ادب وفن

حيوية الحضور في مشغل الرواية العربية / مروان ياسين الدليمي

أي مراقب لماكنة الثقافة العربية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، سيجد اهتماما كبيرا بالنتاج الروائي العربي بدأت تعلو وتائره من قبل مؤسسات وفعاليات ثقافية عربية، مقابل تراجع حاد في رصيد الشعر، مع أن النص الشعري بقي ثابتا في مكانته العالية ولم يتزحزح منها حتى بعد أن نزحت كثير من قوافل الشعراء منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي عن مضارب القصيدة الكلاسيكية، باتجاه حقول قصيدة النثر، ومن ثم فضاءات النص الشعري المفتوح، وبقي الشعر في كافة أشكاله يحتل المركز في السياق العام لمسار الثقافة العربية وذاكرتها النرجسية لعشرات السنين.
وإذا ما حاولنا تحليل هذه الظاهرة ومعرفة العوامل المؤثرة فيها، فإننا سنجد من ضمن هذه العوامل التي لعبت دورا مهما في هذا الموضوع ما حصل من تحولات ثورية كان العالم قد شهدها في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، لعل أبرزها ظهور البث التلفزيوني الفضائي، واكتساح أجهزة الهاتف الخليوي والأجهزة الرقمية، فتركت هذه المفردات أثرا عميقا سلبا وإيجابا في حياة الإنسان الشخصية وعلى المجتمعات عموما، فكان من المنطقي أن يحصل تحول في مزاج الإنسان واهتماماته وانشغالاته، وصولاً إلى الروافد الثقافية التي تتشكل منها ثقافته، إضافة إلى ما شهدته المنطقة العربية من هزات عنيفة بعد غزو الكويت في الثاني من آب1990، وما تركه هذا الحدث من تصدعات وانكسارات وانهيارات دراماتيكية، مازالت تتفاعل وتفعل فعلها المؤثر في خريطة المنطقة الجيوسياسية والاجتماعية، وبدأنا نرى بأم أعيننا أول ملامحها.
وبتقديرنا كان لهذه العوامل، التي أشرنا إليها، أثر عميق، وفي محصلته النهائية جاء لصالح الكتابة السردية بشكل عام والرواية بشكل خاص، فأمست تتسع المساحة التي تتحرك عليها وتتجذر في تربة الثقافة العربية، بعد أن أصبحت هنالك ضرورة ملحة لملاحقة ورصد التحولات الهائلة التي عصفت بسكونية الواقع العربي، والسرد يملك من الإمكانات التقنية ما يتيح له أن يتعامل ويتفاعل مع تنوع الأدوات التي باتت تحتشد بها وقائع الحياة، من أحداث وحكايات ورسائل ووثائق وأفلام وخطابات وسجلات ومخطوطات ومذكرات، بالشكل الذي يستوعبها ويتمكن من توظيفها فنيا، في بنية متخيلة بدون أن يكون ذلك على حساب قيمتها الوثائقية والموضوعية، وهذا الخيار التقنياتي لا يتوفر لدى الشعر، وفي ما لو توفر في النص الشعري المفتوح وقصيدة النثر فإن ذلك لن يكون على هذه الحرية التي يوفرها السرد الروائي. يمكن القول بأن الرواية هذه الأيام تعيش مرحلة انتعاش وازدهار في عموم المنطقة العربية، وفي مقدمة ذلك العراق، حيث بدأنا نشهد تحولا مدهشا نحو الكتابة السردية، خاصة الرواية أكبر بكثير مما كانت عليه قبل عام 2003، وتشير الإحصائيات التي عمل عليها عدد من الروائيين والنقاد العراقيين إلى أن مجموع ما تم إنتاجه من أعمال روائية قبل عام 2003 لم يصل إلى أكثر من 140 رواية عراقية، بينما قفز هذا الرقم بعد هذا التاريخ ليصل حتى شهر تموز 2014 إلى اكثر من 500 رواية عراقية، تم إنتاجها خلال عشرة أعوام. إلا أن هذا الكم الهائل من العناوين الروائية الذي تفاجأنا به في زمن قياسي، لا يمكن تصنيفه كله في خانة الأدب المستوفي لشروط الكتابة الروائية، إذا ما أردنا أن نكون منصفين وموضوعيين، من بعد أن ندفع به إلى طاولة النقد الأكاديمي. ويمكن القول إن هناك الكثير من تلك الأعمال لا يستحق القراءة لأنه لا يحمل من العناصر الفنية ما يؤهله لأن يوضع في المكتبة الروائية العربية.
في الوقت نفسه فإن هذا الكم كان يحمل دلالة ذات أهمية تشير إلى أن فن كتابة الرواية أصبح يتصدر اهتمام المواهب الجديدة من الكتاب، إضافة إلى بقية العاملين في ميـــــدان الثقافة والإبداع من شعراء وقصاصين وكتاب صحافيين، حتى أن كتابة الرواية أمســــت بمثابة مدعاة للمباهاة والتفاخر لكل من يسعى إلى الشهرة وإثبات الحضور في المشهد الثقافي، فكانت النتيجة أن تكدست على رفوف مكتباتنا الشخصية كثير من المطبوعات التي أهديت لنا من مؤلفيها باعتبــــارها أعمالا روائية، ولم نستطع أن نكمــــل قراءتها، ليس لأنها تتــــوفر على جرعة زائدة من التجريب الفني، في إطار الشكل ولغة الخطاب بما يجعلها تتفوق على ذائقتنا النقدية، لتضعــــنا بالتالي أمام تحد يرغمنا على إعادة النظر فيها، إنما لأنها تحمل قدرا من الثرثـــرة اللغوية الزائدة والتخبط في التركيبة الفنية، بما يدفع بـــها إلى أن تفقد هويتها التجنيسية، ما يعني فقدانها لغة ومفردات التواصــل مع القارئ، وربما مثل هذه النتاجات يصح أن تكون أعمالا أدبية تنتــمي إلى أجناس إبداعية أخرى غير جنس الرواية، كأن تكون قصيدة نثر أو مذكرات أو سيرة ذاتية، إلى غير ذلك من أشكال الكتابة الأخرى التي تحمل بين سطورها سردا روائيا مبعثرا هنا وهناك، إلا أنها أبعد من أن تصنف عملا روائيا، وهذا أيضا يستدعي منا أن لا نستبعد من دائرة الاهتمام النقدي أعمالا روائية فريدة في بنيتها الفنية غامر مبدعوها من خلالها في الدخول إلى مناطق جديدة من الاشتغال الفني، على سبيل المثال لا الحصر رواية "مالك الحزين" للكاتب المصري إبراهيم أصلان.
ونظرا لما تحمله تلك الأعمال من هاجس التجاوز في بنيتها ولغتها وتعاملها مع الزمن وبقية مفردات خطابها الفني نجدها دائما ما تكون حاضرة في دائرة التناول والتداول النقدي، على الاقل في إطار الحلقات والدراسات الأكاديمية، حتى إن لم تحظ بمساحة واسعة من اهتمام عموم القراء. كان من نتائج هذه الفورة الروائية أن انتجت لنا العديد من الأسماء الجديدة، وفي أكثر من بلد عربي، وقد بدا على هذه الاسماء أنها تملك موهبة وإمكانية حرفية بما يجعلها قادرة على أن تقدم لنا أعمالا تستحق القراءة والمتابعة النقدية، لما تحمل في داخلها من توق إلى التحديث في بنية الخطاب الفني، سواء من حيث اللغة التي ابتعدوا فيها عن الصيغ البلاغة الزخرفية، أو من حيث تقنيات السرد التي ركزوا عليها وباتوا يولونها أهمية في تشكيل معمار الرواية، وفي مقدمة ذلك تقنية التبئير أو وجهة النظر "حسب الناقد جيرار جينت" التي يسرد من خلالها الكاتب خطابه الروائي، إضافة إلى أنهم بدوا أكثر حرصا على أن ينتظم عملهم بالشكل الاحترافي، لذا نجدهم في غاية الحرص على أن يقدموا للقراء عملا روائيا جديدا كل عام، وهنا لعبت جوائز ومسابقات الرواية دورا أساسيا في ذلك، ولم تكن موجودة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين.
لسنين طويلة كان المشغل الروائي يعاني ضعفا في خصوبته، وما كان أمامنا سوى أسماء معينة بقيت تتسيد المشهد عقودا طويلة، ودائما ما كان القراء يتطلعون إليها بكل اهتمام وفخر، وينتظرون منها أعمالا جديدة وعادة ما كانت أعمالهم ترى النور خلال فترات زمنية متباعدة، ويقف الكاتب المصري نجيب محفوظ في مقدمة هذه الأسماء، إلى جانب آخرين لم يستطيعوا رغم موهبتهم وإمكاناتهم أن يزاحموه على المساحة والمكانة الجماهيرية الواسعة، التي بقي يهيمن عليها لأكثر من نصف قرن، وربما لايزال محفوظ يشكل رقما صعبا من حيث عدد القراء الذين يبحثون عن رواياته، لأنهم يجدون فيها متعة الحكي والسرد، نظرا لِما تحمله من خصوصية فنية مشبعة بالعلامات المحلية، سواء من حيث الشخصية التي اكتسبت وبامتياز بصمة نجيب محفوظ، أو من حيث الفضاء المكاني الذي تدور بين أروقته الأحداث والحكايات، إضافة إلى ما تحمله من احتفاء بنزعة التمرد الإنساني على السلطة في أشكالها المختلفة الدينية والاجتماعية والسياسية.
لا بد من التوقف هنا أمام نماذج روائية خرجت علينا خلال العقدين الأخيرين مقبلة من منطقة الخليج العربي، وهي أرض بكر تعدنا بالكثير، لم يكن لهذه المنطقة حضور يذكر في الإنتاج الروائي حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي ــ باستثناء الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل ــ حيث بدأت تعلن عن نفسها وتفرض حضورها بما يدعو إلى متابعتها عبر عدد من الاسماء ـــ كتابا وكاتبات ـــ بناء على ما حفلت به نتاجاتهم من تفاعل واستيعاب للمنتج الروائي العالمي، نتيجة إتقان أكثريتهم للغة الإنكليزية وبعضهم تخرج من جامعات أمريكية وأوروبية، ومن هنا حفلت نتاجات عدد منهم بإرهاصات الكتابة الروائية الحديثة، من حيث الوعي بتقنياتها، إضافة إلى ما طرحته من أسئلة منها ما يتعلق بتجديد لغة وآليات السرد ومنها ما يتصدى للواقع.
إن التجديد في تقنيات الكتابة السردية في المنتج العالمي في إطار الخروج عن التنميط والمحددات النقدية دائما ما فرض على الروائي العربي أن يعيد النظر في مشروعه الروائي، منذ أن دخل هذا الجنس الأدبي مشغل الثقافة العربية، ليكون هاجسه الدائم البحث في آليات اشتغاله عن طرق مختلفة في تلقي العمل الأدبي القائم على بنية مركبة، بما يضعه في حالة انسجام مع عصره الذي تداخلت فيه الطرز الأدبية مع بعضها بعضا، ولتتقدم علاقة الكاتب الثقافية والإنسانية التي يتفاعل من خلالها مع الواقع بمحتواها وشكلها إلى ما يتوق إليه في أن يخرج بمقدمات فنية تحمل ملامح التجاوز على ما هو معطى من أساليب سبق للرواية العربية أن أجابت عليها وقدمتها في نماذج مهمة طيلة مسار تاريخي قطعته خلال رحلة تأسيسها ومحاولات تجذرها في بنية الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين.