ادب وفن

الروائي موسى غافل الشطري .. .«الياقوتة السوداء» .. فيزيائية السرد ومسوحات المشهد الريفي / هاني كنهر عبد زيد

يرى المختصّون بكتابة السيناريو أن كتابة السيناريو عملية شاقة جداً تتطلب جهداً كبيرا بالمقارنة مع كتابة المسرحية والرواية والقصة؛ لأنَّ كاتب السيناريو حسب قولهم يجب أن يكون محترفاً متمرّساً وعارفا بتقنيات السينما، وأن يكون مطّلعاً على آليات صناعة الفيلم وخفاياها وأسرارها وخدعها. إذ تأخذ اللقطات والمشاهد طابعاً تعاقبياً, وتأخذ كل جملة سردية رقماً متسلسلاً معيناً، وعلى كاتب السيناريو أن يتقن حركات الكاميرا؛ ليعرف طرائق التشخيص والتمثيل وزوايا النظر. فالكاميرا قد تكون ثابتة المدار أو دائرية أو متحركة أو مرتفعة , ليتلقط صوره على الشكل الآتي:
اللقطة العامة: تلتقط فيها لقطة عامة ينقل فيها لنا الفضاء العام الذي ستجري فيه الأحداث.
اللقطة المتوسطة: تصور الشخصيات بشكل كلّي داخل ديكور معين.
اللقطة الكبرى: تلغي هذه اللقطة المساحة والبعد وتلتقط شيئا مكبرا واحدا.
اللقطة الكبيرة جدا: تلتقط الأشياء وأجزاء من الشخصية بشكل مفصل بطريقة "zoom".
وكما هو الحال مع كتاب السيناريو يبدأ موسى غافل الشطريّ في روايته "الياقوتة السوداء" بداية سينمائية, إذ يأتي باللقطة العامة ليرسم خلفية كبيرة يتكأ عليها في زرع تفاصيل الرواية "الهدوء الأخّاذ - منظر الطبيعة الخلّاب - زخات المطر - الأرض البليلة-نقاء الصباح - الريح العذبة - رفيف جناح الطير - الرعاة وأغنامهم"، ثمّ دروب المدينة "أسراب الطيور - مزارع القمح – المراتع – المواشي".
عند النقطة الثانية يكون الشطري قد أكمل رسم الخلفية بهذه اللقطة العامة, وهذه اللقطة هي البداية الفيزياوية للرواية غير أنها في الحقيقة ليست البداية الشعورية لها, فهي لا تخرج عن كونها لوحة فنية سيبني عليها سرد الأحداث وتشابكها.
ثم تبدأ كاميرا المصور الشطريّ بتقريب اللقطة (zoom) ليصور لنا حال الريف عبر حكايات فدعة لأطفال المدينة من "حياة مليئة بكلّ ما يحلم فيه البشر هناك في الريف- أيام الحصاد-أغاني الريفيات ورقصهن- موضع الأكداس - جمع البيض – البيادر – التسويق – السقي", وهنا تتوالى أسئلة الأطفال لفدعة "خالة فدعة حلوة حياتهم- شنو يتفلحون خالة".
ثم يقرب كامرته ليصل الى اللقطة الكبرى وهي زواج سعدة من خلف سركال الشيخ حرب, هذا الشيخ المعروف بالحظ والبخت حتى يبدو لها أنه انسان غير طبيعي الى حد يجعلها تفكر مستفهمة "أ برازه مثل باقي الناس أم لا". حتى أنها كانت تحلم بأنه يجلس على كرسي وتحفّه الملائكة, وتصلى على محمد وآل محمد, وتتمنى لو أنها تجالسه وتحكي معه "فهذا الذي يتعمم بعمة الأولياء يستطيع أحد أن يشك بكون أحشائه أطهر من الجوهر".
وهنا يحرك الشطري أدواته اللغوية لالتقاط اللقطة الكبيرة جداً ليكشف أن الشيخ حرب ليس له من الحظ والبخت سوى الاسم وهو انسان في منتهى القباحة والسذاجة يتّصف بالغدر وتدبّر المكائد.
بهذه اللقطات السينمائية رسم الروائي موسى غافل الشطريّ روايته ووضع اللقطة العامة على غلافها.
ترمي رواية "الياقوتة السوداء" إلى كشف واقع مجتمع الريف العراقي وهويته, هذا المجتمع الذي يُعدّ المغذي لكلِّ المجتمعات في الأمس القريب, يرسم شخصياته عبر الآلية السابق ذكرها مركزاً كلَّ التركيز على خفايا هذا المجتمع وعاداته وتقاليده, ليجسّد صور الظلم الاجتماعي الذي وصل الى حد الانتهاكات الجسدية الوضيعة المتتالية والعاتية على نساء القرية وتصفية رجالها أو إقصائهم عن دفة الحظ والبخت, وفي الوقت ذاته ترمي هذه الرواية الى فضح حالات الذلّ والخنوع، وقد أكّد تلك القيم تأكيداً عظيماً إذ جاءت هذه روايته بمثابة صرخة تذكير بمجتمع أبادته الأنظمة الاجتماعية الجاهلة, وأكاد أجزم أن الشطريّ يؤمن بل يجسّد ثورية الأدب "الأدب ثورة".
وينبغي القول أن من يتناول مجتمع الريف يجب أن يكون عارفاً بهذا المجتمع ومتغلغلاً بين سكانه, للوقوف على أسراره وخفاياه, زد على ذلك الجرأة إذ بغير الجرأة لم يستطع الكاتب الاتيان بجديد, وأعني بها عدم الخوف من اقتحام مناطق جديدة في اللغة واكتشاف علاقتها, والرواية بما تملك من إمتاع تجعل المتلقي يتمسّك بمناخها إلى المشاهد الأخيرة, ليجرّه الى الخوض في سياحة تدمج المتناقضات اعتمد الكاتب فيها على أساس الموضوعية والواقعية الاجتماعية والفن اللغوي, والأسلوب الأدبي, وشيء من التحليل الفكري الحواري, وتوصيل المعنى بالاحساس لاسيما في وصف المشاهد الجنسية ووصف نضج المراهقات.
وأنت تقرأ الياقوتة السوداء تشعر بفيزيائية السرد فيها، فالاستمرارية خاصية فيزيائية تلحق الاجسام فعلى سبيل التمثيل "الراكب في سيارة تسير بمعدل 180 في الساعة ينساق جسمه إلى الأمام وفق أي توقف مفاجئ، والذي يركب سيارة تسير في طريق غير معبّد يحتاج إلى أن يتنبه حتى لا يقع في فخ الفيزياء"، وهذا ينطبق تماماً على قارئ الياقوتة السوداء؛ إذ يحتاج إلى أن يكون على قدرٍ وافٍ من التنبه؛ ليتمكن من فكّ رموز الطريق إلى نهاية الرواية واتمامها, إذ إن تنوع السرد فيها وتحول الأحداث قد يؤدي إلى كسر أفق توقع القارئ على أنَّ لغة الرواية تتصف بسهولتها غير أنه يفخخ السرد بجمل سردية تشير الى معان عميقة تكشفها الرواية بعد حين؛ فعلى سبيل التمثيل لا الحصر في سياق ذكر ولادة سعدة يقول: "كأنها ترفض رؤية العالم الجديد" كتمهيد لما ستعيشه من المصائب, وفي سياق ذكر قصص الريف التي كانت تقصّها فدعة على مسامع الأطفال يقول:" ذلك الذي بالغت فيه أمها", ويتضح ذلك جلياً عند سرد علاقة بدر ببدرية, إذ يقول: "بحنان متدفق يشوبه القلق المبهم- تضع يده اليمنى على قلبها ثم تقبله", وهذه اليد اليمنى هي نفسها أطلقت رصاصة الموت في قلبها أولاً ثم في فمها, فهذه الجمل السردية تشير الى أحداث مهمة تكشفها الرواية شيئاً فشيئاً.
الشطريّ بارع في رسم الشخصية حتى أنّك تستطيع القول أنّه لم يختر الكاتب أسماء عشوائية ليلصقها بشخوص روايته، بل تلك الأسماء لها بعد رمزي، خذ مثلا "بدرية" فهم اسم يوحي لك بجمال صاحبه ورقته, لكنّه في سرد الأحداث لا يبخل برسم صورتها إذ يقول:"تلك الملامح التي لم تحظ بها ابنة ريف على الاطلاق" هذه الفتاة الجميلة التي رسمت الرواية عذريتها؛ إذ إنها لم تسمح حتى لأشعة الشمس للولوج الى وجهها والتلاعب بمفاتنه غير أن الرواية تخبرنا بأنها قتلت بذريعة "غسل العار" وهذا تجسيد واقعي لأعتى أنواع الظلم المجتمعي وهو بوحٌ بأن "غسل العار" ما هو إلّا كذبة لتحقيق هدف فاسد.
وتلك سعدة السوداء لكنها بيضاء القلب والسريرة, كلّ ما يصدر منها من قول أو فعل ممدوح كطيب رائحة السعد "خد سعدة ريحته مثل المسك", وإن كان البؤس هو سبب تسميتها كما صرّح به في الرواية غير أنَّ هذا التضاد في الاسم قاد الى سيادة التخيلات المشوشة التي خلطت بين الحلم والحقيقة, إذ لا تشعر سعده بأنها إنسان كلي بل غالباً ما تجد نفسها منقسمة على ذاتها ممزقة تعاني التناقضات "يمه ليش همه سود... فدوة يمه - عود ليش الله ما خلق الناس خلقة وحدة؟ لو بيض لو سود مو أحسن, لا يمه هذا الكلام حرام قابل الله ما عنده بيها غاية – غايتيش".
وتتجلى رمزية الأسماء في شخصية "الشيخ حرب" صاحب الحظ والبخت فالحرب اسم جامع لكل معاني الانتهاك وسلب الحريات ومصادرتها, وهو معنى يتجّسد في شخصية الشيخ, حتى يمكن القول أن الشطري قام بأنسنة المعاني وبثّها في شخوص روايته, وشخصية حرب هذه تعطي للرواية بعدا رمزيا رغم واقعيتها فأصحاب الحظ والبخت يسيّرون الأمور لمصالحهم على حساب الآخرين حتى إذا تطلب الأمر ابتزاز أعراضهم, على الرغم من أنهم رعاة كرامة الناس وعزّتهم حتى أن الناس يؤمنون بهم إلى حد العبادة. وكلُّ شخصيات الرواية تعمل بطريقة أو بأخرى على إعاقة تحقيق المأمول, وتساعد على تحقق الألم والوجع، ثم أنك تجد قاموس الشطري يختلف من شخصية إلى أخرى، فالألفاظ التي تتصف بالرقة توافق الرقيق وترافقه، والألفاظ الخشنة توافق حرب، وألفاظ الذلّ والهوان توافق خلف لفظا ومعنى "صار عمي" وإن كان ذا سلطة في ذلك المجتمع.
وهذه الشخصيات رغم رمزيتها فإن الروائي جعل لها قاسما مشتركا وهو البحث عن السعادة والحياة الآمنة, ولكن بطرق مختلفة شرعية وغير شرعية, وهذا محور الصراع في الرواية.
يضع الشطريّ القارئ أسير قلمه ينتقل به بين سطور الموت والحياة, غير أنَّ الحياة هنا لم تكن حياة بالمعنى الدقيق بل هي حياة مشحونة بكل معاني الذلّ والهوان، فهم مسلوبو الإرادة وإذا ما ماتوا "مهما كان قربهم من حرب" لم يحدث ذلك خللاً ملحوظاً في المنظومة العشائرية فهي لا تتوقف عند أحد؛ بخلاف المدينة إذ "كان الحدث المؤلم يوجع المدينة بأكملها", إذن لا توجد سعادة ولا حياة جميلة تبهر الأنسان ما دام أصحاب الحظ والبخت يملكون زمام الأمور.
والرواية تقص لنا العيش في بيئتين متناقضتين المدينة والريف غير أن ألفاظ الجوع والحرمان التي سردت لنا حال سعده وأبيها وأمها ساعدت على وضع مقاربة فنية بينهما, لكنها مع ذلك التقارب جسّدت الصراع القيمي والأخلاقي بين الريف والمدينة الى حدّ العزلة بين الاثنين وظهر ذلك جلياً بانعزال الزوجة صفية الحضرية عن باقي زوجات الشيخ حرب ولم تقترب الا من سعدة كونها من المدينة.
خاتمة الرواية كانت نهاية مفتوحة على أفق أكثر تشاؤماً وانعدام الأمل بالمستقبل, فكلُّ مصادر النور في الرواية قد انطفأت وضاع بريقها "بدر بدرية شمران حتى سعدة البيضاء".