ادب وفن

«ذاكرة ممحاة».. أسئلة أخرى / حميد حسن جعفر

الحصار الذي وجد الشاعر نفسه وسطه - حصار السلطة والحروب والالغاء كان قاسيا، كان أقوى من القراءة، أو من تأثيرات الكتابة. وليتحول الشعر إلى فعل بدائي، يقترب من أن يكون السلاح، إذ لا بد للكائن الجريح المحاصر من صناعة ما ينتمي إلى القوة -- هكذا وجد الشعر المغنى، أغاني المهد حيث فطرة الأمهات في صناعة التهاليل.
التاريخ الشخصي للشاعر هنا يضع جميع مفاتيح القصائد بين يدي القارئ، وما على القارئ سوى الرضوخ إلى رغبات الشاعر في صناعة التلقي.
هل كان القاص والروائي و الشاعر طه الزرباطي كائنا ينتمي إلى شيء من الاختلاف؟ هل تمتلك ممحاة الشاعر في «ذاكرة ممحاة» ما يميزها عن سواها؟ من أدوات الشعراء الآخرين؟ هل كان يحاول أن يهندس معمارية النص؟
هل كانت هناك مخبوآت؟
التوطئة الحياتية التي كتبها «طه» في محاولة منه ليقول شيئا ما عن الزمن الذي قد لا يكون إلا جميلا، رغم مغادرة الأحبة مسرعين، فالقوى الشاطبة تعلن عن نفسها عبر قيم الاستبداد، ورغم هذا تظل محاولة استعادة الماضي أكثر من قلادة حول عنق الشاعر.
طه الزرباطي لم يترك للقصيدة إلا النزر القليل من القول ، حيث يتمكن الشاعر بعد أن تمكن عبر التوطئة، من الوصول إلى غابة الشعر.
قصائد «الممحاة» دائما ما تعلن عن ماهيتها، عبر أول القراءات قد لا تحتاج من القراءة الثانية إلا القليل، من أجل صناعة مراجعة ما، أو لمتابعة فعل شعري، قد تتشكل من خلال ما ينتمي من السرديات، فتداخل الأجناس أمر حاضر في ما يكتبه «طه» سواء تأثيرات حقل الشعر على الفعل الروائي أو تأثيرات النص القصصي على المنجز الشعري.
وقد يشكل هذا التداخل الكثير من مكونات، تقنيات الكتابة، حيث يتداخل أكثر من فعل ابداعي، و أكثر من جنس مختلف، فما عاد جنس ابداعي ما يشكل تفوقا على سواه و ما عاد الفعل المختلف يعتمد على نقاوة الدم أو الجينات، أو نقاوة العنصر بل إن التداخل ما بين العناصر هو ما يمثل السبيكة الإبداعية المختلفة، حيث يجد القارئ أمامه صناعة أو صياغة لم يعهدها من قبل، صناعة تعتمد عناصر الاختلاف والتناقضات وربما التقاطعات، فقدرة الشاعر أو الروائي على صناعة نسيج قصصي أو شعري لا من خلال الفوضى أو العشوائية، بل من خلال أفعال تنتمي إلى التواشج والتكامل.
هل استطاع الشاعر أن يستفيد من المسرح ،عوني كرومي، أو التشكيل والنحت في صناعة نص شعري يستند إلى فعل مسرحي، أو نص صورة ، تشكيلي، ودفع الحجر كمادة للنحت إلى أن تتحول إلى قصيدة؟
من الممكن أن يضع القارئ أكثر من إجابة لسؤال كهذا ، لنقل هل تعتمد القصيدة المعاصرة على التماثل مع الواقع على تماثل المغاليق وتشابه المفاتيح، في صناعة بنيتها، شكلها الخارجي.
هل تمتلك تلك القصيدة قدراتها على صناعة قارئ منتج، أو قدرتها على توفير حيز مكاني قد يكون واسعا، أمام القارئ؟ أو مجموعة القراء من أجل التحول إلى ما يحاذي الشاعر نفسه، و بالتالي تتحول القصيدة إلى حقل منتج لمجموعة قصائد.
* * *
هل كان في حسابات طه الزرباطي أن لا يقول كل ما لديه، وأن لا يكشف عما ينتمي إلى الملفات الشخصية، السرية تماما؟
أم أن الإحساس بالاختناق وبالحصار هو الذي دفع به إلى أن يحول صراخه الى صمت، إلى صخرة سيزيف، ما أن يلقي بها حتى يتلقف سواها، أو إلى صليب مسيح معاصر، ولتتحول القصيدة أو القصة إلى ما يشبه طريق الجلجلة، حيث يتحول الألم إلى حالة من الإصرار على المقاومة.
أعتقد أن لا مقاومة تنتمي إلى السلبية، مهما كان نوعها أو حجمها.
هل الكتابة فعل مماثل للصمت؟ من الممكن أن يتشكل سؤال كهذا بين يدي الكاتب المحاصر بصخرة الماضي، .ظنا منه من أنه سوف يتخلص من هواجس كان من الممكن أن تتحول إلى مجموعة انهيارات، فالصمت لا بد له من أن يشكل نوعا من الكلام، اللغة، وإلا لما عمدت السلطات القامعة إلى إنزال أقسى وأقصى العقوبات بحق من ينتمي إلى الكائن البشري الصامت، والذي يتخذ من الصمت وسيلة لقمع التخاذل.
هل استطاع طه الزرباطي صاحب رواية «الحصاد في الأرض المزروعة الغاما» – «على القارئ أن يعاين العنوان ، العبارة الخالية من أي فعل والتي تعتمد على أربعة أسماء وحرف جر» هكذا أراد المهتمون بشؤون اللغة العربية، باعتبار اللغة أنثى، أن تكون اللغة العربية وصفية جميلة طرية لينة هادئة بعيدة عن الأفعال الخشنة التي تنتمي إلى القوة والعنف والرجولة. مع شيء من الابتعاد عن توفر كم كبير من الأفعال الدالة على الحراك، وتدمير القناعة و الطمأنينة.
هل استطاع طه الزرباطي صاحب ثلاث مجاميع شعرية قد تم التخلي عنها من قبله حسب إقراره في التوطئة، أن يوفر للقارئ أكثر من قراءة قادرة على إنتاج موقف مواز لموقف الكتابة؟
الوضوح الشديد الذي يشبه الاعترافات والذي لا يحتمل التأويل والذي يعتمد على الموضوع رغم اختلاف التناول، رغم محاولة الشاعر في الوصول إلى أماكن تستند إلى الواقع، ولكنها بعيدة عن الرقابة، ربما تنتمي إلى الغامض، هذا الوضوح سلب المتلقي محاولات الكشف، وبالتالي افتقار النص الشعري إلى التفرد، واقترابه من الكثير من النصوص المتعارف عليها، إضافة إلى بنية النصوص التي تكاد تندرج تحت صيغة واحدة حيث يعمل الشاعر على نقل مهمة الراوي العليم من النص السردي إلى صيغة أو مفهوم الشاعر العليم في النص الشعري حيث تسود صيغة المتكلم، الانا على بقية الشخوص الأخرى رغم كثرتها.