ادب وفن

قصص قصيرة جدا / عبد جعفر

عواء الليل

مهمة بسيطة ولكنها مرعبة تحاصره، كلما أراد أن يبتعد عنها تثقبه كسكين صدئة، بل تزحف كحشرة كريهة على عموده الفقري، فتجعله يرتعش منذ أن أعطاه رؤساؤه القرار بإرساله لهذه المهمة، شعر بثقل الورقة، أنها أثقل من المسدس الذي تناوله بيده الثانية.
- رصاصة واحدة تكفي!
- وإذا...
- قلت رصاصة واحدة فقط وإياك أن تترك واحدا منهم!
إقترب من أحدهم، سار إليه يهز بذيله جذلا، عيناه تلمعان في الظلمة، هل هو جائع؟ وقف مقابله تماما.. سحب زر الأمان، لم ينهزم، بل تغيرت ملامحه وكشر أنيابه وأثنى قدميه الأماميتين، هل يثب باتجاهه....؟.
بادره بطلقة ردته إلى الوراء وهو يئن بخفوت، تركه ومضى للآخر الثالث.. الرابع.. الخامس.. جميعها تسقط مضرجة برصاصاته.
اختفت أصوات النباح في الأزقة والساحات، لم يبق غير صوت الريح يهدد السكون، أين ذهب صوت هذه الكائنات؟، بدأت صورتها بعيونها الملونة وأذيالها تتماوج أمامه أصوات في داخله، تقفز على حنجرته لم يستطع مقاومتهـاـ انحنى على الأرض واستند على يديه وأخذ ينبح بقوة.

أحلام السيدة حذام

قبل أن يأتي الفجر زحفت إلى ركنها المعروف بهدوء لإعداد الشاي قبل أن تقرر تنظيف البيت، فالقادمون يسرهم نظافة المكان والزهور التي تزين المنضدة، وما إن أخذت أول رشفة حتى بدأت تحرك الأشياء وهي تقاوم احتجاج طفليها وتغالب شخير زوجها المرتفع. ولكن العيد قادم هذا الصباح ولا متسع من الوقت للركون للهدوء. سيأتي الزائرون تباعا وينفضون معها غبار الغربة وأوجاعها بالضحك والتذكر، كل عام يأتون وإن بدأت أعدادهم تتقلص عاما بعد عام.
- نامي يا..... مازال الوقت مبكرا!
قطع زوجها شخيره وبدأ يعوي بصوته الأجش ثم أعقبها بقهقهة عالية.
- لا تتعبي نفسك لن يأتي أحد!
- نم... نم!
قالت بصوت غاضب.. شخيره يعلن رضوخه، بدأ الصباح يطل من النوافذ المشرعة للهواء، والكائنات الساكنة تتحرك في الحديقة، ويعلو الصخب عند الجيران وفي الشارع، حتى شخير زوجها بدأت ترتفع حدته. الوقت مازال مبكرا ولكن من يكون أول من يطرق بابها؟ كاستراحة محارب غفت على كرسي المطبخ، أيقظتها طقطقات زوجها في المطبخ.
-آه.. صباح الخير ..عيد سعيد، كم الوقت الآن؟
-......
- والأطفال!
- ذهبوا منذ زمان إلى المدرسة.
- لم لم توقظيني؟
-آه تعتقد من سيكون أول القادمين؟
-......
ظلت تراقب الشارع، اختفت الحركة، وصخب الشارع والجيران، وهي ترصد الباب الخارجي، تقطع المسافة بينه والصالة، وتقفز لكل حركة.
- تأخروا....
ألقى زوجها عليها نظرة غير مكترثة وظل غارقا في قراءاته.
- قل شيئا.
- ما هذا النكد ؟ بدلا من هذا القلق خذي كتابا وتسلي فيه.
- وماذا جنيت أنت من القراءة؟!
-....................
- تأخروا... لم يأت أحد لحد الآن!
انهمكت ببكاء مر، نحيبها يعلو بصوت عال، ولم تعر إهتماما لزوجها وهو يرتطم بآنية الزهور ويكسرها ويدلق ماءها في الصالة.

مريدي

سوق مريدي، مئات من الرغبات المتنافرة تتفرش الأرض، وتغمر الشوارع والأرصفة بالصفائح وصيحات الباعة، لتنام على خاصرة المدينة.
وهو عيون مفتوحة، لا تنام إلاّ عندما يؤوب المشترون والبائعون من رحلة النقاشات والمساومات، ومريدي كان للمغترب فرصة لا تعوض للتعرف على مكان دخل تاريخ المضاربات والتزوير والأسلحة وحتى بيت الرئاسة والمسؤولين الكبار والصغار، وغنى له أهله بفرح:( أحنه أهل الثورة وسوك مريدي نزامط بيه)، رغب في أن يغوص بحثا عن شريط لأغنية قديمة أو كتاب أو خاتم فضي من صناعات الأيام الخوالي ، غير أن الأمر يحتاج إلى تعلم، فالتوقف عند أول محطة يعني أن تعلن إفلاسك ولن تستطيع أن ترى المغريات الأخرى.
سار المغترب وهو يتعثر بخواطره والبضائع المعروضة على الأرض يلقي نظرة هنا وهناك على الحواسم، الاسم الطريف للمسروقات المعروضة والسلع الكهربائية ذات الماركات المزورة، لم يجد ما يبتغيه. كانت الطلقات الملعلعة في هواء السوق تستفزه بالرجوع ومغريات الفرجة تغريه بالمواصلة، فمريدي امرأة عاشقة لا تتخلى عن معجبيها بسهولة، ولج أكثر، أزيز الطلقات يزداد، رأى رجالا وقد اشرأبت اعناقهم، تجمعوا حول مختلف الأسلحة الخفيفة: رشاشات، مسدسات، رمانات دفاعية وأخرى هجومية، صناديق من العتاد. طفل أوقفه بسؤال إن كان يرغب في شراء رمانة بمئة دينار فقط، تجنبه ضاحكا. إقترب طفل آخر يكبره بقليل أخرج مسدساً من حزامه ، هل يقتلني؟ إرتجف المغترب، وأخذ يتصبب عرقا، خيل له أن الطفل قد وجه فوهة المسدس باتجاهه؟ أزت رصاصة قوية، شعر أنها تثقب جمجمته وأن الدم أخذ يتساقط على عينيه، كور نفسه وأطبق يديه على رأسه صارخا:
- لا..
أيقظه الضحك من إغماءته القصيرة، ويد رقيقة تمتد إليه لتنهضه:
- لا تخف يا عم أنه مجرد إطلاق لتجريب المسدس. إعطني يدك، قم ولا تخف!
سحب نفسه بقوة وسط القهقهات والكركرات كأنه ينزع نفسه من بركة طين لزج جدا ، وأخذ يهرول باتجاه أقرب تاكسي، حاملا خيبته بمريدي إلى بيته!

المساطب

يمر كبار السن على المصاطب، يجلسون، يثرثون، وقد يغفو البعض منهم عليها، وما هي إلا ساعات ويمضون، يأتي غيرهم، يتناقشون، يتذكرون ماضيا جميلا ويتحسرون عليه، ويغادرون، سنوات اختفى الجالسون، وجاء غيرهم يجتر القصص نفسها، بينما يمر الشباب يضحكون على هؤلاء العجائز وهم يكيلون الإتهامات لبعضهم البعض، ويزبد بعضهم على بعض ويرعد، ويرفع قبضته الضعيفة مهددا بالضرب. السنوات تمضي ويمضي الشيوخ، ويزحف المشيب على الشباب، فيجلسون على المساطب نفسها يعيدون حكايات الشيوخ، ونقاشاتهم الساخنة التي تذرها الريح كغبار الطلع.

أصابعي

قبل أن يخرجني من برزخه ويعيد إلي توازني المفقود. قال لي موظف المطار:
 نريد أن نأخذ بصمات أصابعك!
 ....
جاء الشرطي ليأخذني، مسح وجهي الأسمر بنظرة مريبة، أمسكني من يدي، ثم عصر كفي بقوة، قبل أن يلون أصابعي بالحبر، وضع عشرات الأوراق البيضاء أمامي ولطخها جميعها ببصمات أصابعي، ثم أبتسم لي (شرطي يبتسم) وقال:
 تستطيع أن تخرج!
دفعني بقوة، وأغلق باب المطار دوني. وجدت نفسي وحيدا في الشارع، نظرت إلى كفي لم أجد أصابعي، فزعت، هرولت مسرعا نحو باب المطار أطرقه.
فتح الشرطي الباب، ومسحني بتلك النظرة المريبة المستفسرة. قلت:
- أريد أصابعي!
- .......
ضحك.. ضحك.. قهقه، ثم عبس في وجهي وقطب ثانية قائلا:
- أصابعك وضعناها مع ملف طلبك للجوء... أذهب ولا تعد ثانية نحن سنراسلك... ثم أخذ يقهقه ويدفعني إلى الرصيف.

رائحة الوطن

لأني مولع بالأزقة الشعبية لمدينتي التي غادرتها لسنوات، بدأت أتطلع لرماد ذكرياتي العالقة في شناشيلها وأبوابها الموصدة. كنت أسير كالحالم اتطلع للشبابيك المشرعة للهواء، وأحبال الغسيل الملون، والأطفال وهم يتصايحون خلف كرة المطاط، نبهني صوت خلفي:
- يبدو عليك غريب.
- نعم لم أر... منذ...
ابتسم، ابتسمت، علقت ابتسامتي على وجهي كوردة ذابلة وأنا أرى سكينا لامعا فوق حنجرتي.
- أعطني ساعتك ومحفظتك بسرعة!
كنت مذهولا ومندهشا للمفاجأة. كان الناس يمرون من أمامي ينظرون إلي دون أن يبدوا أي مساعدة. ناولته المحفظة والساعة، وقبل أن يهرب قال:
- نسيت أن أخذ الخاتم الذهبي من أصبعك.
مسك أصبعي بقوة محاولا إنتزاع الخاتم ، عظامي تكسرت، والخاتم لم يخرج، كنت أتألم وهو يضحك والعابرون ينظرون إلينا ويضحكون أيضا!
- لا عليك لي طريقة أخرى في إخراجه.
هوى بسكينه على أصبعي وقطعه، فعويت كالذئب ،كان الدم كالنافورة يتصاعد من أصبعي المقطوع. وهو يضحك من منظري، ثم قال لي:
- تستطيع الآن أن تتجول بلا خوف!.