ادب وفن

في الذكرى الأولى لرحيله .. عبدالجبار البناء.. الراحل المقيم / خالد عبد عميش الجنابي

طلب مني الشهيد المغدور الدكتور شاكر اللامي في عام 2003 اعداد محاضرة تستعرض حياة وفن الفنان عبد الجبار البناء مستعيناً بأرشيف الفنان ليقوم الفنان نفسه بإلقائها في القاعة التي أصبحت الان "منتدى بيتنا الثقافي "فقمت بإعداد المعلومات وتنسيقها مضيفاً اليها معلومات كثيرة من عندياتي بحكم قربي من المرحوم ومعرفتي الدقيقة بتفاصيل حياته وفنه فخرجت بهذه الحلةُ القشيبة التي اقدمها الى القارئ تقديراً لمن كلفني بهذه المهمة واستذكاراً وايفاءً لإنسان وفنان بقي لصيقاً بالحزب الى آخر ايام حياته الثرة:
ها قد منحتني الايام فرصة الحديث امام اخواني ورفاقي في موضوع كنت وما ازال تواقاً لتناوله...
بدءاً اعترف انني كنت انوي اعداد دراسة تغطي مسيرة الفن العراقي منذ بواكيره الاولى ، غير أني عدلت عن هذه الفكرة لا سباب: منها جسامة الموضوع ، اذ ليس من الهيّن ارتياد عوالم ورؤى اجيال من الفنانين العراقيين الكثر لأن لكلٍّ هدف ومسعى يختلف بهذه الدرجة او تلك عن الآخر ، وكذلك ندرة الدراسات الفنية الشاملة عن هذا الجيل او ذاك من الفنانين وعدم توفر سِيَر الفنانين بشكل دقيق ، والأهم من ذلك كله ان الاحكام التي سأطلقها على هذا العمل الفني او ذاك ستكون اشبه بالظهور امام الطرف الآخر بسلاح جديد وارغامه في نفس الوقت على المحاربة بسلاح قديم لان الطرف الآخر لم يعد حياً وهذا امر غير مسموح به عموماً كما يقول بليخانوف في معرض رده على ميخائيلوفسكي
وبالتأكيد ستكون لي مواقف واَراء قد لا تنسجم مع وجهات نظر واَراء الآخرين ، وربما يزعج الموقف هذا او ذاك وانا لا أحبذ هذا النمط.
وبذلك فضّلت الحديث عن تجربتي الفنية في النحت متوخياً الدقة والامانة فيما انقله عن نفسي وعن الآخرين..

في لحظة مولدي عام 1924 لم اصرخ كما يصرخ الاطفال وهم يستقبلون عالماً جديداً وظن اهلي انني ميت ولم ارضع حليب امي ، كما حكت لي هي.، غير اني حولت هذا الصمت بعدئذ الى صراخ ناطق بكل الألسن ، واستبدلت اللبن بالإصرار والتحدي والوقوف صامداً في وجه ضربات القدر ومطباته.. عشقت الناس ، كل الناس ، وانعكس ذلك في مسلكي و فني........
منذ نعومة اظفاري تملكتني رغبة عارمة في الاعمال الفنية التي يؤديها عمال البناء الذين كنت بصحبتهم بحكم ان والدي كان معماراً .. اضافة الى اني كنت اتابع ما هو معروض من تماثيل (مانيكانات) في واجهات العرض في شارع الرشيد وابحث عن فنانين ممن يمارسون فنهم بالفطرة من امثال "منعم فرات" كما كنت اراقب الفنان اسكندر الروسي الذي قام بعمل نافورة ساحة السباع ، اثناء عمله لأتعلم منه، حيث كنت أقف ساعات طويلة عن بعد، أتملأ ما يصنعه هذا الفنان الرائع. وقد قيض لي الزمن ان اكون تلميذاً للمناضل الشيوعي الشهيد حسين محمد الشبيبي في مدرسة باب الشيخ الابتدائية الذي أخذ بيدي وشجعني وتابعني حيث كان يقول لي بالحرف الواحد" جبار: انت راح تكون نحات ممتاز". هذا مما حفّز وولّد فيّ رغبة عارمة في مواصلة العمل النحتي كما ايقظ فيّ روح النحات .... وتلك كانت البداية.
حماس وشوق للعمل حيث كنت اقتني الطين لأصنع ما يحلو لصغير ان يصنع بوعي انساني طافح بحبه للنحت..... محاولات فاشلة واخرى ... ومن هنا كانت البذرة الاولى ... كنت اقتني الاشجار بكافة انواعها لأقوم بتحويرها في اشكال تنمّي وعي فتى تفوح منه رائحة التوت والسدر والنارنج .. كنت اراقب والدي وهو يبني بيتاً واتطلع اليه بشوق وهو يصنع نافورة في احد القصور ، حاولت ان اقلده ، فضحكت مني امي.
وتمر السنون.....
لم يسمح لي والدي بدخول معهد الفنون الجميلة، فعشت سنوات الضياع بين الرغبة الملحة في العمل الفني ورفض العائلة هذا المسلك ، غير انني بقيت اعيش هاجس الفن .. ولم يتسن لي دخول المعهد الا بعد زواجي حيث انتظمت طالباً في المعهد لأدرس فن النحت على يد أستاذي الكبير المتعدد المواهب الراحل جواد سليم الذي كان مربياً لجيل كامل..
وواصلت رحلة الفن بكل مصاعبها ومتاعبها بصدق مع النفس والتجرد من اللهاث وراء المادة ، متحلياً بالصبر والاصرار ... وصار النحت متنفسي الوحيد في الحياة .. فالحياة لا طعم لها دون عمل وابداع..
يقيناً ان الحركة الفنية الواعية والهادفة ابتدأت في العراق في الخمسينيات من القرن الماضي وبشكل مميز ،وبذلك لم يعد الفن لهواً بل اصبح يمثل الجانب الحي في الفلسفة.
اننا لسنا مخيرين بين امرين : ان تكون لنا فلسفة او العكس . ان الاختيار هو : هل نكون نظرياتنا عن وعي ، بحيث تتفق مع مبدا مفهوم ، ام نكونها دون وعي وبمحض الصدفة ؟ بهذه الكلمات بدأ جون لويس مدخله الى الفلسفة.
اذن ليس للفلسفة وكذا الفن مغزى ان لم تؤثر او يؤثر على موقفنا من الحياة . وفي الحقيقة ان ما يسمى الفن من اجل الفن والفن المنفصل عن الجانب الانساني او المستقل عنه شيء لا وجود له.
ان الاعمال الفنية التي تفتقر الى الاصالة الفنية لا تمتلك اية قوة مهما كانت تقدمية ... وهكذا شهدت الخمسينيات من القرن الماضي ولادة الفن الملتزم. فقد كان الفنانون يعملون بتؤدة وتواصل متزن يقود هذه المسيرة اساتذة اكفاء مخلصون اذكر منهم: جواد سليم ،خالد الرحال، فائق حسن ،عطا صبري وغيرهم من الابرار الذين عملوا بصبر وجلد على تربية جيل متوازن.
وبنتيجة تفاعل ساخن في جميع المجالات تربى جيلاً من النحاتين ليواصل المسيرة ، رجال كانوا أهلاً لاستلام الراية من اساتذتهم والسير بها الى امام والحصيلة خلق اساليب متعددة متنوعة..
كانت تأثيرات مخلفات التراث العظيم في المتحف العراقي وكذلك الواسطي خير معين للفنان، اضافة الى ما تعلموه في دراستهم على يد اساتذتهم الذين ذكرت وما اقتبسوه من الغرب اثناء ابتعاثهم...
وفي اعتقادي ان شخصية الفنان العراقي تختمر يوماً بعد يوم نحو الأحسن ، اذ نجد اعمالاً بين الحديث المقتبس والمتطور والقديم الموروث الذي يرفد الجديد بعطاء زاخر..
لقد اسبغ السومريون والأكاديون والكلدانيون والاشوريون والبابليون على وادي الرافدين العظمة والسلطان وسجّل التاريخ صوراً وكلمات .. ومع ان الانسان تعلم كيف يرسم وينحت ويصنع الآنية في ازمنة واماكن لاتصل اليها الذكرى الا ان المتحف زاخر بهذا التراث الثر الذي نهل منه الكثير من الفنانين .. ورب سائل يسأل : ما الذي أستفاده عبد الجبار البناء من هذا التراث العظيم ؟ اقول :بروز العضلات وتحزيزها هو استلاف من الفن الآشوري
اما بخصوص اعمال النصب فهناك نوعان من هذه الاعمال : منها جمالية اقتبست من قصص التراث مثلما جاء في اعمال الفنان محمد غني حكمت في نصب كهرمانة وشهريار وافتح يا سمسم وأعمال الاستاذ الفنان الراحل خالد الرحال التي جاءت على جدار النافورة في جانب الكرخ وغير ذلك ، او تراثية كما جاءت في اعمال الفنان اسماعيل فتاح الترك...
ان لكل نوع من هذه الاعمال اسلوبه وطريقة اخراجه والمغزى منه وجميعها تعكس براعة النحات العراقي بشكل خاص....
اما النور الذي اضاء طريق حياتنا فهو انخراطنا في صفوف الحزب الشيوعي في الخمسينيات من القرن الماضي حيث كان بمثابة انعطافة مهمة في مسيرتنا الفنية فقد ادركنا ان الفن ، من حيث وجوده في منظومة اشكال الوعي الاجتماعي، يتفاعل في مختلف العلاقات مع غيره من اشكال الوعي الاجتماعي، ويتأثر بهما ولاسيما بالسياسة والفلسفة والاخلاق ويكون له تأثير في تطويرها..
وكان يعلمنا ان الابداع الحقيقي هو الاكتشاف باستمرار، والتسلح في معالجة موضوعات العصر بروح التجديد والوصول الى مرتفعات وذرى جديدة في تطوير المحتوى الفكري والمهارة الفنية وتنوع الاشكال والاساليب والانواع الابداعية ، وكل ذلك يرمز الى التقدم الحقيقي في تطور الفن.
لقد كان الحزب حريصاً اشد الحرص على تنمية مواهب الفنان والأخذ بيده . ولذلك كان يوجهنا ، اثناء اشتداد الازمات ، بعدم الخروج الى الاماكن العامة رعاية للفنانين وحرصاً عليهم ... هكذا كان اهتمام الحزب بالفنانين.
وايفاءً وولاءً للحزب اقمنا في العيد الاربعين للحزب معرضاً مشتركاً ضم عدداً من الفنانين منهم :عادل كامل، شاكر الشاوي، يحيى الشيخ والمتحدث وعذراً لمن لم تسعفني الذاكرة في ايراد اسمه.
بعد مسيرة طويلة في ممارسة فن النحت ، اجد نفسي في افق ارحب لهذا الفن واكثر صلة بعالمي النحتي الذي كان هاجسي منذ ما ينوف على النصف قرن ، فانا انظر الى هذا الفن كعمل في الرؤية البنائية بالدرجة الاولى : انني في الواقع اعيد صياغة الاسطورة مرة اخرى ، اسطورة النحت منذ بلاد سومر ، يضاف الى ذلك احساسي بالانتماء الى هذا العصر.
فالمشكلات المعالجة ترسخ العلاقة القائمة بين اسطورة الامس واسطورة زماننا.
فالانسان هو محور فني، الانسان المثقل بتاريخ الاغتراب ، والصراعات والاحزان ، في حين ان المرء يجد المرأة في عملي النحتي تتكرر كثيراً وتغدو اكثر الرموز تعبيراً عن الانتماء الى جوهر الانسان ، حتى الاحلام تتشكل عندي من الواقع ، ومن الخيال الخصب لضميري الداخلي او من لوعتي الجمالية : ان اكثر الاشياء التي احببتها في الحياة هي المرأة ، المرأة كأم واخت وزوجة وكانت تحفزني لاستلهام الافكار.... لا استطيع تصور انتاجي الفني بدون المرأة.
ان أسمى مهمات الفنان هي القضاء على مخلفات الفكر الرجعي المرتبط بأنماط السلوك الاقطاعي والبرجوازي والاستعماري ، والفنان الحقيقي يستطيع ، من خلال ابداعه وقدرته على تجسيد تجاربه و ان يقيم جسوراً صلبة بينه وبين جمهوره لكي يستطيع ان يأخذ مفعوله الفني والفكري ولكي يكون معبراً عن واقع شعبه وروح عصره لان حركة الفنان الذهنية والعملية هي هذا التشكيل الذي تمتزج فيه الذات بالموضوع من خلال الوعي بهما والاستجابة لهما.
لقد عبر الفنان الراحل محمود صبري عن مشكلة الفنان العراقي خير تعبير في قوله" ان الفنان, كسائر الموطنين ، مرتبط بشكل او بآخر بأسلوب الانتاج السائد والعلاقات الاجتماعية الموجودة ونوعية اساليب الحكم والمستوى الثقافي والصحي والمعاشي للجماهير وان تفهم الفنان لشكل هذا الارتباط وهذه العلاقات يؤثر بدرجة كبيرة على انتاجه ، فلكي يبدع الفنان ينبغي وجود قسط ولو يسير من الحرية في الاقل دون تدخل او تطفل غريب في ان يمارس هوايته الخاصة في البحث والاستقصاء".
وبعد ، فقد كانت الفترة الممتدة من تخرجي في معهد الفنون الجميلة ولحين اقامة معرضي الاول عام 1969 فترة اختفاء ، فصل من الوظيفة ، ملاحقة سياسية وسجن مما اضطرني الى مغادرة الوطن الى السعودية للتدريس هناك . فعلاً امضيت اربع سنوات هناك ادرس الفن ، عدت بعدها الى العراق عام 1968 للسبب الاتي:
لقد غرس الحزب الشيوعي فينا حب الناس ومعاونتهم ، فقد توسطت لدى لجنة التعاقد لأحد من اخواننا الفنانين العراقيين في ان يمارس التدريس بعقد وقدمت له كل عون ، الا انه مع شديد الاسف بعد ان توطن وثبتت اقدامه "لبس لي جلد النمر" واصبح "كلامه كالعسل وفعله كالأسل". فقد كاد يودي بي الى المهالك. كتب تقريراً الى مديرية الامن العام في السعودية يشرح فيه سيرتي الذاتية: مفصول وسجين سابق لأنه شيوعي .... وغير ذلك من الكلام الكثير ومن التهم التي كادت تؤدي بي الى المقصلة لولا وجود الخيرين من الناس الذين وقفوا معي وقفة بطولية واستطاعوا ان يفندوا هذه التهم ويشرحوا لهم مجهوداتي التدريسية الفنية المفيدة والناجحة والتي اخذت بيد الكثير من الطلبة الى المعرفة ، مما حدا بالمديرية المذكورة ان اكتفت بأنهاء عقدي دون ان تتخذ اجراءً ضدي. عدت على اثرها الى العراق عام 1968......
ان الشخص المشار اليه، "لسان من رطب ويد من خشب" لأن لسانه مركب ذلول و كلامه لينّ وظلمه بينّ" كما يقول المثل.
ها قد توقف الترحال ..... هذا اذن اوان العمل....
قيل "لكي يصبح الانسان فناناً ينبغي له بالضرورة ان يتحكم بالتجربة وان يحولها الى ذكرى ويحول الذكرى الى تعبير "الفن ليس صنعة فقط ، انما هو لغة ايضاً ، وهو ليس مهنة للاعتياش، بل طريقة للتعبير ووسيلة لتقديم شهادة عن العصر ، بل حتى المساهمة في تغييره ، بهذه النتيجة انتهى غويا ، فنان الشعب الاسباني ، بعد اطلاعه ودراسته للأعمال الفنية الكبيرة للفن الاسباني.
يولد العمل الفني لدي نتيجة شعوري برغبة عارمة للتعبير عن مشاعري واحساساتي ، غير ان هذه الرغبة في التعبير لا تنمو الا نتيجة اكتظاظ ذاتي بأفكار فنية ونضوج هذه الافكار لحد ان تتوفر الامكانات لظهورها في شكل فني، بمعنى ان البذرة الاولى للعمل الفني هي ان اعمل الشيء الذي احسه وما يثير فيّ رغبة جامحة لإنجازه غير ملتفت الى الوراء ،معتمداً انسانية العمل الفني متوخياً قدر الامكان اتقان العمل معتمداً الصبر على التجربة بلا كلل ، مبتعداً قدر المستطاع عن ضبابية الأخيلة البعيدة عن الواقع ، محاولاً تجنب الركض وراء اللامعقول.
ان مصدر الاعمال هو الواقع الذي اعيش فيه والذي احاول جهدي ان اكون صادقاً في التعبير عنه رغم ما يلازمني من قلق عند كل عمل اقوم به صغيراً كان ام كبيراً ... وانا نفسي لا ادري سبباً لذلك القلق الذي اسميه" قلقاً مشروعاً" أهو من الموضوع الذي اتناوله ام هو شعور بعدم القدرة على اخراجه بشكل جيد ومقبول، ام ان هناك اسباباً اخرى لا ادريها؟ صدقوني لا ادري .... المهم انه يصحبني طيلة فترة العمل ومع كل موضوع انفذه ، وقد يزول هذا الشعور عندما اكون قد انتهيت من انجازه.
يبدأ العمل بإحساس حول الموضوع اجده مسيطراً عليَّ ثم يتبلور هذا الاحساس الى فكرة تتجسد بدورها في خطوط سريعة احياناً تتحسن بانتظام لتأخذ طريقها الى الواح الطين او اية مادة اخرى ارى ما يناسب اخراجها مثل البرونز او الخشب او غيرهما وبشكل لائق يتوافق فيه الشكل والمضمون ، حيث ان المضمون ، كما تعرفون ، هو كل ما يمكن ان يضمه العمل الفني او يقدمه او يوحيه الى مشاهده . اما الشكل الفني فهو المظهر المحسوس للعمل الفني، الذي نحن بصدده ، هي المادة الصلبة، وفي الرسم الخطوط والالوان وفي الرقص الحركات ..... الخ ، فالوحدة قائمة لا انفصام لها بين الشكل والمضمون الفنيين ، بمعنى ان اي تغيير في هذا يؤدي بدوره الى تغيير في ذاك كما قال الراحل الدكتور صلاح خالص...
انني ارى ان الرسم اسهل كثيراً من النحت ... عمل النحت يتطلب زمناً اطول ، ولكن مع ذلك ، فإن العمل الجيد في الحالتين هو الأخلد. والفنان رساماً كان ام نحاتاً يساير التطور من خلال فنه ويتطور هو ايضاً من خلال ذلك ، وبذلك ترى ان معارضي العشرة التي اقمتها داخل العراق وخارجه ليست ذات مضمون واحد ، والتأمل هو المدخل الاساس الى عالم النحت فهو الذي يشد النحات الى العمل الخلاق ويخلق الفكرة ... وحين تزدحم الافكار من اجل عمل قطعة فنية فالتأمل هو الذي يشذب الافكار ويجعلها تستقيم في تناسق وترتيب .. انني في الواقع احاول ان اجعل الخفي مرئياً عبر الواقع كما يقول ماكس بكمان.
في مشغلي فوضى , بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. اخشاب متناثرة ، ومن كل نوع ، ومنحوتات منجزة واخرى قيد الانجاز . مارست النحت المدور والريليف ولوَّنت منحوتاتي للتعبير عن الوحدة بين اللون كسطح والنحت كعمق، فاللون هو محاولة لمنح النحت أصالة تخص الحداثة ، فالجذر التراثي لا ينقطع في زمن القديم ، بل يتجدد بأشكال تبقى تحمل اضاءات دائمة ، وهي اضاءات تجعل المستقبل مرئياً كما اشار مرة الفنان عادل كامل.
والمتأمل للنحت البارز "الريليف" يجد ان ايقاع المباشرة تعبيراً وتناولاً هو الاوضح في الاسلوب.
اعود لأقول أنني احترم المشاهد مهما كان ، عاملاً ، فلاحاً، مثقفاً متفحصاً او ناقداً لان مجرد حضوره وتتبعه صالات العرض والجهود الفنية المبذولة ، فإن ذلك بحد ذاته يدل على الاهتمام.
النحات ، سادتي الافاضل ، محكوم بأن يعمل بأبعاد ثلاثة .... وعلى الرغم من ان النحات يستطيع ان يستنسخ اشكال الكائن البشري تماماً ، الا ان الاختلافات بين التمثال وموضوعه تبقى قائمة وبارزة بوضوح . فالنحات ، مثله مثل الرسام ، بإمكانه ان ينتج ما يطابق الموضوع حسب ، وهو ان اشاء ان يمثل الموضوع في عالم من حوله فعليه ان يوجد مزيجاً من الاشكال والسطوح...
اما العناصر التشكيلية في النحت فهي: الكتلة ، الشكل ، الفضاء، الخط ، المادة والنسيج . فالنحت كالرسم يحاول ان ينظم هذه العناصر في تكوين موحد وبذلك فالمواد : من حجر وخشب ومعدن وطين وغيرها تمر عنده بعمليات متعددة قبل ان تتخذ شكلها وموقعها النهائي ، العمل المنجز ، ويعزى الكثير من قيمة النحت الجمالية الى نوعية المادة التي يستخدمها النحات والى الطريقة التي يتعامل بها مع هذه المواد . ولا بد للفنان نحاتاً كان ام رساماً وهو يتعامل مع جمهور مختلف القدرات على فهم اللوحة الفنية او المنحوتة ، من ان يلهم الجمهور القدرة على الفهم ومن ثم الاستجابة لما يعرض عليه من انتاج وذلك بإزالة الابهام الذي يلف العمل الفني ، غير اني اود ان اؤكد هنا انه ليس من السهل فهم الاعمال النحتية ، على وجه الخصوص ، كلياً الا حين يكون باستطاعة الناظر المتأمل ان يرى المنحوتة من جميع جوانبها لكي تتضح لديه العلاقات والحركات التي توحد الاجزاء ... ولا بد للفن من طابع انساني اشمل ووجه وطني اخص يؤهلانه للبقاء والنمو والاستمرار والتطور ويبعدانه عن ان يكون ميداناً للدعاية في معناها الضيق كما يقول الفنان نوري الراوي.
لقد ظلت حياتي الفنية بمنأى عن المساومات والتنازلات لأنني اؤمن انه "لم يكن لدي ما افقده".
بقي ان اقول انني اقمت عشرة معارض داخل القطر وخارجه ، كان اولها عام 1969 والذي كان حصيلة تجارب حياتية طويلة ..... تجارب كانت الى درجة كبيرة من الامتلاء لا توصف ، اوحت لي في تضاعيفها قيماً خيرة ، واعتبارات نبيلة ومثلاً شريفة .... ولئن حقق ازميلي شيئا في هذا كله فذلك لأنني انطلق في فني من هذا المنطلق وأسعى جاهداً لان يحقق الفن رسالته النبيلة في الحياة بعيداً عن التهويمات...
اما آخرها فكان في عمان / قاعة الاورفلي عام 2002 حيث استمرت التكوينات في حركتها المتناغمة ، حركة تتجدد رغم ثبات الخشب وسكون خلاياه ، ورغم صلادة المعدن وبرودته الخارجية.
كما انني عملت مسؤولاً للقسم الفني في متحف التاريخ الطبيعي / جامعة بغداد ، وأنجرت خلال مسيرتي الفنية 80 قطعة فنية في مختلف المواضيع الفولكلورية للمتحف البغدادي ، وساهمت في العديد من نشاطات جمعية الفنانين والمتحف الوطني كوني عضواً في نقابة وجمعية الفنانين العراقيين.
أشكركم جداً على حضوركم وتحملكم مشقة الاصغاء لهذا الكم من الكلام.