ادب وفن

"أطراس حارس الزمن".. والبحث عن الخلاص / علاء العبادي

في أول الأمر يُقر الشاعر، أو لنقُل الراوي، في قصائد الشاعر كاظم اللايذ، في ديوانه "أطراس حارس الزمن" أنه لا يملك إلا فنّه وخيالاته وأساطيره التي لا تجدي نفعا، ويستعير في أول قصيدة في الديوان وهي "تاج محل" من كلمات صورة لهندوسي عجوز يمثّل ربما الأساطيرَ القديمة والخرافاتِ والعوزَ والجوع، ليرمز للشاعر أو للراوي الذي يشترك مع الهندوسي العجوز في كل تلك المواصفات أو الملمات، و يعترف بأنه غير قادر على منح حبيبته ما ترغب فيه من حلي وثراء، فهو ليس شاه جيهان الذي أهدى زوجته ممتاز قصرَ تاج محل بكل بهائه و روعته، و يعترف:
أنا الهندوسي الفقير
الذي لا يحسن إلا الغناء..
و التحديق في النجوم..
إن "تاج محل" الذي باستطاعتي أن أشيده لك
هو – فقط - تاج محل.. من كلمات.
إلا أننا ندرك بعد حين أن الشاعر نفسه يعرف ان تلك الكلمات، والتي هي ملكُه الوحيد وسلاحُه الأوحد، قد تكون أهم من زخارف تاج محل وتلاوينِه، فالكلمات التي يقولها الآن قد جُبلت بماء التاريخ وعذاباته وصارت الضميرَ الناطقَ والشاهد الماثلَ أمامنا لكلِّ ما مرَّ على الأجيال فصارت مقدسة ومهيبة، وهذا ما يقوله في "المهاتما غاندي".
الأناشيد
تلك التي صنعتها القرون
والتبست بالعذاب
ثم صارت على شفة الهند أغنية
ثم كانت بجوف المعابد ترتيلة و صلاة.
وإذا كان للكلمات كلُّ هذه الأهميةِ فإن للقمرِ أهميةً مماثلة عند الشاعر، وطالما كان القمرُ رمزا للجمال والحبِّ والسحرِ والإلهام، إلا أن الشاعر يراه بمنظار آخر، فهو يشارك الشعراءَ خيالاتهم بشإن القمر لأنه مبعثُ الإلهامِ و خالقُ الشعر و جنون الشعراء، فهو يقول في "حارس الزمن": "أنت من علّمني الوهمَ، ودلاني أفانين الخبالاتِ، وغذاني الجنون." إلا أنه يختلفُ عن غيره من الشعراء في أنه يضفي على هذا القمر معاني العزلةِ و النبذ و الغربة، فالقمر "يوغل في الوحشة، في هاوية الليلِ، عن الأفلاك معزول رجيم." و هو يرى القمرَ رمزا لانكشاف الرؤيا، فهو "يتدلى عاريا" لأنه لا يعرف الزيف والمداراة والأوهام، فقمره صريح حدَّ العري والانكشاف على كلِّ الحقائقِ المرةِ، فكان "شاخصا كاللعنة السوداء، متروكا بلا ثوبٍ" وتلك هي لعنة المعرفة وإدراك ما لا يُقبَلُ إدراكه فيُصبح القمرُ "حارسا للزمن الدوّار، عداد الليالي البيض، عداد الليالي السود." أي أنه الشاهد الكبير على دورة الأفلاك و اضطراب الأقدار و اختلاط الرؤيا، فهو "حمال المفاتيح لأسرار النجوم".
لا ينفك الشاعرُ في ديوانه يبحث عن ملاذ أو عن خلاص ما يحميه من رحلة طويلة وشاقةٍ لم يخترها، وهو يحتمي بالكلمات أو بالتعلق بخيوط القمر أو بركوب قطارِ الغربة والوجع أملاً في رؤية محطات جديدة أو في الوصول الى المحطة الأخيرة، سواء أكانت تلك الرحلة ممتعةً عذبة أو مملةً سقيمة، ففي قصيدته "محمود ينزل من قطاره الصاعد الى بغداد" يخاطبُ الشاعرُ القاصَ الراحلَ محمود عبد الوهاب، إلا أن المتمعن في أسطرها يدرك أن الشاعر يحاور ذاتَه، فرحلة القطار الرمزية تشير الى رحلةَ العمر.
ينود القطار
فيهتز فوق الزجاجة نجمٌ
ويمتد كونٌ رحيب
ويمضي يبعثر دخانه في المفازات.
إن كلَّ محاولات الشاعر في الخلاص منغمسةٌ في أملٍ كبير هو أن يأتي الخلاص عن طريق واحدة من هذه المحاولات أو عن طريقها كلها معاً، فهو مثلا يُنشئ من لحن القطار على سكّته نغما للخلاص القريب، "يقول لك الليل: ما أطول الدربَ!، وأنت تصرُّ على قرب فجر سعيد." ويمضي الشاعر قدُما في أحلامه الوردية واعتقاده بالخلاص الآتي وتستمرُ رحلةُ القطار الموازيةُ لخيالات الشاعر، إلا أن صوتا من عالم مجهولٍ يخاطبه، ومن ورائه القاص محمود عبد الوهاب، لينقلهما الى طبقة مخالفةٍ من المعرفة، طبقةٍ في أعماق الإدراك، بعد أن يزيح الشاعرُ طبقاتِ الوهم المتراكمة، ذلك الوهم الذي صنعه قلباهما النقيان وبحثهما الدائم عن الخلاص، فتنكشف الرؤيا لديهما و يصابان بإحباط كبير بعد أن يعرفا أن بحثهما و خيالاتهما مجرد أضغاث أحلام.
فكيف يفوتك
أنت الذي يقرأ الغيب
ان قطارك
مازال رهن سقيفته
جاثما في المكان الظليل
يراوح فوق حديدته
في الفراغ
وان الوصول الى عدن
حلمك المستحيل.
إن بحث الشاعر عن الخلاص في قصيدة "كوني يا أم شفيعي" ليمتزج بإحساس فاجع بالذنب، "ها إني أودِع روحي في كف الشيطان، وأغرق في أوحال الآثام..، فكوني عند الله شفيعي." الأم، كما يراها الشاعر، طيبةٌ وقدريّة لذلك فهي خيرُ شفيعٍ، وهي "تستقبل وابل الويلات، بالابتسام، وتهش للمصيبات، بالآس والشموع." الأم هي الطرف الثاني المعادل للمتحدث ولكن باتجاه مخالف، فهي بريئةٌ مسالمةٌ لم تترك بعد موتها "إلا أثوابها السود، ومصحفَها الملفوفَ بقماشة الحرير" بينما هو غارق في فردوس الحياة الشهواني، وباحثٌ قلقٌ لا يمكن إشباعُ نهمَ روحِه لمعرفة الحقيقة الغائبة والتي ربما لم تفكر الأم بها، فتضحى روحُه تعيسةً مضطربةً "كسروال على حبل الغسيل، تعبث به الريح" ويزداد تذمرا فيرتدّ التذمر عل الذات احتقارا لوضعها الوجودي، وينعكس على المحيطين به فيَمقتهم وينزعج من وجودهم فيما حوله، فيقول "وأوقاتي شتائم، أكورها..، ثم أقذف بها على المارة." إنه ليخجل من هذا الوضع البشري المتذبذب والذي يُشبه حديقة جهنمية، ويكاد هو أن يكون آدم الذي يخصف عريَه بأوراق الشجر بعد ان اطّلع على شهوانية الإنسان ورغبتِه في الرذيلة، لكنه يختلف عن آدم في أنه كان يريد أن يستر عريَه الروحي، لكن تلك الروح بقيت شبه عارية، إذ أن ورق الشجرِ كان ذابلا، والشاعر يستعيرُ الوجهَ هنا للدلالة على الروح، كما أن الخفافيش، وهي طيور الظلام والمجهول والخوف، تذرق على صلعته إمعانا في الانتقام منه واحتقاره. يقول الشاعر:
في الحديقة التي أزهارها رؤوس الشياطين
ورؤوس ألسنة السعالي
وماؤها دم الرذيلة الأسود
يخصف الشجر على وجهي
اوراقه الميتة
وتذرق الخفافيش على صلعتي.
إن صورة الحديقة لتُذكر بوصف هاملت للحياة بعد أن خاب ظنُّه بأمِه وبعمِه وبكل ما حوله فرأى أن الحياة "حديقةٌ مكتظة بأدغال و طحالب، وأشياء تنمو بكثافة غريبة تتلبس بها."
ومن جهة أخرى، تقابل صورةُ الأمِ الراحلةِ صورةَ الزوجة الراحلة، وهما مرتبطتان بعالم غيرِ عالمِنا، إلا أن نوع الارتباط مختلف في الحالتين كما سنرى. يعمل الخيال المرهف للمتحدث في قصيدة "امرأة من العالم السفلي" على إعادة الإحساس المادي بالزوجة الراحلة، فهي "ترقد هامدة في العتمات" في "ظلمة عالمها السفلي"و لأنها الآن في عالم الملكوت الروحاني الغامض فهي قادرة على أن تعود بروحها الى عالمنا، ولذلك فالشاعر يجعلها تعود، بدلا عن أن يرتحل المتحدث بنفسه الى عالمها السفلي، فقد اشتاقت للعالم الدنيوي الذي فارقته و لزوجها وأطفالها بعد أن استطاعت الفرار من "حراس مليك الأموات" فتصل إلى زوجها الحي وتطلب منه ماءً وغذاءً، ويرمز ذلك الى الحياة التي جمعتهما معا من قبل، وكأنهما يستعيدان تلك الحياة، ولا يكاد المتحدث يراها بوضوح إلا أنه يسمع "خطفتها ما بين الحجرات" إذ "تروح الى غرف الأطفال، تُصلح نومَتَهم، وترد عليهم أغطية، و تهدهدهم بالآيات." ثم تقترب منه أكثر فأكثر، فيقول:
أهجس أنفاسا عند سريري
أفتح عينيّ
أراها واقفة
في العتمة
تنظر في وجهي
ودون كلام تمضي..
أتبع
خفق خطاها
تهبط في الدركات
تروح الى عالمها السفلي.
إن الرجل ليفتقدها بمرارة و يشعر بحرقة الخسارة والفقدان، إلا أن الأدهى ان الإحساس بالخسارة معجون بإحساس مختلف هو الغموض الذي يغلف ذلك الفقدان الذي لا يبرره شيء، فهي لا تصعد نحو الفردوس كما فعلت الأم في "كوني يا أم شفيعي" والتي ارتحلت الى "فجوة في غيوم السماء"، بل "تهبط في الدركات، تروح الى عالمها السفلي"، وقد يُعزى ذلك الى اختلاف طبيعة الشعور نحو الأم ونحو الزوجة. فالأم روحانية طاهرة يمكنها أن تشفع لغيرها عند الله، بينما الزوجة انسان يتماهى و يذوب في مادية الكون فلا تساعد في الخلاص كما تفعل الأم، ولذلك نرى أن الزوجة، في هذه القصيدة، تؤثر أن تعود الى هذه الحياة خشية أن لا تجد خلاصا هناك، بينما تمكث الأم في العالم الآخر لأنها قد وجدت الخلاص، ويسعى الابن إلى أن يرحل اليها علّها تهبه الخلاص. يقول الشاعر:
سأجيئك
يا أماه
منهكا، و ملوثا
تثقلني الأوزار
و تملؤني الآثام
فكوني يا أمّ
أمام الله شفيعي.