ادب وفن

ذاكرة القراءة.. قراءة الذاكرة / حميد حسن جعفر

عادل العامل".. الجندي الشاعر
في صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958، وعند بوابة معسكر الرشيد كان يقف الجندي المكلف، الحرس عادل صادق، متنكبا بندقيته، محاولا إثارة انتباه الآخرين من أن المعسكر وما يحتوي من مخازن عتاد وساحات تدريب، من جنود وقادة، له من يحميه، وله من يدافع عنه حتى آخر قطرة دم، هناك من أسندت إليه حكومة الملكية آنذاك وهناك من يقف وبكل قوة وثقة ليرد كيد الكائدين، والوقوف بوجه "المؤامرات" التي تحاول إسقاط النظام الملكي وحكومته التي يتهمها "المناوئون" بالعمالة للإنكليز، وللمعسكر الغربي والقوى الرأسمالية، وعلى حراس المعسكر المنبثين في جنبات الجادات والقاعات، الحدائق والشوارع والتقاطعات أن تعلم دورها، وأن تؤدي واجباتها على أكمل وجه من أجل حماية العراق والملك، وعلى الجندي الشاب المتحمس أن يكون السد المنيع، فهو يمثل الخط الأمامي، أو جرس الإنذار، وأن يرمي اول الطلقات على صدور الأعداء، فهو اول المضحين، هكذا كان الاتفاق وهو البوابة التي من خلالها يكون الدخول الى معسكر الرشيد، إذا عليه أن يكون أول الموانع بوجه من يحاول أن يفت في عضد حلف بغداد، ودور حكومة العراقي آنذاك، أو من يحاول ان يتصور أن حلف بغداد أو المشروع الهاشمي ما هي إلا اغلال تطوق عنق العراق، وعنق أبنائه.
لم يكن هذا الجندي الشاب المرابط عند بوابة معسكر الرشيد عام 1958 إلا الرجل الذي التقيته في أوائل السبعينات، الرجل، مدرس اللغة الانكليزية، والشاعر العمودي آنذاك، انه الرجل الذي من يعاينه لا يجد فيه من الشعر إلا ما يشبه عمود الشعر، كائن يكاد ان يكون متجهما، ما أن يتحرك ماشيا حتى يستقيم جسده كعمود ضوء، لا يعير أهمية لمن يقف أو يمشي أو يتحرك أو يجلس من حوله أو بمحاذاته، وما أن يترك جسده يسقط على اريكة من ارائك منتدى نقابة المعلمين حتى تجده بمواجهة صفحة كتاب، أو لحظة تأمل، لا يثيره ضجيج الآخرين، ولا فوضى المكان، فقد كانت الأوراق والكتب ومحاولات صناعة لحظة حساب أو استرجاع، أكثر الكائنات قربا إليه، قد تشكل العزلة أو الوحدة اهم ما يتميز به هذا الرجل الذي لم التق به لولا الفعل الشعري.
آه...
الجندي الحرس عند البوابة، لم يستطع أن يحافظ على العهد كما "الفرسان النبلاء" فما أن شاهد جماهير المتظاهرين تهتف للثورة، والضباط الأحرار، حتى انخرط في صفوفهم، تاركا المعسكر وما يعود إليه، فقد كانت الثورة تشكل نبض دواخله، لقد استيقظ الثوري والشاعر ليجد نفسه وسط حشد الجماهير المسحوقة، جماهير الصرائف والأكواخ، اكواخ اشطيط، وخلف السدة.
لقد كان الوطن أكثر قدرة على أن يستنهض روح الثائر المتخفية بالخاكي، والخدمة الإلزامية وفعل الجندية الذي صنعت منه الحكومات والسلطات جهاز حماية لأهدافها ومراميها التي تقف خارج اهتمامات الإنسان الكادح.
آه...
رجل أسمر، مع شيء من الشحوب، أو الصفرة، تبدو عليه الالتزامات العسكرية واضحة، الكثير من الأناقة التي يتطلبها الفعل التدريسي، فالمدرس بين طلابه لا يمكن أن يكون فريسة للارتباك والفوضى، فالكياسة أمر لا بد منه.
سلوكيات الكائن العسكري تنتقل إلى الكائن التدريسي، حس الدفاع عن الوطن ينتقل إلى الدفاع عن المبادئ والقيم ودور التعليم في تشكيل الفرد، الطالب، فالانضباط الذي قد يصل حد الإفراط هو المهيمن رغم افتراقه عنه منذ سنوات طوال، لا يمنح الابتسامة الا للمقربين منه، وضمن حالة من السرانية، من الممكن أن تتحول الابتسامة وضمن مفهوم العسكرتارية الى شيء من التهاون، وعدم الالتزام، وان صاحبها قد يفقد بعض مكانته ضمن موازين التقدير والاحترام، و"عادل العامل" لا يسفح مياه ابتساماته أمام كل من هب ودب، ما من شيء أعز على قلبه من مشروع ضحك يكتمه، كان من البخلاء المتميزين بالنسبة لفعل كهذا ،
ورغم التجهم الذي يذكر الرائي "الذي قد أكونه أنا" أو قد يكونه سواي بـ إيليا أبو ماضي وبيته الشعري المعروف، قال :السماء كئيبة فتجهما، قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما، ورغم الغيوم التي تكدر سماء مدرس اللغة الانكليزية و الشاعر عادل العامل، كان هذا الرجل يشكل مستودعا لا ينضب، وخزينا هائلا من السخرية والاستهزاء، وإطلاق الألقاب المضحكة، كان متمكنا من صناعة المزحة، وربما تكون مزحة سوداء، كل الأصدقاء معرضون لمزحه، لنيران لسانه اللاذع.
* * *
العجل الذي له خوار
جدي الكرادي. لا أعرف عنه أي شيء، ولكن وكما أتصور هذا ما وصلني عنه فعلا، كان يسكن النهر، يزرع شواطئه باللوبياء والخيار العطروزي وبالجان. وبعض أشجار السدر. ويغوي السلاحف والأفاعي والسعالي برائحة التراب. يقال انه تزوج سعلاة وأنجب منها بنين وبنات العهدة على ناقل القول، فيصطاد طيور الماء وسمكا، ويضيف بنات آوى ولصوصا وأصحاب زوارق.
قد أكون مخطئا. لذلك أتصور جدي صاحب كرد. وإلا لماذا يسكن الكرادة الشرقية، ويقسم ما يجني. وما يصطاد مع يهود بغداديين، ويكون اسمه جعفر الكرادي بن علي بن جاسم.
وقد يكون فلاحا فاشلا. أو قد لا يكون كذلك، لو لم يكن أحد هذه التوقعات لماذا هجر ابي، حسن بن جعفر. عاصمة المنصور ليسكن إمارة الحجاج بن يوسف الثقفي، وليعيد هيكلة العائلة ولكن ضمن انحدار عمالي عندما قفز من حقل الخضراوات إلى حقول النقل المائي، إلى حيث، دجلة، ليجد في المراكب البخارية وبسدة الكوت ضالته، حيث نسوة عبادان. ومغامرة الوصول إلى أعماق النهر، لتكون البراري انثاه وفي ذريته ذاكرة، جدي الأول مائيا كان، وكان ابي برمائيا ليجد نفسه هابطا من جغرافية الماء إلى جغرافية اليابسة، الجغرافية وجدت بأبي فأسا لأشجارها شرارة لحرائقها، وجنديا يبحث عن حروب لا يجيد سواها.
الحروب صناعة الساسة.
الحروب الدجاجة التي تبيض ذهبا،
الحروب العجل الذي له خوار.
* * *
بشير حاجم.. ذاتية الروائي
قد تشكل مهمة صناعة البطل "الآخر شخصية العمل السردي الرئيس"؛ إزاحة للمؤلف، الانا، وقد تشكل أكثر من هذا، إلا أن الكسل وعدم استساغة المغامرة التي يتميز بها روائيونا عراقيين وعربا يدفعان بكتاب سرديات كهذا الكاتب ، إلى اتخاذ أقرب الأشخاص إليهم -وقد يكون هو ذاته بطلا لكتاباته.
ان المتتبع للكثير من السرد سوف يضع يده على سلوكيات وأخلاقيات الكاتب، بلحمها وشحمها موجودة في تشكيل مجموعة الشخصيات، بل إن السارد العليم، الكلاني، هذه الشخصية الدكتاتورية ما هي إلا انعكاس لذكورية الكاتب، لذلك فهو -الكاتب- يتصور انه أحق من سواه بالولاية، من أن يكون بطلا داخل النص السردي ،فالنرجسية ما زالت تخفي الكثير من فضاءات الفعل الروائي، إضافة إلى ما ذكرته سابقا -الكسل وتجنب المغامرة - فالكاتب بحاجة إلى فضاء من الحرية التي يتمكن عبره ومن خلاله أن يتحول إلى خالق مبدع، نشعر به لا نراه -كما أشرت-ضمن طروحاتك، لا أن نجده شاخصا أمامنا، يحاول أن يعلمنا -نحن معشر القراء - كيف نقرأ وكيف نفكر، وكيف نتعامل معه أو مع شخصياته - من أهل بيته ومعارفه واصدقائه، وأن نعاملهم بأدب و لطف، وأن لا نعلن سخطنا وعدم رضانا عن سوء إدارة الكاتب، البطل لشؤون الكتابة!
الروائيون "كمثقفين" قد لا يتنازلون كثيرا عن "اناهم" بل إنهم مستعدون لتدمير الآخر "صناعة الخراب السردي " من أجل بقائهم داخل النص، أنهم لم يستوعبوا" قانون " أن الوقوف خارج النص يمنح الروائي أكثر من قدرة على المراقبة والمعاينة والمتابعة ومعرفة تحركات شخصياته، والقدرة على محاكمة الأحداث و الوقائع و دفعها نحو اللا متوقع بعيدا عن "ذاتية الروائي، الأنا الدكتاتورية".
لقد كانت لي أكثر من إشارة إلى إشكاليات كهذه في العديد من الكتابات والمتابعات حول الكتابة السردية، وصناعة الشخصية الرئيسة، من أجل إنتاج فعل روائي، سردي مختلف يعتمد غير المتوقع بل ربما يشكل المتخيل كل ما يمتلك من نسيج حكائي.
* * *
حقيبة رياض الغريب
أولا هل بات الوضوح في الكتابة، حقول الشعر خاصة سوءة؟ الوضوح هنا ليس المباشرة، بل القدرة، قدرة الشاعر على أن يفهم المتلقي ما يقرأ، من غير التخلي عما ينتمي إلى شيء من الغموض، وهل الغموض، الغموض هنا عدم قدرة القارئ على فهم واستيعاب ما يقول الشاعر، هل الغموض هذا يوفر متعة القراءة، أو يوفر فرصة الاكتشاف؟
وما بين الوضوح، المخيلة غير المضطربة، والوضوح، الاستقبال الأمين، يقدم الكثير من الشعراء تصوراتهم، ربما يكون الشاعر رياض الغريب، أحد هؤلاء الشعراء.
رياض الغريب يكتب شعرا عن أفكار وموضوعات تنتمي إلى الحياة، بكل ما تمتلك من أهوال و فواجع، وبكل ما ينتمي إليها من كبائر الأمور وصغائرها وبلغة بسيطة، هنا تتشكل المعادلة، معادلة الوضوح، فهم الأسئلة، الشك. الخوف. الرعب, الموت، هنا يتحول الوضوح إلى إحدى الاداتين، أما شفرة المقصلة، او جفرة الحياة، وقد يقع القارئ وسط ورطة الاستقبال السهل، كما يتصور، إلا أن القصيدة لحظة القراءة تبدو كجهاز، منظومة بخيلة تتمتع بسلطة الحكمة التي تقول - قليل دائم خير من كثير منقطع.
قبل 2003 كان هناك الشرطي الثقافي، فكان الشاعر أحد اثنين، شاعر واضح بالنسبة للسلطة، وشاعر غامض مضاد للسلطة، أو هكذا تكون المعادلة، معادلة الوجود الشعري، وبعد 2003 وجد الشاعر "الغامض سابقا" وبعد أن غاب شاعر السلطة، الشرطي وجد نفسه خارج الغموض، ولكن غير بعيد عن المخيال، حيث البحث عن البلاد، الوطن، الجنة، لم يعد يفكر بالشرطي، الرقيب، وما عليه سوى ان يسحب أدواته، وآلاته الكتابية من منطقة الضباب، الغموض، إلى منطقة الضوء، الوضوح.
رياض الغريب هو أحد الشعراء الممتلئين بالوضوح، قد لا يكتشف القارئ هذا المفصل من خلال القصيدة الواحدة، أو القراءة الواحدة، وضوح الشاعر في حياته التي وضعها في الحقيبة حيث الحركة والتنقل والقلق، حيث الابتعاد عن السكونية، التحجيمات، وضوح يعتمد قدرات القارئ، ومستوى القراءة. والخزين المعرفي.
الشاعر غير معني بفشل القارئ في الوصول إلى جوهر الفعل الشعري، كثيرا ما يتحول الوضوح بين يدي القراءة المتعجلة الى شيء من المباشرة أو التقريرية، وبالتالي يفقد الشعر في هذه اللحظة مبررات الكتابة، وتتحول لغة الشعر إلى لغة المحادثة اليومية، حيث لا أسرار، ولا مضمومات.
هل كان رياض الغريب في حياته التي تضمها الحقيبة مناهضا مضادا للواقع؟ للثوابت الاجتماعية والسياسية والعقائد، قد لا تبدو هذه المنظومة واضحة للقارئ، على الرغم من تمرد اصابع الشاعر على الكتابة السابقة بنصوص لاحقة تنتمي إلى الهدوء في الكتابة وإلى الثاني في الاستقبال، هل أن عملية البحث عن الغامض في الواقع أمر من الممكن حدوثه.