ادب وفن

"أحلام باصورا".. أطراس المدينة وتسريد أحلامها / عبد علي حسن

تستدعي المقاربة النقدية لكتاب القاص العراقي محمد خضير السردي "أحلام باصورا" التحول من المستوى الفينومينولوجي \ الظاهراتي إلى المستوى البنيوي الدلالي ، ذلك ان اشتغالات القاص محمد خضير على المكان وتحديدا مدينته الأثيرة البصرة منذ مجموعته القصصية "بصرياثا .. حكاية مدينة" لم يتعامل مع هذا المكان بعده ظاهرة فيزيقية أو جغرافية وإنما تجاوز ذلك إلى الكشف عن المستوى الفلسفي الذي يستبطن التعالق الإنساني بالمكاني وأثر ذلك التعالق في تخليق بنية متجاوزة السطح السردي إلى تشكل يقترب من الأسطوري للإنسان والأماكن الحافة بأوجه نشاطه ولعل التنوع الديموغرافي للمدينة وتعدد أنشطتها وحيازتها على توصيف المكان المفتوح هو ما سوغ للقاص محمد خضير وربما لعدد آخر من القصاصين البصريين أن يفترض مستوى كهذا من التعالق بين الإنسان والمدينة كمكان حيوي يزخر بكل الفعاليات الإنسانية.
و"أحلام باصورا" لا تبتعد كثيرا عن هذا المنحى ، إلا ان القاص محمد خضير يقدم في كتابه السردي هذا تجربة جديدة تستدعي التحول في منهجية القراءة ، فالقراءة الظاهراتية سوف لا تبتعد كثيرا عن منطقة موجهات معروفة وربما أصبحت مستهلكة ولن تفيدنا بإضافة واكتشاف حيثيات تجربته الجديدة هذه التي تبدت وفق مستويين شكلا القسم الأول والثاني من الكتاب ، فالقسم الأول الذي حمل عنوان "باصورا" يتضمن إحالة واضحة للاسم المقترح لمدينة البصرة بعدها مكانا ، أما القسم الثاني الذي حمل عنوان "أحلام باصورا" فهو يتضمن وجهة نظر جديدة إزاء المفردات المكونة لـ "باصورا"، "شخصيات ، أمكنة، فعاليات بشرية" في حين شكل القسم الثالث المعنون بـ "حاشية" انعكاسا ذاتيا لفعل كتابة القسمين الآنفي الذكر والدوافع التي جعلته مأخوذا بمدينته ، ومن الممكن الذهاب مع القاص في اعتبار "أحلام باصورا" خلاصة تجربة حياتية وكتابية أسوة بغيره من الكتاب العالميين والعرب.
ولوضع القارئ في منطقة المعرفة بحيثيات كتابة أنواع كهذه من السرديات ، فقد كان من الممكن وضع هذه الـ "حاشية" كقسم أول للكتاب بعدها كتابة "ميتا سردية" تلقي الضوء على الكيفية التي فكرت بها نصوص الكتاب في امتلاكها حدودها الكتابية ومصدرية التوجهات السردية لقسمي الكتاب ، وبهذا الصدد فإن نص الـ "حاشية" يشير إلى مشاركته لبعض التجارب العالمية والعربية في خوض هذه التجربة - التفاعل مع المدينة بعدها جزءا من واقع يصاغ حلميا – "ولا انكر هنا ان إحالاتي لأحلامي، تشتبك بدرجة أو بأخرى بإحالات الحالمين السابقين الذين سيقودون خطاي إلى أماكن لم تصلها قدماي من قبل ، ويشتركون معي في تأويلها ، اعترف بهذه المشاركة..." في إشارة إلى الكاتب الايطالي انطونيو طابوكي في محكيات كتاب "أحلام. ..أحلام".
والكاتب نجيب محفوظ حين نشر مائتين وستة من أحلامه الخاصة حول مدينتي القاهرة والإسكندرية ، "إلا ان التعبير المحفوظي مازال مفتوحا لإضافات تالية من مواقع مختلفة ..." ، وقد لذ للقاص محمد خضير ان "يخترع" إلى جانب هذه المدن مدينة "باصورا" بإعادة كتابة تأريخها بنسخها المتعددة بطريقة حلمية تمارس فيها النصوص اللعب السردي الحر مستجيبة لرؤية حلمية تأويلية لا تلغي ارتباطها ومحافظتها على العلاقة الوثيقة بالواقع الاجتماعي "المتشابك الجذور والمصادر" لذا فإننا نعد هذه الأحلام واختراع النصوص لـ "باصورا" إنما هي تأويل حلمي لكل تاريخ ومكونات مدينة البصرة بما اشتملت عليه من مكونات ثابتة أو متحركة وفق تراتبيتها الطرسية .
ففي القسم الأول من الكتاب الذي حمل عنوان "باصورا" تتجه النصوص التسعة ذات العنوانات المستقلة ، إلى الكشف عن الكيفية التي تشكلت وتكونت فيها البصرة وفق تراتب طرسي مارست فيه النصوص خاصية المحو والثبات لجملة من الحلقات المكونة لفعاليات المدينة والتنوع والإختلاف الذي عرفت به بطريقة طوباوية تبتعد عن إمكانية عدها "يوتيبيا" وتقترب من الرؤية الحلمية التي أرادت لها النصوص أن تكون على ماهي عليه ، لتكريس بنية التقادم والتنوع والحركة الدائمة والمتحولة عبر الأزمان ، فهناك فيض من الظواهر والمظاهر التي تعرضت للمحو وأخرى امتدت محتفظة بفعلها التأثيري في ماضي وحاضر المدينة وصولا إلى المدينة في نسختها الأخيرة التي يجد فيها السارد نفسه جزءا مكونا من أجزائها ونشاطها الفكري والإجتماعي ، ومن الممكن عد نصوص هذا القسم التسعة حفرا تطريسيا في جسد المدينة ومكوناتها التأريخية والإجتماعية والدينية "باصورا دبيب غير محسوس ، انسلاخ يتراوح عمره آلاف الخطوات في خط نمل متقاطر من قطرة دبس ..." وهذا التقاطر يستدعي استرجاعا لذلك الدبيب عبر أحلام مفترضة تبتعد عن سطح الواقع بقدر ما تقترب منه .
وتتشكل بنية الإسترجاع من مجموعة من المظاهر المشيرة إلى مكونات المدينة "باصورا" بعدها طبقات متناسخة بعض منها تعرض للمحو وآخر لا يزال يحمل سمة المؤشر الذي تعرف به المدينة دون غيرها من المدن ، ويشير النص إلى بعض من هذه المظاهر التي عدها أطراس متواترة "خطوات المؤذن الهرم ، تسارع الأصابع وهي تضفر خوص النخل ، تناوب تغريد الأطيار ، ظل درج مسنود على جدار طيني ، عدسة كاميرا ، قنطرة على جدول مطمور، حوليات وتفريعات أنساب شجرية، شروح أحكام ومعاملات، معاجم نبات وحيوان وبلدان، سجلات حركة بواخر ونقل بضاعة ، آلاف الحركات والإشارات الباطنة التي لا تسترجع إلا بظلالها واسلوبها الملتف حول نفسه، كالتفاف ثعبان في كينونته الانسلاخية .." ، على ان هذا الاسترجاع يخضع إلى رؤية حلمية شاءت ان ترى في استرجاع هذه المظاهر فرادة باصورا وفق أحلام تنبثق من ذات المظاهر كاشفة عن بنيتها العميقة . وهكذا تتفاعل النصوص الثمانية المكونة لهذا القسم من الكتاب مع مظاهر باصورا في نسخها المتراتبة.
أما في القسم الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان "أحلام باصورا" فقد وجدنا نصوصا تقترب من البناء القصصي القصير المتخيل للعديد من الشخصيات والأمكنة حرص فيها السارد كلي العلم على انزياحها من متونها الواقعية الصرفة لتنشغل بتقديم ما يراه ويحلم به السارد وبما يريد ان تكون عليه تلك الشخصيات والأمكنة التي كونت نبض المدينة وفاعليتها الحياتية الفريدة ، فنصوص هذا القسم المكونة لأغلب نصوص الكتاب لم تفارق الحرفة السردية واحتفظت في أغلبها على مكونات سردية لا تبعدنا عن كتابة القصة القصيرة بتوافر أركانها السردية المميزة وبلغة تبنت الواقع الحلمي لتبقى في دائرة موجهات المؤلف وقصديته في كتابة أحلامه المتعلقة بمدينته الأثيرة باصورا ، لذا فقد اكتسبت هذه النصوص "المدينية" صفة التسريد الحلمي التأويلي.
لا شك بأن عدم وجود عنوان تجنيسي لكتاب "أحلام باصورا" وحرص القاص محمد خضير على إصدار كتاب سردي ينفلت من التوصيف الإجناسي بعده محاولة تجريبية حرة في تكريس بنية الحلم بعده قاسما مشتركا لرؤية النصوص إزاء مدينة احتفظت بفرادتها الشخصية التي تميزها عن المدن الأخرى ، ولعل ما تضمنته باصورا من ظواهر ومظاهر متنوعة ومختلفة شكلت هويتها المكانية والاجتماعية والتأريخية المميزة ، فإن - فضلا عن ما كشف عنه القسم الثالث من الكتاب المعنون بـ "حاشية" من مستوى ميتاسرديا - نصوص القسمين الآخرين كشفت أيضا عن مستوى البناء الميتاسردي الذي تبدى في نية النصوص على توضيح انعكاسها الذاتي للإحاطة بالطبقات الطرسية المكونة لباصورا عبر لغة مميزة عكست بشكل أو بأخر قدرة تعبيرية أتقنت إلى حد بعيد المهمة التجريبية للكتاب ليضاف إلى الإرث السردي للقاص محمد خضير بعدّه واحداً من القصاصين الذين بدأ بمنجزهم القصصي الخطاب التحديثي للقصة القصيرة العراقية منذ ستينيات القرن الماضي ليسم ذلك الإرث بالجدوى التجريبية التي أضافت الكثير من الرؤى الفكرية والتقنية للقصة والسرد العراقي.