ادب وفن

قصة "شراع ازرق" أنموذجا .. ق. ق. ج.. والواقع المتخيل / قراءة: داود سلمان الشويلي

الـ "ق. ق. ج" مطلب عصرنا، عصر السرعة في كل شيء، وتقدم وسائل الاتصال، وفي القراءة ايضا، لكنه في التلقي يبقى عصياً على هذا العصر في ميزاته، إذ يتطلب جهوداً كبيرة في الفهم والادراك، لتدني قوى الذكاء والمعرفة على مستوى العالم العربي في السنوات الاخيرة، لتراجع التعليم، والمعرفة، والثقافة بشكل مهول، لزيادة نسبة الامية الابجدية والثقافية.
والق. ق. ج. نوع أدبي جديد الى حد ما على ذائقة المتلقي العربي والعراقي خاصة، وقد هيمن في وقتنا الحاضر على الساحة الادبية، وافرز كتاباً متنوعي القيمة الابداعية، حيث شجع الفيسبوك على كتابة هذا النوع، ونشر المكتوب منه. والشاعرة والقاصة خلود البدري لها تجارب في كتابة هذا النوع السردي، وقد نشرت مؤخرا نماذج قصصية، سنضع واحدة منها تحت مبضع الدراسة والفحص للوصول الى المعاني والدلالات التي تقف وراء كتابتها، لان كتابة أي نوع أدبي بصورة ابداعية يعطي دلالات ومعاني جديدة.
في بداية الدراسة والفحص يقف العنوان بارزاً في وجه أي متلق للقصة. والعنوان في هذه القصة القصيرة جدا "شراع ازرق" يطرح مسألة مضمونية اشكالية، وفي الوقت نفسه يكون صادما للقارئ.
اشكالياً، لأنه لا يشكل أي علاقة له بما يقدمه النصف الاول من متن ق. ق. ج الحكائي والقصصي. فهو يمكن ان يشكل جزءا من قصيدة، او عنوانا لها.
في النصف الثاني من المتن يحاول ان ينشئ في ذهن "الشرطة والمتلقي" حالة تحول، عندما يتحول من "دشداشة" الى "شراع"، فهو إذن يحمل شحنة انفعالية وصادمة كذلك من خلال هذا التحول الذي ينتج من طيران "الدشداشة" في الهواء، فيتراءى للمتلقي والشرطة، كأنه اصبح شراعاً لسفينة مبحرة.
***
تتميز هذه الق. ق. ج بالإيقاع السريع في احداثها القليلة نسبياً، من خلال رسم صور سردية بلغة تأتي على شكل برقيات سريعة. وكذلك بالنهاية المدهشة غير النمطية، والمفتوحة في ذهن المشاهد والمتلقي، وليس لها علاقة بدلالات احداث الحكاية التي تكسر صورها عندما تكون قصة، او حركاتها السردية وتلغيها، والنهاية هذه اشكالية، إذ انها حرق المتوقع من قبل القارئ، وتختلف عن سائر القصة ودلالاتها، لان صدمة القارئ بما ليس متوقعا هو ما ينشده الكاتب.
ومن ميزاتها كذلك هو القبض على اللحظة الابداعية باقل قدر ممكن من الكلمات، وهذا ما يدعى "الاقتصاد" في اللغة.
هذا الاقتصاد في اللغة متأت من الافتقاد الى الاضافات اللغوية الزائدة التي تحمل"فائض المعنى" لان الفائض بالمعنى" أي الاتساع "هو من مميزات السارد القصصي، او الروائي، او الشاعر، لكنه في ق. ق. ج. تكون هذه الاضافات غير مقبولة ومرفوضة ابداعياً.
ان التكثيف اللغوي هو الأساس الذي يقوم عليه هذه النوع، أي على الاداة التي تنقل الاحداث كما على الشخصيات والاحداث والزمان والمكان، فتتحول اللغة عند ذلك من لغة قاموسية الى لغة ايحائية تتركب فيها الصور السردية.
***
القصة تتكون من حركات سردية اربعة، وكل حركة سرديه هي عبارة عن صورة مشهدية تدفع المخيلة الى ان ترسم مشهدا بانورامياً تلم كادرها.
- الحركة السردية الاولى هي ان شخصية القصة يحب ان تكون بكامل الاناقة، ومرتبة، ونظيفة.
- الحركة السردية الثانية هي ان هذه الشخصية لا تأكل في بيوت اخوتها، ربما هذا بسبب الاناقة المفرطة التي تدفعها الى ان لا تأكل كي لا تخرب اناقتها، او لسبب اخر لا تفصح عنه القصة لأنها غير معنية به بقدر عنايتها بما سيأتي بعد هذه الحركة السردية.
- الحركة السردية الثالثة هي اختفاؤه، والشرطة النهرية تبحث عنه في النهر. ودالتهم في ذلك انهم وجدوا ملابسه عند النهر، ومن خلال هذه الحركة تنقسم القصة الى قسمين.
- الحركة السردية الرابعة هي الخاتمة "الضربة النهائية" التي تدفع افق المتلقي إلى الانكسار، إذ تتحول دشداشته الى شراع يبحر بعيدا في النهر.
ان الحركات السردية هذه تشكل صور سردية ابداعية، ومن مميزاتها انها لا تحمل فائضاً في المعنى وانما بنيت بلغة موحية مركزة، أي لغة اقتصادية جدا.
القصة تنقسم الى قسمين، كما قلنا، يفصل بينهما لفظة "اختفى" وهذه اللفظة هي سر وجود هذه القصة وديمومة سيرورتها وصيرورتها، لان النصف الاول منها يختلف عن النصف الثاني. فبينما كان الفرح والسرور يطغي على النصف الاول، تحول في النصف الثاني الى حزن.
وشخصيات القسم الاول غيرها في القسم الثاني. فبينما كانت هذه الشخصية واخوتها يشكلون شخصيات القسم الاول، اصبحت الشرطة النهرية هي الشخصية الرئيسة للقسم الثاني.
وكذلك الاشياء الحسية والمادية مثل: الأناقة، النظافة، الطعام، أسماً محبباً، دشداشة زرقاء، النهر، شراع أزرق.
هذه التحولات والتغيرات قد اعطت هذا النص القصصي بعض قوته الابداعية، وقد جاءت من قوة المخيلة النشطة التي تمتلكها القاصة البدري.
***
ومن بين اهداف العمل الادبي هو الهدف الاجتماعي، ذلك الهدف الذي ظل دائما هدفا لأي كاتب، حتى لو كان هذا الكاتب سرياليا او رمزيا، فهو بالنتيجة اجتماعي الغاية النهائية.
وقصتنا "شراع ازرق" رغم انها قد بنيت بحركات سردية "صور سردية" ذات طابع واقعي، ولغة واقعية، الا انها توحي الى شيء ما، ليس من خلال لغتها الواقعية فحسب، ولا من خلال ما تقدمه من صور واقعية، وانما من خلال النهاية التي ترسم للمتلقي الخاتمة الموحية بشيء ما ستقوله هذه القصة.
ان التحولات التي تكلمنا عنها في القسم الاول من هذه الدراسة هي ما املت كل الاهداف الاجتماعية المرجوة من القصة، ذلك لان تغير الشخصيات والاشياء الى شخصيات واشياء اخرى قد جعل القصة تهدف الى شيء ما هو الانتحار.
الانتحار الذي تتلبس فكرته الشخص رغم ما تبدو عليه من معالم السعادة، هذه السعادة التي تعتمد الاناقة الكاملة وزيارة بيوت الاخوة وجعلهم سعداء ايضا بما يقدمه من ممارسة بسبب تلك الاناقة الكاملة، ونظافته المفرطة التي تدعوهم الى "القهقهة" فيطلقون عليه أسما محببا.
ان ما تريد ان تقوله القصة هو ان المظاهر الاجتماعية خداعة، ولا يمكن الركون لها. وانه بينما كان هذا الشخص سعيداً في حياته، اصبح الان ميتاً، انتحر، وتحول "في ذهن الشرطة" الى شراع ابحر في نهر عالم اخر، غير عالمنا نحن الاحياء.
هذا الذي قالته القصة هو بالضبط ما حدث للشعب العراقي، فبينما كان قبل الاحتلال في سعادة وسرور، اصبح بعدها كالشراع المبحر في نهر لا يعرف له مرسى او قرار، نهر غير نهرنا نحن الاحياء.
ان القصة هذه على الرغم من واقعية لغتها، وصورها، فإنها ترمز الى امر اخر، الى الواقع العراقي المتردي، الواقع الذي فيه الناس يعيشون على الخرافات كما دشداشة هذا المنتحر التي تحولت الى شراع مبحر بعيون الشرطة.
وتبقى القصة القصيرة جداً كفنون السرد الاخرى تنقل لنا بصدق فني، ومعبر، ما يفرزه الواقع من تجليات لحياة ناسه الواسعة.