ادب وفن

التصوف والفن والقدرة علی توليد المتعة الاستيطيقية (الجمالية) / د. سامان سوراني

في كتابه "سيكولوجية الفن" يقول عالم الجمال الألماني المشهور ريشارد مولر- فراينفلس (١٨٨٢-١٩٤٩) بأن الفن هو شتی ضروب النشاط أو الإنتاج التي يجوز أو "ينبغي" أحيانا أن تتولد منها آثار جمالية (استيطيقية) وإن كان هذا الأثر ليس هو بالضرورة المعيار الأوحد. أما عالم النفس الفرنسي الكبير هنري دولاكروا (١٨٧٣-١٩٣٧) فهو يری بأن الفن لايبدأ إلا في اللحظة التي يتمكن فيها المرء من الإنصراف عن الطابع النفعي للحياة العملية ، لكي يحرر نفسه من حضارة المنفعة وإرادة الحياة.
في التصوف كما في الفن يحاول الإنسان أن يرحل في عالم متغير و محاصر بحدود الزمان والمكان بذاتیته الی السعادة المطلقة ليعيش تجربته الفنية أو الصوفية أو ليصل الی المتعة الجمالية. فالجمال عند الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون هو موضوع محبة النفس لأنه من طبيعتها فنراه يقول في كتابه حوارية فيليبوس: "عندما تصادف النفس ما هو جميل تندفع نحوه لأنها تتعرف إليه إذ إنه من طبيعة مشابهة لطبيعتها أما حين تصادف القبيح هي تنصرف عنه وتنكمش على نفسها لأنه مغاير لطبيعتها." سٶالنا هو ، كيف يستطيع الفنان إدراك الجمال المثالي والمتصوف إدراك الكشف الربؔاني؟
المذاهب الصوفية والفنية المعاصرة في مجموعها تجتمع في مفاهيم روحية وعناصر شكلية مشتركة ، تعمل للوصول في أدائها الى تحقيق الشكل الجوهري الذي يمثل المضمون دون ذلك الشكل السطحي الذي يعبر عن عالم الظواهر القابلة للتحويل والتغير والزوال. المضمون إذن هو الحقيقة الميتافيزيقية الخالدة المتمثلة في الشکل الجوهري. والجانب الحسي هنا يجتمع مع الجانب العقلي في توليد اللذة الجمالية وتذوق العمل الفني أو التجربة الصوفية ليترك الأثر الملموس على الاداء التكويني والروحي.
فالباحث في الشعر المقطعي والفن الغنائي والموسيقي الأندلسي يری بأن التصوف لە أثره الأول والأخير في فن الموشحات والزجل وأن المتصوف والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الأندلسي (١١٦٤-١٢٤٠) الذي رسم مناهج بلوغ السعادة المطلقة وسعی من أجل إلتقاء النسبي بالمطلق كان أول من إستعمل كلا الفنين معاً.
التصوف كما الفن ظاهرة جمالية وعملية مركبة يتناول المسائل النفسية والإجتماعية ويمثل ظاهرة فلسفية معبرة عن رٶية فلسفية معينة ويستوعب جوانب الفكر والإجتماع والدين الأدب والفن ، تعد الأبعاد الروحية من عمدها الرئيسية ، ومن توابعها التدريب عليها في شعاب الحياة.
وسيبقی في الفن والتصوف تذوق الجمال هو الهدف ، جمال الخالق وتجليات المطلق في المخلوق، والإعتناء بجمال القول وجمال اللحن وجمال الصورة و كذلك الخروج من عبثية النظر إلى الجمال لأنه جمال. والجمال بهذه الصفة لغة مشتركة بين جميع أفراد الأسرة الإنسانية ، وبهذا يمكن أن تكون لغة الجمال والنظر الجمالي جسراً للتواصل الإنساني، ذلك أن العقلاء مشتركون في النظر الإجمالي للجمال وإن اختلفوا في وظائف النظر الجمالي. فالتداخل واضح وكبير بين الفن والتصوف لكونهما يعتمدان على العقل والقلب كوسيلة لتوليد الجمال والأخذ بالذوقيات والوجدانيات والاشتراك في مباحث اللذة بالرغم من أن تلقي المعرفة الشهودية وإستجلاء الحقيقة عند المتصوفة يعتمد علی القلب أولاً كوسيلة ولا يقف عند حدود العقل. يذكر شيخ الافلوطينية الفيلسوف الرواقي المشائي نومينيوس (ولد في أفاميا عام 135 ق.م) بأن الوصول الی الجمال لا يأتي إلا عبر المعرفة ، معرفة النفس وأصلها، والانفصال عن كل شيء والتحرر من كل شيء ، المعرفة التي هي عبارة عن رؤية مباشرة يتحد فيها الرائي والمرئي إتحاداً تاماً. العبقري كما يراه الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (١٧٧٠-١٨٣١) هو من يملك المقدرة العامة علی الخلق الفني ، وكذلك الطاقة الضرورية لممارسة هذه المقدرة بأقصی النجع والفعالية. والعبقري الحقيقي هو من يتمكن من تقنية فنه الخارجية في وقت مبكر ويتعلم كيف يرغم أفقر المواد وأقلها مطاوعة في الظاهر علی تجسيد إبداعات تخيله الباطنة وتمثيلها. والسهولة المكتسبة بالممارسة وحدها لاتنجب أبداً عملا فنيا حياً.
الفن والتصوف يستحثان قوانا علی التسامی وكلاهما درس رائع في الإخلاص والفنان أو المتصوف الحقيقي يعبر دائماً عما يجول في ذهنه حتی ولو أدی به الأمر الی أن يطيح بشتی الآراء الذائعة، وهو بذلك يلقن أشباهه من الناس درساً في الصراحة. وللموضوع الجمالي المنبثق من أحضان الموجود البشري قدرة هائلة علی الترقي بالناس الی مستوی "الإنسانية". الصوفية هم الذين إختصوا أكثر من غيرهم بالتأول والغوص علی الباطن. الفكر الحق ينحو دوماً الی إعادة تعريف الأشياء ، لذا نأسف حينما نری البناء النظري في فكرنا لايزال غير محكم و المعارف المشتركة مشوشة و المصطلحات العلمية مختلطة في الأذهان، فعلی العقل في محيطنا القائم الوصول الی مرحلة التجلي والإشراق والتجديد في الرٶية الأصلية ، فمن غير ذلك لا يمكن إستخدام العقل في توليد اللذة الاستيطيقية ، بل يظل إستخدامه قاصر علی إستعماله كأداة استبدادية لرفض المغاير والمختلف أو كنسق مغلق يضيق إستيعاب الجديد. فمع العرفان والفن يتقاطع البيان والبرهان والحدس والإستدلال والوحي والنظر وبهما يتصالح الرمزي والواقعي ويطل الظاهر علی الباطن ويظهر الحق في الحقائق في عالم ثار فيه العقل علی الوجدان وتمرد علی المكان والزمان وصار القانون ضد المصير والحقائق غير الواقع والطبيعة في مقابل التاريخ.
وختاماً: "لن يكون أروع من ذلك التقدم الذي لابد من أن تحرزه الإنسانية لو قدر للصدق أن يسود بين الناس".