ادب وفن

الرمز في "أولاد حارتنا".. / عبدالجبار نوري

تدور جميع أحداث روايات نجيب محفوظ على جغرافية مصر، ويؤكد في نتاجاته الأدبية ثيمة "الحارة" التي تساوي العالم، فقد شغل ذاكرة الأمة الأدبية والثقافية بعالمه الروائي والقصصي المتسم برموزه وشفراته المراوغة والتي أصبحت حبلاً سريا مغذياً للسفر التراثي الأدبي لعصرنا الحاضر ورافداً غزيراً لا ينضب من الأعمال الرصينة ذات الشفافية العالية لسفرالأمة الثقافي... فصاغ لنا مفهوم الحداثة ببراعته الفائقة وبشخصنة محفوظ المعصرنة بناء ومادة وتكنولوجية بمقاربات في التطور الجمعي السوسيولوجي والتي يهدف منها محفوظ إلى أعادة صنع الأنسان المصري ضمن حاضره ليستشرق فيه المستقبل بخطى واعية ونظرة حصيفة وقدرة على الابتكار بدون قيود ويجعل لها رافعة واحدة هي "التعليم"، لذا تفتحت أمامهُ كل سبل المجد بفوزه بسيمياء الشخصنة المحبوبة قبل فوزه بجائزة نوبل، ولأن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التاريخي والحكواتية الشعبية الواقعية، ويعتمد الرمزية الجزئية وبواقعية سحرية غريبة ينحو مندمجاً مع الرمز الكلي بدلالاتٍ متعددة منتجاً أكثر من تفسير، كما يضمُ بين جنباته عدة مدارس في آنٍ واحد فهو ينحو من الواقعية النقدية إلى الواقعية الوجودية ثم إلى الواقعية الاشتراكية أضافة إلى تزويق الرواية بجماليات السريالية، لذا وجد النقاد بأنهُ "متحف" لإلمامه الموسوعي بجميع مذاهب ومناهج واتجاهات النقد الأدبي ابتداء من التاريخية وانتهاء بـ "البنيوية"، كما تحتوي كتاباته على مفارقات تنحو أحياناً كثيرة إلى التعداد والتنوع والتضارب والتعارض ومتناقض الأضداد فهو يقدم مادة غنية لألوانٍ مغايرة في الدرس النقدي وهو ما أطلقتْ عليه الحداثة الأدبية أسم نقد النقد أو ما بعد النقد، وأن كتاباته الروائية أو مجموعاته القصصية تربطها مجموعة من العلاقات تتخلل النصوص جميعاً وتوحده إلى نصٍ واحد كما نرى هذا المنظور في رواياته: أولاد حارتنا واللص والكلاب والقاهرة الجديدة وعبث الأقدار.
كتب محفوظ "أولاد حارتنا" بعد ثورة يوليو1952 ولم يتم نشرها في مصر الا بعد 2006، ولعل ملخص القصة تبدأ ببطل الرواية "الجبلاوي"، كان شخصاً عنيفاً صلباً متسلطاً يمثل رمزا للحكومات المستبدة، أما الأخوة عباس وجليل ورضوان – عدا أدريس – يمثلون الطبقة الضعيفة والمستلبة في المجتمع المصري.
انتهج محفوظ أسلوباً رمزياً يختلف عن أسلوبه الواقعي، فهو ينحو في هذه الرواية جاهداً على ابراز القيم الإنسانية كالعدل والحق والسعادة الروحية، ولكنها اعتبرت نقداً مبطناً لبعض ممارسات عساكر الثورة والنظام الاجتماعي الذي كان قائماً.
وحاول الكاتب أن يصوّر للفقراء والمعدمين مدى الظلم الذي لحق بهم وبالبشرية عموماً منذ طرد آدم من الجنة وحتى اليوم حيث الأشرار يعيثون فساداً في الأرض ويستبدون ويستعبدون الضعفاء وقد غلقوا أبواب الأمل أمام الطبقات المسحوقة في أن تتمتع من نصيبها في الحياة.
كما سلط ضوءا على العبودية والقهر مبيناً وبجرأة فائقة حركة التأريخ في الصراع الطبقي للمجتمع المصري الذي يعيش الخوف والجوع ووضوح الفروق الطبقية بشكل مذهل ورهيب، ووضحها محفوظ ببراعة بليغة وهو يحرك خيوط شخوص الرواية في توزيع الأرث من قبل رب الأسرة بصورةٍ غير عادلة تكتنفها الانتقائية والازدواجية والتحيّزْ والتعسف بإعطاء الحظ الأوفر لـ "أدهم" والذي يقصد به آدم وحرمان "ادريس" الذي يقصد به أبليس، وبهذه الرمزية وهي الصفة المتعارف عليها عند الحكومات المستبدة، وهي إدانة للنظم الشمولية والدكتاتورية.
لم ينتقص من الدين ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل هو استعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية على مساحة جغرافية مصر والعالم العربي، وما كانت حكاية "عرفة" في نهاية الرواية والتي رسم له شخصية معرفية وموسوعية لكي يجلب انتباه القارئ والمتلقي بأن رافعة التغيير تكمن في التعليم والمعرفة وجعل العلم البلسم الشافي والطريق القويم لأولاد الحارة في النهوض من كبوتهم.
كان يرى أن الدين قد أاستغلّ ووظّف توظيفاً خاطئاً أدى إلى شقاء الانسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى والفتوحات الإسلامية في القرون الماضية وتعسف الدولتين الأموية والعباسية وأعتقد بأن أتهام محفوظ بالزندقة والإلحاد هو محض افتراء على الرجل ففي مجمل سير الرواية آمن بالموت لجبلاوي، وهل تموت الآلهة؟ وكذا بطله العلامة "عرفه" مات وفنى كجسد وبقيت معارفه شاخصة إلى الأبد، وهنا اتكأ محفوظ على ركيزتين في احترام الثوابت الدينية وهما "الخلود لله والموت والفناء للبشر وركيزة العلم"، وهي رموز تشبيهية لدكتاتوريات حكام العرب قديما وحديثا، وأن تشبيهات الكاتب لشخوص الرواية بالرموز الدينية قد خدم النص والفكرة التي أنشئ من أجلها المتن.
أخيراً، آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم وأن يلقوا بالتخلف والجهل والانقياد والعبودية بعيداً، هذه هي الروح التي تبنتها الرواية "أولاد حارتنا" فهو لم يدعو إلى الحرب بل إلى الحوار والسلم وان الرواية تبشر بيومٍ يستطيع فيه الانسان أن ينتصر على السلطة الغاشمة وأدواتها الفتوات ووعاظ السلاطين والجهل وكانت آخر كلمات الرواية "لكن الناس تحملوا البغي ولاذوا بالصبر واستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضرّ بهم العنف قالوا لا بد للظلم من آخر ولليل من نهار ونرى في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".