ادب وفن

مغني القافلة / موسى غافل الشطري

الى مناضل المسيرة
في المحصلة التي ظلت مفتوحة على كل احتمال .. بدا حادي القافلة يلوح للناظر.. كما لو كان على وشك أن يستسلم لما يمليه عليه القدر : على انه قد خسر كل شيء.
رغم انه .. في مجرى مسيرته، التي لم ينضب معينها بعد، كان قد وُفّق بقطع الكثير من الفلوات العسيرة، بروح من القدرة و الحنكة.
و مع ما يحف به من جسامة الأخطار، ألزم نفسه على أن لا يتوانى في غذه السير دون هوادة. في الزمهرير، و المطر، و العواصف. و في الأجواء اللاهبة.
وفي الليالي الداجية ، التي تخفي تحت إهابها حتى الجبال .. أوفت ناقته في اقتدارها على تحمل جهد المسافات.
كان يصارع العقبات بصبر جميل، لا تنتكس إرادته من الدروب الموصدة النهايات. و لا يعتبرها هزيمة. يصحح مساره في قرار التراجع .. ثم يمضي بفكر متوقد ، لكي تنجلي عتمة الظلمات، و تنطوي المفازات و ساعاتها الثقيلة. حتى يكون بوسعه ان يكمل الشوط، و يحقق حلم العودة إلى موطنه الآمن و ينعم براحة البال، و يخلد إلى لذة الاسترخاء. و استدراجه للسنين الآفلة . كذكريات يبهر بها الأحفاد.
مضت ناقته تواصل المسيرة، نحو ذلك الحلم الذي هو مرود العين.
كان عدوّه، أن يسلم قياده للخمول، و ترهل الحال. ليعزف عن مضيه لاجتياز الرزايا. ففي قناعته: إن التوقف لا يجني من ورائه سوى الركون إلى غيلة الموت.
لذا .. هو يمضي في الطليعة دون تراجع، من أجل ان لا تنوخ ناقته: إلاّ في بطاح الأرض الموعودة.
سيتقبل عسر المسيرة ، حتى و لو كان عطاؤها علقماً و هو الذي عاشر مرارة العلقم و تطبع عليه.
تصدرت ناقته، حاثة خطاها نحو تشابك طرق المتاهات، والطريق السالكة، قدماً نحو ربوع مدينته، التي التفت على دروبها مجسات الصحراء، وحالت بينها و بين القافلة، فظل اجتياز فلواتها: هو الحلم الذي يشغله طوال مسيرته.
كان يشعر بضمير مسؤول: إن مسيرة القافلة .. لا يمكن أن تستكين إلى أمان الفلوات. ففيها الضمأ. و فيها كواسر الليل و دبيبه. واحتمال التيه في مراوغات السراب. وفيها ملامة المتقاعسين. كل ذلك يستدعيه أن يقلق و أن يتدبرّ، و أن يكون على انتباه لكل طارئ، فيحث اليائسين.
أحياناً يتقدم القافلة، و أحياناً يتفقد من تأخر عن الركب . وأحياناً يواري من صرعته المسافات.
و لكي لا يركع مغلوباً، و يكلكل الصمت على المسيرة، مضى يحدي على هدى خطوات القافلة.
تفاوتت معنويات الرجال، بين من صمدت همتهم، و بين من مضوا حالهم حال الأجساد المستسلمة لما قدّر لها، أن تستكين على ظهور الإبل، كما لو كان الهلاك حائقاً بهم، و يقودهم طيعين إلى حتفهم.
كان مثله .. مثل امراة تقاوم أقدار العقم، و عسر الوصول إلى العطاء، و اجتياز الزمن الغادر، مذعنة لمسيرة العمر الحالم بالوليد، لكي تطرد متاهات سني القحل و التوحد، فتأبى أن تطوي أحلامها و تستكين للخيبة.
هو كذلك في رحلته الطويلة، التي تبدو كما لو كانت عقيمة العطاء ، مدماة القدمين، في مسالك الدروب التي التف على معالمها الغموض إلى مدينة الأحلام، التي هي ساحة العمر المكتظ بالضوء وبهاء الليالي الشذية. الى مرابع الحلم بالفوز، مهما كلف ثمن المسيرة.
لا يشترط ان تكون محط رحالهم حديقة غناء، باهرة الجمال و الوجوه. ذات شوارع صاخبة بطرائف السعداء كسابق أيامها الآفلة ، و سهر الليالي الوسنانة. هو يحلم قبل كل شيء بقهر المسافات، مضياً لمدينتهم، حلمهم المنشود. يرتضونها وطناً حتى لو كانت أطلالاً، يتدثرون بغمام ركامها متطلعين لغدها الرغيد.
و رغم قفر الصحراء، يمضي بتطلعه و يواصل غناءه المتهادي مع وطئ أخفاف الجمال، ليحثها بنبراته الشجية.
كان الجميع قد تدنت طاقات تحملهم. ووقع بين أيديهم، امتدادات البيداء، التي عفرت عواصفها الذارية: وجوههم و عيونهم، واستحالت عودتهم من حيث أتوا مجرد امنية بائسة. فهو يدرك: ان النكوص هو الهلاك، فمضى لا يريم للوم عاذل .
حل ليل آخر.. من الليالي العسيرة ، و بانت النجوم تتلألأ في كبد السماء، راقبها و كأنه يطل من علوها إلى الطريق الفاضي. إلى بر الأمان لتصحيح المسار.
وعندما لاحت له نجمة الصباح، كان قد هيأهم لينغمروا من جديد، عبر الفلوات القاحلة المترامية لمواصلة المسيرة طيلة نهار كامل، في حين شرعت الشمس تجنح للمغيب، بينما كانت القافلة، قد أنهكها عمق المسيرة، وهيمن عليها اليأس، مذعنة لسوء المصير.
وفي الأفق البعيد .. وفي عمق السماء رصدت عيونهم سرباً من الطيور مثل نقط سوداء ماضية إلى أمام، كأنها تبشرهم بسلامة الوصول.
كان الحادي يراقب السرب و هو يأخذ نفساً عميقاً، ويكفكف دموعه بصمت، كأنه غير آبه بسلامة الوصول.
كان قد ارتضى لنفسه: أن يكون ذبالة لمسيرة أضناها الطريق، و مجهولية المصير، حتى كادت أن لا تعدو؛ سوى ضوء منهك، يمضي برضاء تام إلى عالم السكينة و الارتخاء.
8/8/2016