ادب وفن

"الحفيدة الأميركية".. جمالية الدلالة والشكل / جمال العتابي

لم يكن ذلك السياق التاريخي المضطرم بالأحداث، في رواية إنعام كجه جي "الحفيدة الأمريكية" إلا بضعة "أفلام" – وهي المهتمة بالسينما – في حياة المجنّدة زينة، متتاليات من السيناريوهات، في عمل سردي تروي مشاهدُه مراحل مختلفة من عمر الحفيدة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث.
منذ الصفحات الأولى للرواية، تحرك إنعام المؤشر باتجاه المأساة "النهاية"، وهي أول الخيط سيسحب المتلقي إلى متاهات الحزن، "لم أعد أنظر إلى ما يجري حولي مثل سلسلة متصلة من الأفلام الخام، كل فصل أعيشه هو فيلم يغريني بالبحث عن العنوان المناسب له". هذه الأفلام وجدت لها المؤلفة عناوين مناسبة في متن النص "مالي شغل بالسوق، لا وحش في المدينة، من هناك إلى الأبد، الأنانية الجميلة، تموت وتتعود، جولييت في تكريت، كينغ كونغ في المدينة، عرب وين. ... طنبوره وين"، ولكي تستقيم الدراما، كانت هي شريرة الفلم، عنصر التشويق "أساس الصراع"، الطُعم الذي أغرى المؤلفة، لا أدري أين وصلت في روايتها المسروقة مني".
في هذا التداخل تنتشل الكتابة نفسها من الوقوع في التقريرية، والسيرة الذاتية، لتكون إبداعاً يستعيد حضوره وفاعليته في النص السردي. إننا أمام كتابة لا تواجه قلق تشكلها، وهو قلق فاعل لقول أشياء مضمرة، فترفض الوقوع تحت سلطة الشكل، فينسب الحكي الى "الكاتبة" رغم ان الراوي هو الفاعل، البطل، ومنتج الكتابة.
الروائية كجه جي تبدع لغتها الخاصة، بمعاناة شائكة في لحظة مفارقة بين الوطن الذي هجرته زينة، والعائدة إليه بصفة مجنّدة في جيش الاحتلال الأمريكي، لا تتردد زينة بطلة الرواية، في موقفها أو عزمها، ولا تعاني من قلق الخيار، نظرتها إلى الأمام، والأمام ليس مجرد حلم يتأرجح على أجنحة الاحتمالات، بل هو "فوز" بالدولارات الموعودة بها، والرفاه الذي تتمناه بعد إنجاز المهمة.
ترى هل حققت زينة حلمها هذا؟ أم اكتشفت زيفه متأخرا؟ هذا السؤال ظل ملازماً يشكل حافز السرد في الرواية. فكانت رصداً للانعطافات والتحولات الإجتماعية والسياسية والفكرية السريعة التي طرأت على مواقع القوى منذ خمسينات القرن المنصرم، بعد أفول نجم الفئات المتوسطة كقوة أساسية فاعلة، والرواية في بعدها الأعمق، هي صراع يحاول تملك مجريات زمنه ومعانيه وحقيقته، وكأن الكتابة في زمن الأزمات والحروب والحصارات والانكسارات والخيبات والهزائم، تعيش تحولات المرحلة كولادة نوعية لها ، فالرواية لا تبتعد عن الإطار الفكري لروايات المرحلة الجديدة.
يمضي مسلسل الأحداث بوصف نفسي لمناخ أسرة زينة العام، بكلمات محسوبة بدقة متناهية، نحتتها إنعام نحتاً، وسبكتها بمهارة. زينة هو اتجاه السهم الذي تشير به الروائية إلى شخصياتها.
الحفيدة، بالرغم من أنها "البطل الفرد" الذي تجمع في طواياه أزمة وطن وإنسان، إلا ان الشخصيات من حولها ليست مجرد شرايين تدفع الدم في العروق، إنما هي شخصيات حقيقية وليست أشباحاً، "رحمة" الجدة وزينة، يشكلان مثالين نموذجيين في عمود الرواية، وتبدو الشخصيات الاخرى وكأنها تتقاسم دور البطولة، دون أن يتراجع دور زينة عن مركزية الفعل. رحمة، متعلمة تقرأ الصحف، والجد يوسف الساعور أحد الضباط القادة في الجيش العراقي، بتول الأم، منفصلة عن زوجها المذيع صباح شمعون بهنام، بسبب مشاحناتها وعنادها، الأب اختار أريزونا ليعيش بعيداً بوهم المحكوم بالإعدام، إثر اعتقاله في العراق، بتول لم تعد تطيق البقاء في البلد بعد حادث زوجها الذي احتج على طول النشرة الإخبارية، يزن "جايزن فيما بعد" شقيق زينة، يقضي معظم أوقاته نائماً يتعاطى المخدرات، وكالفن يشارك الأسرة كصديق أو عشيق لزينة، وهي التي لا تحتمل رجلاً يحاول إقناعها ان الرمان لا يكون رماناً إلا إذا تناولته من يده. أحفاد رحمة موزعون على قارات العالم.
رحمة لا تغادر العراق "هل هناك بلد على هذه الأرض، غير بلدنا، يتسلى أهله بذكريات القهر وهدّ الحيل"، البلد الذي لم يعد له معنى لدى زينة أكثر من حاوية لعظام الاجداد. طاووس جارة لرحمة وأم لـ "حيدر ومهيمن"، أرضعت زينة من حليبها لمدة شهرين بعد ولادتها، طاووس رافقت العائلة من قبل زواج بتول، وتفانت من أجلها، وصارت فرداً منها، مهيمن عاد من الأسر الإيراني، ذهب شيوعياً وعاد فقيهاً يجادل في أمور الجنة والجحيم، وانضم إلى فصيل إسلامي مسلح، حيدر عقلية أخرى، يشرب الخمر، لذا هرب إلى الكوت خوفاً من جماعة الأمر بالمعروف، هو غير مفجوع بزينة مثل فجيعة العجوز بها، لهذا فإن لسانه لا يطاوعه على التفوه بما يسيء إلى "البنت الأمريكية". تولى مهيمن مرافقة العجوز "النصرانية" لكي تتعالج في عمّان وتلتقي زينة القادمة من ديترويت، زينة تحاول إغواء مهيمن "يفتح عينيه فزعاً عندما يسمعني أقول: انني لا أؤمن بالحليب الذي يؤاخي الغرباء، أقول له بدلال شيطاني، لم أعهده بنفسي من قبل، أتمنى لو يتزوجني رجل هنا وأبقى في بغداد قطة أنيسة تحت قدميه، حتى لو كان زواج متعة. تصطدم زينة برفض وامتناع مهيمن، وفكرة أن يكون مهيمن قاتلها لا تفارق مخيلتها وهواجسها.
أحداث تلهث وراءها الأنفاس: رحمة ترفض دخول معسكر المحتل للقاء حفيدتها التي بكت من شدة المحبة والقهر وربما من العار، طاووس تصف زينة بـ "كلب أبو بيتين"، الأحداث لا تستمد أهميتها من المادة الجاذبة لمتابعة القراءة التي نسميها عنصر التشويق، وإنما هي تجسد ذروة التوتر من خلال الشخصيات الرامزة إليها، هذه الشخصيات يضمّها زمان واحد، وأزمنة متعددة، تسيطر في تلقائية وعمد في المنولوج والديالوج على بناء الشخصيات، وبالتالي بين سلوكها وأنماط تفكيرها، لكن اتصالها وارتباطها يجعل منها شخصيات تتكامل مع البعض تكاملا يمنح الصورة النهائية اتساعا وشمولاً وعمقاً.
البناء التعبيري خالٍ من الغموض في الصياغة الجمالية، الكاتبة تستعيد الرموز في الموروث الشعبي، وتتمثل أعمق سمات المجتمع في مجموعة صور وأخيلة وحواريات. وثيمة مركزة وصادقة وواضحة تتلخص في حوار داخلي لزينة "لم يردّني حليبي إلى بغداد ، سلختني منها الكارثة، وأعادتني اليها الكارثة، فمن له الحق في محاسبتي"؟
هذه هي الشرارة التي أوقدت النيران في ضلوع الحفيدة، نيران قبول الواقع والانتماء إليه، أو نيران التمرد عليه، لكن زينة تعود إلى أمريكا مهزومة، مقهورة، كخرقة معصورة من خرق مسح البلاط، خرقة كاشي، هكذا عادت بائسة، يدوايها شجنها ويترفق بها، تردد قول أبيها: شلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد!
رواية "الحفيدة الأمريكية" تتمتع بجمالية، ليست جمالية الشكل ، وإن كان هماً بارزاً في الكتابة، بل هي جمالية دلالة، سعت إليها إنعام ووظفتها في محاربة اللا جمالي في الواقع والتاريخ ، واضافت اليها رصانة اللغة وخلوها من الأخطاء النحوية والطباعية، وهي حالة نادراً ما تحصل في كتابات الجيل الجديد.