ادب وفن

«بابـــل الشعــر».. انثيـالات المعرفــة / جاسم عاصي

ضمن سلسلة مطبوعات مجلة دبي الثقافية الشهرية؛ صدر كتاب من تأليف الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي تحت عنوان "بابل الشعر".
الكتاب محاولة لرصد البنية المعرفية المؤثرة، والقابلة لتتويج الذاكرة المعرفية بمفردات أنتجتها التجربة الغنية للشاعر. وهي معرفة شاملة، تخص الشعر والشعراء، غير أنها لا تغفل مصادر المعرفة الأخرى. إنها محاولة للحفر في أسس المعرفة عبر التلقي بالقراءة، وأسسها المتأتية من التجربة. وعلى نحو ما قال" إرنست همنغواي" في كون الحقيقي مصنوع من التجربة والمعرفة. لذا نرى أن السياحة المعرفية في عوالم الشعراء، اعتمدت خاصية انتقائية، بحيث امتلكت الأسفار حقائق، كانت خلاصتها انبثاق بنى فكرية وأخلاقية، كذلك تنوع في وجهات النظر، أفادت في بلورة مواقف في التاريخ الإبداعي.
فالمؤلف بحفرياته هذه تمكن من استرداد القيمة التاريخية للإبداع والمبدعين من جهة، وعمل على أن يكون التنوع هذا سمة تتداخل مع الجدل التاريخي، في كون حركة التاريخ متمثلة في جزئيات الواقع، تـُشكـّل مدونة في التاريخ البشري. وفي هذا تمت معرفة أن أزلية البقاء للإبداع وحده مهما اختلفت اتجاهاته، سواء في الجنس أو النوع، فصنـّاع هذا التاريخ ومؤلفي مدونته هم المبدعون الذين خبروا الحياة، وتجلدوا جرّاء مسيرتها، بحيث انعكست بشكل مباشر في نتاجهم. كذلك هم من تعاملوا مع حركة الحياة من منطلق المبدئية، بمعنى واكبوا جدليتها وتحاوروا معها باعتبارها الآخر الذي يمدهم بأسس إبداعهم. من هذا حاول المؤلف أن يُقدم رؤى تتبنى السيرة الإبداعية والسيرة الشخصية دون اللجوء إلى المماحكة التي تعكس الاختلاف على أنه حجر الزاوية في ما هو معاش ومطروح عن الآخر. فالحيادية والمنطقية كانا الحدود القصوى في ضبط النفس التي دخلت ملكوت المبدعين وسيّرهم.
ذكرنا أن المؤلف "حجازي" انحاز إلى الشعر والشعراء، ليس من باب اختصاصه، بقدر ما أرى أنه حاول تقصّي الأقرب حسيا. لذا فقد نثر رؤاه ورؤى الآخرين بصورة متوازنة. واعتمد الأفكار والممارسات التي تواكب الفعل الإبداعي فقط. وفي هذا كانت وجهة النظر حاضرة في المتن، في كون المؤلـَف تقصّى ما وراء الواقعة التاريخية، كاغتيال "هيباتيا" عالمة الفلك والرياضيات على أيدي السلفيين المسيحيين في مدينة الإسكندرية عام 1415. فهو بصدد ربط المنُتـَج بالتاريخ ثم بالمكان، لذا نراه يستدرج الممكن من أجل كشف الحقائق والدالات في التاريخ البشري الذي اختلفت فيه الآليات في شدتها المتناهية حد التطرف، وارتخائها حد الاستسلام بدافع الحب والرأفة عند الإنسان، ولن يؤكد إلا على الأهم الخالص في البلاغة التاريخية، لاسيّما علاقة المدن بالمنتِج والمُنتـَج. فقد أكد على أن الحفاظ على الإبداع لابد أن يمر عبر الوثيقة. والوثيقة هنا لا تعني أرخنة الواقعة، بقدر ما هي منح المنتـَج صفة الحيوية التاريخية، أي جعله يمتلك قدرة التاريخ المتمثل في الوثيقة. فالإبداع يعني في جملة ما يعنيه، هو صورة الواقع، منظور له عبر الرؤى والتصورات المتأتية من التجربة والممارسة. ففي حقل المكان المتمثل في المدن كالإسكندرية مثلا يؤكد على أن الصورة ليست فقط كما تتمثل في خيال الأدباء والشعراء، بل كما تـُسجله الوثائق التي تستطيع أن تـُعطينا صورة أغنى وأدق. من هذا يذكر على ما يتوجب إتباعه في تحقيق الصورة الأدق يكون عبر تعدد الوثائق التي تـُعطي حيوية للمشهد المراد التعبير عنه، أو يكون مادة النص.
ولعل هذا ما يؤكد طبيعة الحلم الذي يراود المبدع، وهو يتخذ من المكان مدينته الفاضلة، حيث يؤسس عليها رؤاه وتصوراته، أو ما يُطلق عليها المؤلف المدينة الجامعة أو المجتمع العالمي الذي يتسع لكل الأجناس واللغات، ويرمز له ببرج بابل.. الذي تقول عنه التوراة أن البشر قد شيدوه ليطلوا منه على السماء، ولكن السماء التي فضّلت أن تظل عالية نائية أشاعت في الناس البلبلة وهي مصدر من بابل يدل على تعدد الألسنة واختلاف اللغات. وما اتخاذه من شاعر كـ" مارتيني" سوى كونه يُشكل النقيض مقارنة بماياكوفسكي، الذي تبنى فكر الشغيلة. وهي إشارة إلى أن المستقبليين الروس ارتبطوا بحركة ثورية شعبية، بينما نجد مارتيني انحاز إلى مبدأ القوة في انضمامه إلى الغزاة الإيطاليين، والأفكار الفاشية وموسوليني.
لقد كان المؤلف يستدرج التاريخ للوصول إلى بلاغة الفعل الذي يسطره المبدعون، وقد ضرب أمثلة كثيرة في هذا، وكان محورها مدينة الإسكندرية العريقة، وعكس علاقة المبدعين بها كمكون معرفي مؤثر وخالق ومحفز للإبداع. ولعل اهتمامه بالشاعر" ريلكه" كان أكثر تأكيدا على علاقة الشعراء بالمدن والمدن ذات النبض التاريخي. وكان هذا مبعثه مشاركة المؤلف في احتفالية خصت الشاعر "ريلكه" وتحت عنوان " ريلكة ومصر". ولهذا العنوان أهمية تاريخية وإبداعية كما رآه المؤلف وكما نراه. فالعلاقة امتدت منذ 1911 حيث زار الشاعر مصر. فقد كان انطباع الشاعر"ريلكه" عن مصر بليغا انعكس في رؤيته لأماكنها ورموزها الكبيرة، فهو قد نظر إلى أبي الهول مثلا على أنه ليس تمثالا فقط صنعه إنسان، وإنما هو عمل تناوب عليه صانعان الإنسان الفنان والزمان الفنان، مكللاً كل هذا الفعل الجمالي إطاراً فكرياً دالاً على أزلية المفردة التاريخية التي من خلالها تكون صورة الإنسان أكثر رسوخاً، وأعمق دلالة. لأن صنـّاع التاريخ لهم وحدهم إمكانية جعل خط المسيرة على مدار يعمل على فائدة الإنسان من خلال ما توفره بناهم الفكرية من وسائل ومنجزات، لا سيادة الذات المريضة اللاهثة وراء المنافع.
إن ما يسود في التاريخ البشري هو سيادة الذات، خاصة في فعاليات الحروب التي تضمر نوايا مريضة حتى لو كانت حروب تحرير، لأنها تخرج عن مجال الفكر الإنساني، باتجاه فعاليات مدمرة. لذا فهو كائن يقف شاهدا على الزمان الذي يصنعه آناء الليل وأطراف النهار. الزمان يملأ عينيه بالنور ويكحلهما بالظلمة. الشمس تسقط عليه من جانب، وتنحسر من جانب آخر. والنجوم تسطع على جبينه، والريح تتماوج، والأفلاك تتواكب، والسماء تشتعل. هذا الوصف لا يدل إلا على شدة بلاغة الرؤى والرؤيا التي راودت الشاعر وهو يواجه سحر المكان وموجوداته. كذلك يؤكد على أصالة العلاقة بينه وبين المدن من خلال الانحياز المواكب للمعنى المطلق الذي تـُطلقه المدن أمام الإنسان ليكوّن الصورة عن تلك المدن وشواهدها، كما نرى نحن إزاء شواهد مدننا القديمة، وما يتوجب علينا من إحساس إنساني كبير. لا أن ننظر إليها على أنها تماثيل وأصنام وعصور مندثرة. ذلك لأنها ناتج العقل والذي أنتج حضارة متقدمة وراسخة. إن أشد ما يواجهنا هو سيادة الخرافة التي هي نقيض للعقل.
لذا فنظرتنا إلى التاريخ وعطائه مرهونة بالذات وليس بالموضوع فالأثر كيان فكري معرفي، لأنه ارتبط بالعقل وهو ناتج له.
وبهذا الصدد لابد من معالجة العلاقة بين المبدع والمدن من باب التعلق بالشاهدة أو الشاهد التاريخي. فحين تتحدث عن الإسكندرية وأبو الهول وأور ولكش، يتوجب أن يكون حديثنا بمثل ما نتحدث عن روما وما أنتجته من حضارة لها شواهدها. وفي نفس الوقت لابد من ذكر سومر وأكد وآشور باعتبارها أسست لشواهد كالزقورات والمعابد والمكتبات والأسوار. فهذه المدن إنما أسست رموزها التي هي العلامات المؤكدة على أصالتها وقوة فاعليتها في تأسيس حضارة عريقة. ولعل "جسر بروكلين" كما ذكر المؤلف هو الشاهد التاريخي الذي أقام له الشعب اعتبارات معرفية طقسية، تعاقب عليه الشعراء في الوصف ومنهم وولت ويتمان وماياكوفسكي. وهذا ما ينطبق على مدينة كـ لندن وموقف "إليوت" الرؤيوي منها، حيث استمد كثيراً من أشعاره وأفكاره. لقد أكد الشاعر" ويتمان" في قصيدته "على جسر بروكلين" على أصالة طقس مشاهدة هذا المعلـَم وانعكاسات المدينة على العابر للمدن:
"المد الصاعد يمضي تحتي، وانا أراك وجهاً لوجه
غيوم من الغرب
والشمس لا تزال هناك لنصف ساعة أخرى
وأراك وجهاً لوجه
حشود الرجال ومن النساء
يتنكرون في ثيابك العادية ،
ما أغربكم في عيوني !
فوق الجسر
المئات والمئات من البشر
الذين يعبرون ليعودوا إلى منازلهم".
ويؤكد ما للشعر الجديد من خصائص، يجملها في كونه يعتمد المجاز أو على الاستعارة التي ينظر فيها الشاعر إلى ثقافة القارئ وعلاقات الكلام أكثر مما ينظر إلى اللغة وما تشير إليه. ويؤكد على أن الشاعر كلما اقترب من الخصائص الشعرية وابتعد عن القوانين اللغوية قويت أواصر القربى بين شعر اللغات المختلفة.
وفي تطرقه إلى الشاعر "رينيه شار" حاول أن يجد منطقة يلتقي فيها الشاعر مع" هايدجر" أي لقاء الشعر والفكر. وتكون اللغة هي المنطقة التي تمارس من خلالها الأفعال، سواء كانت علاقة اللغة بالفكر هي علاقة توصيل للبنية، فهي وسيلة، بينما نجدها مع الشاعر غاية، فالمفكر يشير باللغة إلى أفكاره وتوجهاته، بينما الشعر يستحضر العالم بكل غناه ودفئه. وهذا التوجه لم يكن جديدا إذا ما نظرنا إلى علاقة" نيتشة" مع الشاعر" هولدرلن". وقبل كل هذا نكتسب معرفة بالوجود من جهة، ونمتلئ حسا به أيضا. فكلاهما الشاعر والمفكر يؤدي وظيفة تستكمل الحياة، وتوضح صورتها وجمالها. ولعل فعل التوجهين الفكري والشعري يقودان إلى كشف الحلم والواقع. وهو وجه من وجوه القلق الذي يقول نيتشة إن مصدره هو شعورنا بالوحشة في هذا العالم. إننا بإزاء حراك مكتمل بين الشعر والفكر فهما وجهان لعملة واحدة، ورينيه شار يبحث في شعره عن جوهر وجوده، وهايدجر يطرح مشكلة الوجود من خلال إعادة النظر في التراث الفلسفي.
عموما نرى أن الكتاب المعرفي كـ "بابل الشعر" للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي إطلالة عميقة لقراءات متباينة في الثراء والرؤى، لأنه أساسا حفر في مثل هذه المتون المعرفية، سواء ما كانت تخص الشعراء والمفكرين وذوي المعرفة والثقافة المفيدة للإنسان، والعاملة على محور بناء الحياة وتجميل صورتها. منطلقين من مركزية مهمة في الحراك الثقافي والمعرفي، في تشييد معمار الوجود، وخلق بؤر نافذة تعمل على إعطاء صور متزاحمة في التجديد.