ادب وفن

طلال سالم الحديثي وكتابة القصة القصيرة جدا / قراءة: داود سلمان الشويلي

اذا كانت الفنون السردية بكل انواعها من الفنون التي تكون اشد ارتباطاً بالواقع الاجتماعي، واكثر التصاقاً بموضوعاته، فإن دراسة هذا الارتباط تكشف لنا عن نصين في هذا العمل السردي او ذاك، الاول المكتوب على الورقة والمفصح عنه كنص كامل المعنى الظاهري، والثاني هو النص المضمر والمستتر خلف النص الاول، ومن الصعوبة الوصول اليه ما دام مختبئاً تحت جلد النص الاول، وهذا ما سوف نجده في نصنا المختار للدراسة والفحص في هذه السطور.
وقد كان الاديب هو الابن المبدع للمجتمع، والمتحدث باسمه، والراسم لجماليات حسنه وقبحه، فقد حفل نتاجه السردي في الادب العالمي بأمور اجتماعية كثيرة، وكانت اغلب موضوعاته هي التي تضم بين دفتيها الرجل والمرأة في حدود علاقتهم المقبولة او المرفوضة اجتماعياً، عرفياً او دينياً او قانونياً.
وقد حفلت القصة القصيرة "جداً"، والتي هي فن سردي لم يكن له طويل عمر في التاريخ العام للأنواع السردية، كما حفل به عالم السرد بصورة عامة، بموضوعات اجتماعية، حالها حال بقية انواع السرد المتداولة في الساحة الادبية.
في هذه القصة القصيرة "جداً" للكاتب طلال سالم الحديثي اربعة امور اجتماعية ما انفك المجتمع ينوء تحت وطأتها، وما زال الفن السردي بكل انواعه يصوغ عنها، ومنها، ابداعه المتنوع والمتعدد، وما زالت الصحافة وعلماء النفس والاجتماع يخوضون فيها، وهي كما كانت في اول مرة منذ الخليقة الى يومنا هذا.
يقول الكاتب الحديثي في قصته القصيرة جدا، والتي تركها بلا عنوان رئيس، وانما فقط جنسها كقصة قصيرة جداً: "افترقا بطلاق، هو انصرف الى كأسهِ، وهي انصرفت بائعة هوى بثياب صديق، تركا طفلاً تحت رعايةِ جدةٍ عجوز!".
سنضع هذه القصة تحت مبضع الدراسة والفحص لكي نفحصها من الناحية الفنية واشتراطات هذا النوع القصصي، وندرسها من ناحية المضمون الذي تحمله لتقدمه الى المتلقي.
فمن ناحية امتثال هذه النوع القصصي لشروط فن القصة القصيرة جداً يمكن ان نفحصها من خلال:
- ناحية المعيار الكمي:
أي حجمها. إذ ان معيارها الكمي يقف في اول الصف عندما نبحث عن اشتراطات هذا النوع فيها. حيث نجد قصتنا هذه تتكون من ثماني عشرة كلمة، او ما تشكل سطرا وبعض السطر، وان الحجم الذي يجب ان تكون عليه ق.ق.ج هو بين السطر الواحد، والورقة الواحدة، كما ورد في المصادر التي تعني بهذا الفن السردي، اذن فالقصة هذه ممتثلة لشروط نوعها من ناحية الحجم.
المعيار الفنــي:
تستند القصة هذه على المقومات السردية لفن القص بصورة عامة، مثل: الأحداث والشخصيات والفضاء والبنية الزمنية وصيغ الأسلوب، يضاف لها التكثيف، والتركيز، والاقتصاد في اللغة، والضربة النهائية، أي الخاتمة القوية.
فالحدث الذي تقدمه هو هذا الضياع لكل اشخاص القصة. والشخصيات هم الزوج والزوجة والجدة والطفل، ضياع اجتماعي، ونفسي، تركهم القاص يعيشونه بحرارة الالم الآني، والقلق من المجهول.
اما الفضاء القصصي الذي تقدمه فهو هذا الفضاء غير المعلن في القصة، حيث فضاء التوحد بالنسبة للاب والابن، الزوج، الاب ومعاقرته للخمرة، والابن، الطفل وضياعه في احضان جدة عجوز. وفضاء العشرة غير السوية بالنسبة للزوجة، الام، حيث عالم الجنس غير المقبول اجتماعيا في مجتمع يعد نفسه من المجتمعات المحافظة، وضياع الجدة التي لا حول ولا قوة لها لترعى الطفل.
قصتنا هذه تقدم هذه الفضاءات بصورة مستترة غير معلنة، وهذا يعود الى ما تتسم به القصة من تركيز، وايحاء، وترميز.
اما البنية الزمنية فيها، فهي استخدام الكاتب للافعال بصيغة الماضي "افترقا، انصرف، انصرفت، تركا"، هذه افعال تزيد القصة تأثيراً في المتلقي لما فيها من حركة سبقت الزمن الحاضر وما زالت مستمرة فيه.
وكانت هذه الشروط قد وظفت في صالح هذه القصة، فجاءت مكثفة، والكثافة التي نعنيها هي اذابة مكونات القصة واختزالها لكي تكون اكثر فاعلية وتأثيراً عند المتلقي، حيث يتم القبض بصورة محكمة على الحدث كي لا يتسع اكثر مما يجب، من خلال الإيحاء، الايحاء بما وراء الفعل "افترقا"، وما وراء الفعل "انصرف، انصرفت"، وايضا ما وراء الفعل الاخير، هذا الايحاء الذي يدفع المخيال عند المتلقي لان يعمل بنشاط، فتقترب القصة من ذائقته التي تتداعى فيها الصور، وتنثال عنده الى اكبر واوسع من المجال الاجتماعي للموضوع الذي تقدمه هذه القصة، الى أمر جديد سنتكلم عنه في السطور القادمة.
وكذلك هذا الاقتصاد في اللغة الذي قدمه القاص الحديثي، حيث انه لم يستعمل ما زاد عن الالفاظ المستعملة التي تخدم غرضة الاساس بصورة ابداعية، لكي يكون ممتثلا لاشتراطات هذا الفن لا شعورياً.
يقول الجاحظ وهو يشير الى الاقتصاد في اللغة "هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف". ونجد هنا أن لغة القصة جاءت كالبرقيات، سريعة، ومفهومة، ومؤثرة.
اما النهاية الفاجعة، ضربة النهاية غير المتوقعة التي تكسر توقع المتلقي، فهي تؤكد ان رجل القصة وامرأتها قد تركا طفلهما تحت رعاية الجدة العجوز، وحتما ان بقاء الطفل تحت رعاية عجوز هو مشكلة كبيرة، لانه سيبقى فاقدا لحنان الام، ولمراقبة الاب، وهذا الفقدان بحد ذاته يشكل مأساة له وللمجتمع.
***
واذا كنا في السطور السابقة ناقشنا هذه القصة من الناحية الفنية، أي من ناحية امتثالها لشروط فن القصة القصيرة "جدا"، فإننا في السطور القادمة سنناقشها من ناحية المضمون، اي اجتماعياً، لمعرفة مدى قدرة هذا النوع من القص على حمل موضوعات اجتماعية مثل هذه.
القصة هذه تتكون من اربع صور سردية، كل صورة تقدم حركة سردية، وكل حركة أو صورة تقوم على مشكلة اجتماعية ما زالت المجتمعات العراقية والعربية والعالمية تنوء تحت وطأتها.
الحركة الاولى تقدم موضوعة الطلاق. اذ انه، وحسب الدراسات ذات الشأن في كل انحاء العالم، يقع بنسب مهولة لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا. وفي هذه القصة لم يذكر الكاتب سببه، لأنه غير معني به، والقصة غير معنية ايضا به، بقدر عنايتها الى ما ستؤول اليه حالة الاب والام والطفل.
وفي الحركة الثانية، يقدم القاص صورة عن انصراف المرء الى شرب الخمرة، ليس باعتدال وانما بافراط، وهذا ما تبينه لفظة "انصرف= أي توجه بكامله الى الخمرة" ومعنى ذلك في عرف المجتمع السوي شيء خارج عن الطريق الصحيح الذي خطه ذاك المجتمع المحافظ.
اما الحركة الثالثة، فهي تقدم صورة للوقوع في هاوية الجنس غير المقبول اجتماعياً بثياب صديقة لرجل آخر، أو ما يسمى "العشيقة"، وهذا العشق مرفوض من قبل المجتمع المحافظ والسوي، لأنه يهدد كيانه بخلفيته الشرقية، الاسلامية.
والحركة الرابعة، تقدم لنا صورة عن بقاء طفلهما تحت رعاية جدته العجوز. اي ان رعايته تكون ناقصة طالما لا اب له ولا ام يقومان على خدمته، وتلبية حاجاته، وهو طفل.
كل هذه الحركات، الصور مرفوضة وغير مقبولة من أي مجتمع محافظ و سوي يريد لنفسه التقدم في عالمنا المتغير هذا.
اذن نحن امام مشاكل اجتماعية اربعة تقدمها لنا هذه القصة القصيرة جداً بكثافتها واقتصاد لغتها، وبصورها المليئة بالمشاكل الاجتماعية، وبنهايتها الفاجعة.
القصة القصيرة جدا هذه امتثلت لشروط النوع، وطرحت موضوعات اجتماعية ما زلنا نعيشها اليوم.
لنتساءل: ما الذي كان القاص يرمي له من قصته هذه؟ هل كان يرمي الى مناقشة مسائل اجتماعية كان غيره معني بها وتقع ضمن اختصاصه، كعالم الاجتماع، وعالم النفس، وعالم القانون؟ ام كان يرمي إلى شيء آخر؟
ارى ان القصة هذه كانت ترمي إلى شيء كبيرة، هي اساساً معنية بهموم الوطن المستباح، وبالفرقة التي اصابت ابناءه، وبما وصل اليه حالهم، حيث تركوه وحيداً كطفل مهجور عند جدته العجوز التي لا حول ولا قوة لها، فيما هم انقسموا الى قسمين لا ثالث لهما، قسم راح يبحث عن مخدر يخدر نفسه به كي ينسى همومه الذاتية والموضوعية، وقسم راح يبحث عن ملذاته الشخصية عند شخص غريب "عشيق" دون الالتفات الى ما ستؤول اليه أمور هذا الوطن، ذاك الذي بقي مثل طفل صغير.
القصة هذه قدمت للمتلقي ما يمكن ان نسميه صورة طبق الاصل من الواقع المر الذي يعيشه، الا ان هذه الصورة ترمز الى شيء اخر، الى هم ما زال ينوء به ولا ينفك عنه، هذا الهم هو هم الوطن الذي في طريقه إلى الضياع، فيا لخيبتنا وخيبة الوطن على السواء.