ادب وفن

لماذا اسمها رواية؟ / حسن داوود

حصل لي تماما ما حصل لمصطفى ماهر حين كان يعمل على ترجمة رواية صاحبة نوبل، الفريدة يلينِك "عاشقات" التي صدرت في القاهرة سنة 2006. أنا أيضا رحت أعود إلى الغلاف فيما أنا أقرأ روايتها "شبق" لـ ألفريدة يلينِك لأتأكّد من أن كلمة "رواية"، المعرّفة بالكتاب، ما زالت هناك. هذا التساؤل يظلّ مستمرا، بل ويزداد إلحاحا كلما ذهبنا بالقراءة قدما. فما ارتسم خطوطا أولى للشخصيات، لن يتضح أبدا، ولن يُستكمل تاليا بخطّ سردي يطوّر معرفتنا بهذه الشخصيات.
ميخائيل، مدير معمل الخشب، وغيرْتا زوجته، وابنهما، يظلون عند الخطوط الأولى تلك، نقاطا ثابتة تدور حولها أفكار الكاتبة، بلا توقّف، مثل دوران الأفلاك حول كواكب مترافقة. لا يتقدّم هؤلاء ولا يزدادون اقترابا منا، نحن من نقرأهم. لذلك نتساءل عن حاجة الكاتبة يلينك إلى إعطائهم أسماء، بل ونتساءل أيضا عن أهمية تعيين الأمكنة: مصنع الخشب مثلا، وكذلك الأمكنة الأخرى التي تنقّل الرواية فصولها بينها، مثل الجيم الرياضي والسوبرماركت ومهابط التزلج وغيرها. وهذه الأمكنة ليس متعينا مكانها، في النمسا مثلا، بلد الكاتبة يلينك، أو أي مكان آخر في أوروبا، ذاك أنها موجودة كأفكار تشكلت من وظائف مدنيتنا الحديثة، وليست أمكنة عيش حقيقية.
كما يطال التساؤل ميل الرواية إلى مقارنة حال مدير المصنع بحال عمّاله، وحال أسرته الصغيرة بحال أسرهم، بالتركيز على الفوارق الفاضحة بين هؤلاء وأولئك، بما يشبه ما كنا قرأناه في أعمال سبقت، أدبية وغير أدبية. ذاك أن التساؤل حول الغنى والفقر يُبقي نصوص الرواية متصلة بحال واقعية جرت كتابة إنشائها من قبل. وهذا ما يخالف تلك الجدّة الأكثر تطرّفا، التي تسعى رواية يلينك إلى بلوغها، بل إن هذه الكتابة، المطلِقة العنان للتخيّل والتداعي والاستغراق في الاستطراد، تصرّ على إبقاء قضية مثل التنازع الطبقي، أو الإجحاف الطبقي على الأصح، حاضرة كما هي، بحضورها الأزلي، رغم أن أدب يلينك يشير إلى أن مجال الكتابة بات أكثر تشعّبا واختلاطا.
لا يحتاج الأمر إلى أكثر من الخروج من التصورات القديمة للفقر، حيث تلك الصورة النمطية لعمال المصانع، المتعبون الذين لا يملكون شيئا. فهم هنا يمكن أن يكونوا مالكين لبيوتهم، لكن "ما سدّدوا أقساطه كانوا يظنون، طوال حياتهم، أنهم يملكونه، لمجرد أن سمح لهم بالإقامة فيه". وسوى ذلك، هناك السيارة "التي انتزعناها من أجسامنا بصيغة شغل فائض ساعات في المعمل". وهناك أيضا تلك "القضية الواقعية" الأخرى، وهي التي تكون النساء فيها عالقات في سطوة الرجال. لكنها هنا سطوة محيّرة إذ أن الرجال، حتى في ذروة سيطرتهم على النساء، مستعبَدون بغريزتهم نحوهنّ. كأن الرجال موثوقون بحبل يشدّهم إلى نسائهم، بما يشبه الارتباط بحبل سرّة وهمي. أما الموضع الآخر الموصول به ذاك الحبل، فهو فرج النساء الذي يحتوي كل ما هو غريزي موغل الغريزية والبشاعة الداخلية، والخارجية أيضا، عند الرجل. لا مقطعا واحدا في الكتاب يخلو من وصف دوافع الغرائز وتلبيتها السريعة والفورية، كما لو أن العالم الداخلي للرجل، وهو مدير المصنع هنا، موجود كلّه في أعماق ذلك الشق.
إخضاع المرأة من قبل رجلها، الخاضع بدوره لمكمن غريزته تلك، يجمع هنا بين المدير وعماله. هذا ما تبقى لهؤلاء "العاطلين" على كل حال، "فاستخدامهم زوجاتهم هو الشيء المجاني الوحيد الذي تبقى لهم". يتعلّق ذلك بالجنس أولا، أو هذا ما تقصده الكاتبة حيث، "لا شك أن الجنس هو مركز حياتنا، إلا أننا نظن أو رغم أننا نظن أننا لا نسكن هناك". ثم أن تملّك الرجل لامرأته يجب أن يكون كاملا تاما، حيث نقرأ في الرواية أن رجلا منع زوجته مؤخّرا من أن تغتسل، "إذ أن رائحتها أيضا تخصّه وحده". كل شيء مرضي في العلاقة بين الرجال وزوجاتهم، بحسب ذلك الجانب من الرواية الذي أمكن تحديثه من طريق الذهاب إلى أبعد حد ممكن في إثارة التخيلات.
تدعو رواية "شبق" إلى الظن بأنها تفرّق قراءها إلى حد أنه يصعب على اثنين منهم، اثنين فقط من بين ألوف قارئيها، قد يلتقيان على فهم واحد لها، بل أحسب أن ذلك التفرّق بين القراء يبدأ من آلية القراءة نفسها. يتعلّق ذلك بما يهمله القارئ، تاركا إياه من دون قراءة، وما يقرأه فعلا، ثم هناك من يبحث بين السطور عن فواصل حديثة لكي يلحمها بحوادث سبقتها قبل أربع صفحات أو خمس صفحات، أو ربما اختار بعضهم الجمل التي تنتمي إلى فنّ الشعر خصوصا، كمثل أن نقرأ عن المرأة: "إنها تحاول أن تلتقط أنفاسها في الشبكة التي اصطادتها"، أو، في مكان آخر: "لن يكون بوسع الطبيعة أن تظل حديثة الطلاء".
على أي حال يصعب توقّع كيف ستقرأ الرواية هنا، بعد أن صارت متاحة بالعربية. الأرجح أنها ستزيد حلقة الباحثين عن الجدة ضيقا. حتى هؤلاء، لن يأخذوا من الرواية إلا القليل، تبعا لمقدرتهم على متابعة ذلك الدفق المتواصل من الأفكار التي تغلب على الوقائع المسرودة. لا أعرف كيف قُرئت سابقتها "العاشقات" حين ترجمت إلى العربية، لكن يمكن التكهن بذلك من المقدمة التي كتبها لها مترجمها، والتي بدا فيها كأنه يقول إن هذه الرواية خارج الزمان والمكان، وإنه، كان يرجع كل مرة إلى ما صُنفت به ليعرف أنها رواية أو شيء آخر.