ادب وفن

"يوسف لا يعرف الحب".. الميثولوجيا والواقع في أعمدة النص / أحمد عواد الخزاعي

رواية غابت عنها ثقافة المكان، لوحة سريالية مقاربة لمسرح العبث، ندرة في الوصف، تلاشي للزمن الحكائي بين طيات الأسئلة الكبيرة، وحمى البحث عن الإجابات.. قصدية متوارية إلا إنها واضحة الدلالة، جدليات أزلية لصراعات ما زالت قائمة، تتحكم بمصائرنا نحن البشر "الغرائز والعقل، الأنا العليا والأنا السفلى، الوجود والعدم، الخطيئة والطهر". انطلق بنا الروائي واثق الجلبي في رواية "يوسف لا يعرف الحب" من الأسطورة إلى الواقع، في محاولة منه لترويض الحلم .. تناص تاريخي اجتماعي أيديولوجي، بين الميثولوجيا والواقع .. يوسف البطل ولعنة قميصه، البئر والخوف والوحدة والاغتراب، سنواته السبع العجاف التي عاشها وهو يجهل كيف يحب، هذه المزاوجة السردية جعلت من البطل شخصية أسطورية، بعيدة عن واقعها، تعيش استلابا قسريا فرضته عليها ظروف الحياة الصعبة المحيطة بها، الفقر والحرمان، البحث عن أمل جديد لبدء حياة جديدة، هذه التفاصيل الحياتية المرهقة التي عاش في تحد مستمر معها، حولته إلى بطل إشكالي داخل النص، إنسان مهزوم "شخصية مرجعية"، مؤدلجة حسب تصنيف الناقد الفرنسي فيليب هاملتون.. "سماء" الحلم التي عجز عن فك شفرتها "من كل الزوايا رآها، ومن كل المرايا رآها ، ومن جميع الخفايا رآها ، فهل رآها"؟
كان حبه لسماء علاقة سلبية غير منتجة حسب رؤية الناقد فوستر.. ووهما كبيرا، ومحاولة فاشلة منه لنيل النقائض في يد واحدة "الحب والخلود"، هذه الحقيقة التي أدركها متأخرا ليعبر عنها بكم كبير من الفرضيات والتساؤلات الحائرة، أراد لها واثق الجلبي أن تكون وسيلة ناجعة للملمة أوراق بطله يوسف، التي تبعثرت بين الحلم والهزيمة، بحثا منه عن إجابات منطقية لها .. "الربما" التي أثارها الروائي في خاتمة نصه، كانت صرخة الإنسان المعاصر بوجه مادية الأشياء التي سحقته، وجرس إنذار حاول فيه ايقاف زمن الهزيمة والتداعي.
يوسف البطل الذي أحب سماء وفشل، لتذهب بعيدا وتتزوج وتنجب طفلين، وتعيش على وقع الذكرى المؤلمة لسنوات جمر سبع قضتها معه، يقرر العودة بعدها إلى قلمه القديم، خاطا فيه أمنياته ورغباته الدفينة، في ذاكرته المتعبة، لتفضي إلى اللا شيء "لم تعد تتذكر يوسف إلا في خلوتها فتبكي وتنام على وسادة لم تطأها عيون من أحبت".
يوسف لا يعرف الحب .. هي رواية بالرغم من صغر حجمها، إلا إنها تستحضر سفرا طويلا من الرحلة الإنسانية المضنية في البحث عن الحب في دهاليز الحياة المظلمة، وجهة نظر رصينة البسها الروائي أجسادا تتحرك تحب وتكره وتحلم، هي صك براءة من كل الفلسفات والنظريات التي حاولت إخراج الإنسان المعاصر من أزمته وفشلت في ذلك "عقمت مذاهب الفلسفة والمنطق ومدارس الحكمة جميعا، من أن تؤدي إلى حل مشاكل يوسف المادية والروحية، الحداثة شيء واهم ومباهج الكلام التي يتبجح بها البعض مجرد هراء ولا روح فيه ....".
هذه الفكرة وظف لها الروائي أدوات عدة ، لتفصح عن نفسها وتملك حيزا وجوديا، وتسلك منحى سرديا روائيا حداثويا، منطلقا من الواقع إلى التاريخ والميثولوجيا، عبر لغة تباينت بين لغة سردية فلسفية معقدة متداخلة، تميل الى الشعر في بعض محطاتها، وبين لغة حوار انشطرت إلى جزأين.. الأول، لغة غلبت عليها البساطة والعفوية والسلاسة.. والجزء الثاني منها، اقتربت فيه من لغة المسرح شكلا وإيقاعا.. ان هذا التباين بين لغة السرد والحوار، يكشف لنا حجم الفارق المعرفي والثقافي، بين السارد العليم وشخوص روايته، وتصوير لقدرة الروائي على فك ارتباطه بأبطاله، وإتاحة المجال لهم للتعبير عن أنفسهم بحرية، دون ممارسة رقابة صارمة عليهم.
أهم محطات الرواية:
1- التضمين: استخدم الروائي تقنية التضمين، لتعضيد نصه بشخصيات وحكايات ثانوية، لإيجاد مخارج سردية وفكرية، للثيمة المحورية التي استند إليها "أميرة وزوجها، رامي وأسيل".. هذه العلائق الاجتماعية التي زج بها، كانت مبهمة انبثقت داخل النص من العدم بصورة مفاجئة دون التمهيد لها، واعتقد ان هذا الغموض قد تعمده واثق الجلبي، لإخراج النص من فخ التحجيم والأطر الاجتماعية الضيقة، ولخلق نوع من المقارنة، بين الفشل والنجاح، وبين الحب المجرد الخيالي والحب المنبثق من الواقع، والذي كان يمثله أسيل ورامي "رامي الذي تزوج بمن يحب بعد سنوات لا ترتقي إلى سني يوسف كلل مسيرته بالنجاح وسط زغاريد الطيور..".
غير إن الكاتب أعاد تدوير الأحداث مرة أخرى، ليذكرنا بان لا شيء خالد في هذه الحياة حتى الحب، وذلك عندما بدأت علاقة رامي وأسيل بالانهيار وسط فوضى الحياة، وماديتها الصماء.
2- المقاربة الميثولوجيا: حمل النص مقاربات أسطورية وأخرى دينية كثيرة، بين يوسف البطل ويوسف النبي.. القميص الذي رافقه طيلة النص ، البئر، السنوات السبع العجاف، مقاربات افتراضية لواقع مأزوم يعيشه، خلق نوعا من التماهي الأسطوري بين الشخصيتين "أراد الوصول إلى مكان القميص الأبيض راجيا عودة بصره الثاقب مرة أخرى".
3- الرمزية: شكلت الرمزية العمود الفقري للرواية، والعكاز الذي تعكز عليه الكاتب، لتبرير نصه الجدلي الإشكالي، "سماء" حبيبة يوسف، كانت رمزية لمتناقضات عدة اجتمعت في كيان واحد "القيم، الغرائز، الحلم المفقود، الفكرة التي تبحث عن متبنيات لها، اللعنات المتوارثة" هي أزلية في مادتها التكوينية، مشرعة على نهايات مفتوحة، رغبة عائمة في فضاء روحه البدوية المتصحرة "اخذ رأسها وبدا يعد شعرها ويقبله شعرة فشعرة، حتى الشعر الأبيض لم يسلم من التقبيل، فكان يقول وعيناه تلمعان : لو اعلم لماذا احبك ؟ لو اعلم"؟
"القميص" رمز الغواية والفتنة، هو تجلي للصراع القائم داخل النفس الإنسانية بين الطهر والعهر "بدأ قميصه بالكتابة وهو مستلق على وجه الريح المخزونة في مراياه المنزوية في بؤرة عماه البعيدة عن الأحاسيس النافقة".. "القهوة المرة" إشارة إلى البداوة المتجذرة في مكامن نفس البطل، وطبيعة البيئة الاجتماعية التي تحتضن النص الروائي.. "البئر" هو رمزية الانزواء والهزيمة التي اختارها البطل لتكون نهاية رحلته في البحث عن الحب والخلود، هذه الثنائية الأزلية التي أراد واثق الجلبي تأصيلها عبر هذا المضمون "لكن هل سيعطي جوف البئر أسراره ليوسف، أم إن الخلود ضائع كما الحب"؟
4- الاتجاه الفلسفي للنص: نصوص عائمة مفتوحة كهذه ، تخلو من البناء الهرمي، ولا تخضع لضوابط الزمان والمكان، غابت عنها العلائق الاجتماعية الحقيقية، والحراك الإنساني المتفاعل مع الحياة .. تترك هذه النصوص مجالا واسعا للأفكار والرؤى، بأن تحل محل الواقع، وتأخذ دورها في التعبير عنه من منظور انطولوجي .. لذلك حضرت عدة أبعاد فلسفية في ثنايا هذا النص منها "وحدة الوجود"، هناك نزعة صوفية لها خصوصيتها.. لكن الروائي حاول إخفاءها وإعطاء نصه طابعا فلسفيا جدليا وإبعاده عن فخ الصوفية وفنتازياتها "شعور بلا شعور واقف بشموخ الأبجدية الفارغة التي لم تنجب إلا الفروق بين الذكر والأنثى..".
5- عقدة التطهير: شكلت هذه الجدلية أحد أعمدة النص الروائي، فلسفة أزلية، داعبت التفكير البشري منذ وجود الإنسان على هذه الأرض، ووجدت لها طريقا رحبا في أدبياته، وارثه الديني والأخلاقي والاجتماعي .. سؤال إشكالي يبحث له عن إجابة بحجمه .. هل للطهر وجه اَخر ؟ أثار الروائي هذا السؤال بطريقة غير مباشرة، محاولا الإجابة عليه بمفردة جامعة، عابرة لكل اللغات والانتماءات الإنسانية وهي "الحب" لتكون هذه المفردة هي الطريق الوحيد لخلاص الإنسان المعاصر، من جميع أزماته النفسية والاجتماعية، ومآبا لرحلته الشاقة، بالبحث عن الطهر والنقاء والسلام "هل يكون الحب وسيلة للتطهير"؟
"يوسف لا يعرف الحب" هي استغاثة يوسف بكل ارثه القيمي والإنساني، للباب الذي ما زال موصدا بوجهه، يرجوه أن لا يُفتح، خشية أن يفتضح عري قميصه الممزق، بين يدي مادية الحياة المعاصرة.