كوّنه لا يدخل النهر مرتين، بسبب تجدد ما حوّله. فنظرته إلى الظواهر ومرائيه اليوّمية مستندة إلى التغيّر الحاصل في الواقع المتمثل في حركة الحيوات، وشيوع الأخضر اليانع على الأشياء، ومعايشة طقوس الأرض. كل هذا بلوّر سماته الذاتية، ففي شعره قلما يخضع إلى صورة مدنية، فالمدينة لن تبهره بمباهجها، وتسلب منه مكوّنه البيئي، لذي صقل شعريته المتمثلة في الرهافة والحس الصوفي. فمهيمنة الريف حاضرة باستمرار. إذ نلحظ تواصل طفولته، ليس في شعره، وإنما في تعامله البريء في الحياة، لاسيّما حبه للأشياء المنعكس على سلوكه، فهو في شعره يتمثل شعرية طفولته. ونقصد بهذا سلامة تشكله الذاتي، غير المعقد، أو المبتلى بالأسئلة المربِكة لشاعريته. فهو ذاتياً نسخة شعرية لواقع بدائي غير مشوب بتعقيدات الحياة. وقد أسبغت هذه السمة البساطة على شعره، والرهافة في عكس الصورة الشعرية. وتجسيد المهمل في الشعر. كل الذي نراه في شعره ويمثل ذاتيته، منعكس بشكل مباشر في شعره، فالذات لا تتغنى بنفسها، بل تُسهم في تصعيد المشاهد، ورسم صورة ما يعيش ويدرك، ببساطة الشجر والنخيل والحقول. المهم في هذا التخريج، نجده شاعرا بيئياً، يخلق من مفردات بسيطة من البيئة قوّة شعرية، فهو المؤمن بأن مكوّنات حياته الأولى، عبارة عن شحنة لا تنضب، فاتكأ عليها بقوة ورهافة. وطوّع مفردات البيئة للرؤى الشعرية، وبالمقابل طوّع شعره لقوة ذاتية تساير ما يرى ويعيش. وفي هذا أيضاً خضع ذاتياً لما يخلقه المكان على شعره ومرائيه التي تنثال في شعره كما تتواصل مياه السواقي في الجدول، وهو يرقبها مذ كان طفلاً، فصورتها المنعكسة على طفولته لن تبرح ذاكرته، بل تجسدت في شعره. فالشاعر يدهمه الحزن مبكراً، لكنه حزن من نوّع التداعي الصوفي، فتصوّفه كظاهرة نفسية ذاتية تبدو مبكرة في شعره، والتراجيديا المفعمة بالحب والوله بالأرض والبيئة، وبالتالي بالوطن ككل. فحزنه شفيف تبوئي كما وجدناه في قصيدة «حجر العراق القديم» ومرهف إزاء متغيرات الحياة السلبية جرّاء تأثير الحرب. كما وأنه يجسد نداء شفيفاً، تظهر فيه صورة الأنثى وتناغم صوّتها في قصائده، فهو يتغنى بصورة اللوّن الأبيّض الذي يمثل الطهارة بالنسبة لرؤيته للمرأة، فغنائيته بصدده فيها تعالق صوفي، وامتداد نفسي، مزيج بين صورة الأم وصورة الأخت والحبيبة. المرتقبة. فالمرأة حين تتشكّل في قصيدته، تكون معادلاً موّضوعياً عن فقدان شيء عزيز، فهو يخضع لمبدأ التعويض، إن لم يقصده «شاعر ــ طفل، وطفل شاعر» مثله. هذا ما تشكله شخصيته القابلة لدرء الحزن بفيض الفرح. فهو كتلة من الحب في حياته الخاصة وعلاقته بالآخر. أرى أن بناء شخصيته المزاجية طغى على شعريته، مما خلق قوّلاً شعرياً يتميّز بالبساطة والعمق.
الخصائص الموّضوعية
في هذا المحوّر حاول الشاعر أن يكون موّضوعياً فيعكس ما يرى ويعيش، فهو وإن خضع لجدلية الوجود في صياغة متنه الشعري، ونقصد المحركات الموضوعية، إلا أنه ذاتياً ــ وكما ذكرنا ــ استلهم صورة الأشياء لذاته، وتمثلها على أنها ذات محمولات لصياغة الوجود بشكل عام. وفي هذه المنطقة الشعرية بالذات، يكون من الصعب فك اشتباك الذاتي عن الموّضوعي، لأنه يتعامل ببراءة شديدة، تجد لها متعلقات، تنحاز لكلا الطرفين، فهو شاعر القرى، الذي تغنى بمكوّناتها التي خلقت علاقات وتاريخ، من خلال صقل الصورة الشعرية، بحيث تمثل رؤاه الذاتية، في الوقت نفسه ، تُجسد مرآه لما يدور، بحيث لا يخلو مداره الشعري من محركه الجدلي، فهو شاعر يدرك طبيعة الوجود البيئي، ومسك المكوّنات التي تتلوّن فيها المؤثرات، أي يُدرك صراع الثنائية بين الريف والمدينة، فيخضع لتشكله الذاتي في عكس وبلوّرة ما يرى في شعره. فنجده، ليس ذاتياً فحسب، بل موضوعياً في دقة التقاطه لخصائص ومؤثرات المشهد، بحيث يخلق منه صورة متوازنة. إنه كشاعر يحوّل الذاتي إلى موّضوعي، وفك التشابك الحاصل بينهما نتيجة سرديات مجرى الحياة، وزحف المدنية بمفردات قد تبدو ثانوية، إلا أنها مؤثرة، لذا ينقيّ الشاعر بشعره صورة الذي يواجه المتغيّر، من خلال صقل الشعرية في الشعر. إن الشعرية التي تستل غنائيتها من مفردات البيئة، قلما تجد في قصائده عبورا لما يرى ويُشاهد «السواقي، الشجر، النخل، الماء، الطيّر، طين الأرض» فهي توحي إليه بشعرية المشاهد. من هذا لا نجد ثمة بوّنً شاسع بين الذاتي والموضوعي، فهو يتعامل مع مكوّنات الحياة يومياً بروح الشعر وبراءة التعبير ونقائه. فشعره بسيط، لكنه عميق الدلالة» السهل الممتنع». فعدته الشعرية، هي مجموع الرموز البيئية، يستطيع مداورتها بمهارة وحذق، فمفردات البيئة الريفية تنساب في قصائده كالماء، أي دون أن يشوبها التكرار والوهن في التعبير، الذي يقود الشاعر إلى إحداث الركاكة نتيجة التكرار الممل، وعدّته الشعرية خاضعة لرؤى شعرية، هذه الرؤى تنبثق وتتعادل من خلالها الصوّر الشعرية الخاضعة لنفس المفردات وايقاعها الشعري. هنا تتغيّر الرؤى، وتبقى المفردة حاصلة على حيويتها الكاملة، وتجددها بتجدد موقعها في التعبير وعلاقتها الجدلية مع غيّرها، فهو رسّام شاعر، يطوّع الألوان والخطوط في مختبره الشعري.
المكان الشعري
تتميّز قصيدة «الشاهر» في كوّنها تمتلك مجموعة مفردات ذات علاقة بالمكان. فمنها ما يوحي بالمحدود والآخر بالانفتاح، فالبيّت مثلاً من المفردات التي ترد كثيراً في سياق شعره، مما يدل على الحنين إلى المأوى الذي تجذر في الإنسان. ولما كان البيّت الذي يردده، يكون ضمن سياق صوّر البيئة الريفية، نجد في هذا نوعا من الحنين الذي يحمل مبرراته النفسية. ولعل شعراء سبقوه، لاسيّما من الذين انحدروا إلى المدينة، حاملين صورة المكن الأول في الذاكرة فقوله مثلاً:
«ساعة العوّدة المستحبة للبيّت، أشعرُ أني سعيد كالأمنيات»
فثمة علاقة جدلية بين المكان، وصورة غير المتحقق «الأمنيات» الغائبة. مما دفع الشاعر إلى أن يوازي بينهما. فالأمنيات فعل له دوافع ومبررات آنية، كذلك ترتبط برؤى الإنسان لما حوّله وما يعيشه، فطبيعي أن، تكون له رغبة في تحقيق شيء يبني له معمره في مخيّلته. والشاعر هنا يُشبه البيّت بالأمنيات، فكأنه يحاكي الصعب من تحقيق الرغبة من جهة، وخلق تشبيه محبب من جهة ثانية. وتتواصل في ذهنه الرغبات، لكي تتسع ضمن حيّز أوسع من خارج البيّت، نحو فضاء زاخر بالمتغيّرات. وهي الحدائق «ولي رغبة في عبور الحدائق وحدة بعد».
ويختتم القصيدة بالتغني الذي يخلق الطمأنينة للذات
«نم يا حبيبي
يا صديق الحصى والمياه»
فالحصى مرتبط بمياه النهر، وهو مازال متعلقاً ببيئته.
وفي قصيدة «عن الوطن والتجاوز» نجده أكثر ميّلاً إلى إثارة العلاقة مع المكان. وذلك بمداورة مفرداته المثيرة، حد التغني والوله. وهي بدائل عن الآني الذي يعيشه:
«خلفي يتكئ الوطن الهوج مشدوداً للحبل السري، وأمامي. .. لا شيء سوى جسد يسّاقط شفافاً، في منتصف الشارع حيث الأسفلت يُهاجر نحو الشمس دواراً قزحيّاً» هذه الصوّر تخلق بدائل فالوطن مُغادر، وتشبيهه بالهودج دليل بهجته. كذلك إثارة ما لهذه الصورة من ارتباط بالعلاقة الأولى المشبهة بـ «الحبل السري» والمقارنة تأتي من ضغط الوجود في مكان لا يأتلف معه، أو هو يُثير الأحاسيس مثل «الأسفلت + الشمس» أو حين يذكر ضياعه في خضم غير مستقر من الناحية السيكولوجية:
«وأنا تتوّزعني فوّق الأرصفة المبتلةِ الألوان، الطيّف الشمسي.. أُكابر لكن يدي تبقى، تلك الممتدة بيّن الطُرقات الرملية والمنفى».
يبدو أن الشاعر شديد الحساسية إزاء تغيير المكان. وهو إنما يوحي بمكان بديل غير مألوف، وأليف. لكن مفردة «المنفى» لا تدل على أن المكان يحمل بذرة « المعادي»
بقياس الألفة وبدونها.. وفي سياق القصيدة، نجده يعمّق هذه الغربة في المكان، لكي يكون أكثر إثارة لمشاعره بين مفارقات مفردات المكان المستبدل فـ»صفة ووقد الشمس غير كافية لتجسيد غربته، إذ نراه يُعمّق هذه الصورة:
«بين مقاهي الليل وبين الفصل الأول من مأساة... الموّت وقوفاً» هذه الصورة، هي الأكثر تجسيداً لوقع المنفى عليه، وهو منفى افتراضي جرّاء تغيير المكان المألوف. لكن الذي ينقذ مشاعره ازاء الصوّر المتضاربة، هي صورة لا تتضح في كوّنها صورة للمرأة. غير أنها صورة الطمأنينة في المكان:
«فالقاك معي... أكن في عيّنيك قليلاً أوّحد فيك... ونغدو وطناً».
هذه الصورة، هي الأكثر اشراقاً للبحث عما يُعيد صورة لوطن. فالمرأة صورة مكتملة لمثل هذا التوّحد مع المكان، من باب العشق. ثم تتواصل القصيدة، لتخلق مناخاً بيئياً ريفياً مفعماً بكل مكوّنات بيئته التي يعشق، فهي ملاذه لحظة يتأزم الحال في الأمكنة المثيرة للقلق من مثل «ساقيتان تصبان بأثداء النخل توازينا» و»سنبلة الموّسم ما برحت تحلم بالماء وبالفرح، البريء» حتى يصل إلى كشف الصورة المباشرة التي تُجسّد طبيعة المكان الأكثر ألفة عبر علاقات إنسانية باهرة:
«حين أعود صبيّاً يتعاطى قُبلَ الريفيّات ، قريباً من ذاكرة العُشبِ: تعالي!، صوّتك ينتحل الآن خرير النهر، غناء الطيّر، مواويل أخيّاتي».
فهو يستعير مفردات الطبيعة أو بيئة الريف، ليخلق منها نسيجاً دالاً على اكتمال رؤيته للمكان، فالجزء مفصل مهم من المكان الرئيس، حيث عاش الشاعر، وحيث يعيش. إن شعره يطغي عليه الحنين الذي يمنحه التوازن، وسط واقع مختل:
«صبابتك العشب والماء... قد تستعير الطبيعة اسمي.. واسمك أنت التوّغل... أنت ،العناق.. أنت الطفولة».
هذا الاحتماء بصورة تتعلق بالعلاقة ضمن مكان يجده أكثر استقراراً هي المعادل الموضوعي في وجود الشاعر، والمعادل الفني في بناء القصيدة ــ الحلم ــ، حيث أنه يواصل كشف ما هو منطوي عليه احساسه المرهف، مخاطباً صورة المرأة ــ الأم ــ أيضاً:»صبابتك العُشبُ.. أعرف أنك لا تحسن الانكسار وإن الدروب التي أوصلتني إليك مؤطرة بالتوّهج والشجر المستفز».
«تكون المدينة ساقية للتسكع.. منها يجيء النعاس لذيذاً ومنها نجيء».
هذا الفيّض من الحنين، واللهفة للقاء الروحي، ما يمنح قصائد الشاعر دفق الحنين الرومانس الوجودي في ما يخص المكان، الذي بلوّر في ذاته كل عمارة الحس البيئي، فراح يُنشد الصوّر ليُعيد اليها حيويتها وسط فوضى يراها تُكبله في المدينة، بينه وبين المدينة مصدر الاثارة الحلم الأرض والبساتين. فمتعلقات المكان وعذريته هو العامل الأكثر تأثيراً على ذات الشاعر.