ادب وفن

فلم ما بَعدَ السقوط .. بُعد فكري وعاطفة واعية! / فؤاد الطائي

الان من سيضغط الزر لاشعال الضوء الاول في العراق ؟ .. هكذا كتبَتْ احدى الصحف العربية بعد اسبوع من سقوط بغداد .. كلٌّ يتأمل ما هو آت وما الذي يتوهج تحت الرماد ؟! ..
شيئ من الذهول وقليل من الاطمئنان وحلم الناس بقادمٍ أفضل وهُمْ في زحام الفوضى والهرج والانفلات .. أجواء العراق في تلك الحال كانت مشاهدها تحتاج الى شاهد ولكنه بالضرورة ليس عاديا ! .. شاهد مفكر ومحلل وأخيرا مبدع .. شاهد يرى الاشياء الخاطفة والمركبة ليس على السطح وانما غوراً في العمق كي يترك في النهاية حزمة من أسئلة تبحث عن اجابة ومستقر لحال . ومصوّر ومخرج محترف وبحس تشكيلي واع كقاسـم عبـد قد تبنى السؤال ودفع نفسه متحديا في زحمة ذلك التغيير الغامض منذ الايام الاولى للاحتلال وأراد أن يكون هو الشاهد والموثق والمشارك في وقائع الحياة اليومية بكل تفاصيلها وجزئياتها عبر عمل ابداعي مُمنهَج وأمين في نقل الاحداث التي بدت جلية في فلمه وهي تَشُف ودون عناء عما هو ذاتي وما هو موضوعي حتى تتطابق مع الحقائق بسلاسة ووضوح . رَسَمَ الفنان قاسـم تلك الحقائق في فلمه الوثائقي .. ما بعد السقوط .. بأسلوب وصياغة تشكيلية أفصَحَتْ عن جوهر ما كان يفكر به تحديدا .. إذ إختار في البدء مشهداً لطريق إسفلتي موحش بدا وكأن عدسة الكاميرا تحتويه في داخلها بتثاقل رتيب وقد لاحت ملامح بغداد عن بُعد لينهي فلمه بلملمة التفاصيل وزحام المشاهد في لقطة لنخلة متفردة وقد شذّب سعفها وبانت بواكير ثمرها وهي تتمايل بثبات في عصف ريح هبت من المجهول لعلها الرمز الذي اختاره الفنان لرياح التغيير في مسلك العنف والخيبة واليأس .. بَدتْ النخلة هي الوطن بجمالها وعطائها وهو يترنح قلقاً من هول المفاجأة المرة ! .. ولكي لا يَضيع الفنان في تقاطع الاحداث وتشابكها فأنه إختار منطلقاً يتمحور حوله ويغور في جزئياته يتجه منه نحو الخارج في تكرار مقصود وكلاهما الخارج والداخل صار كلٌّ واحدٌ وقدرٌ للاخر .. فالمنطلق عائلة عراقية مكتملة تتابع الكاميرا تفاصيل حياتها اليومية وترصد هواجسها وأفكارها واحاسيسها ومن خلال لقطات قريبة نرى وجوهاً مشدوهة وحالمة أحيانا وهي تتوسل السكينة وتنشد المستقر .. وجوه شيوخها وكهولها وشبابها كلها فقدت الثقة والفهم الواضح .. فالبيت صار سجنا للجسد والنفس وسياجه بدا سورا للسجن يقع خلفه حذر وخوف من مجهول قادم ومن فوضى تتوالد في سلوك أفراد ومجاميع وتناقضات ليس لها فائدة أو هوية .. فالمَشاهد تتضارب بين ما هو مبكي وما هو سار ظهرت فجأةً فاقدة الجذور وغاب فيها العقل والتمدن وساد فيها صوت الانفجار والرصاص وأخبار متلاحقة عن فقدِ وموت أفراد واختفاء وظهور والفاعل مجهول والسبب مجهول والقادم في الغيب وكلها حضرت مرة واحدة في مخطط بدأ كي يبقى !
ما بعد السقوط .. حققه قاسـم في جزئين ومدة عرضه تقع في ساعتين ونصف يعتبر بحق إضافةً مهمة الى سجل الافلام الوثائقية التي تناولت نفس الاحداث إلاّ أنه يتميّز كونه صُوِّرَ وأخرِجَ بحرفية فنان ذو تجربة وخبرة واضحة .