ادب وفن

"أم مخيفة".. ثيمة تستغور الذات الإبداعية المرتبكة / عدنان حسين أحمد

ثمة أفلام روائية تتعاضد فيها القصة السينمائية مع الأداء المبهر الذي يتناغم مع الرؤية الإخراجية لصانع العمل ومبدعه، وفيلم "أم مُخيفة" للمخرجة الجيورجية الشابة آنا يوروشادزه من هذا النوع الذي يُوحي لمتلقيه بأنّ لمسات المخرجة حاضرة في القصة، السيناريو والأداء والتصوير والمونتاج، والمؤثرات الصوتية والبصرية من دون أن تمارس قمعها الفردي وسلطتها الإخراجية على فريق العمل الذي يقف وراء نجاح الفيلم وتألقه في أكثر من مهرجان دولي فقد عُرِض في لوكارنو وحاز على جائزة العمل الأول كما شارك في سراييفو السينمائي وخطف جائزة المهرجان الكبرى. وقد أُدرج ضمن مسابقة الأفلام الروائية في مهرجان الجونة السينمائي الأول ومن المرجح جدًا أن ينال إحدى جوائز المسابقة وذلك لحبكته القوية المتقنة، وأداء شخصياته المبهر وخاصة ناتا مورفانيدزه وراماز أزيلياني وأفتانديل ماخارازده وبقية الشخصيات الثانوية التي قدّمت أفضل ما عندها لكي تكون بمستوى هذا الفيلم الناجح فنيًا وفكريًا وثقافيًا لأنه يوفر لمُشاهِده ثلاثة عناصر أساسية وهي المتعة والمعرفة والإقناع.
يعتمد الفيلم على سؤال واحد لا غير مفاده: هل تُكرّس "منانا"، المرأة الخمسينية، نفسها لحياتها العائلية أم تمضي وراء شغفها الإبداعي الذي قمعته طوال حياتها الماضية؟ ثم تتشظى الأسئلة الفرعية التي تعزز ثيمة القصة السينمائية المدبجة بحرفية عالية توحي بأن كاتبتها محترفة ولكنها في واقع الحال لا تمتلك في رصيدها الفني ككاتبة ومخرجة إلاّ بضعة أفلام قصيرة من بينها "أفكار" و "رجل واحد أحبني"، إضافة إلى فيلمها الروائي الطويل الأول "أم مُخيفة" موضوع بحثنا ودراستنا النقدية التي نحاول من خلالها أن نتقصى الرؤية الإخراجية لصانعة الفيلم التي أمسكت بتلابيبه ودفعته إلى المنطقة التي تتوهج فيها مخيلة المبدعين والمتلقين في آنٍ معًا.
لم يعرف المُشاهد أول الأمر إن كانت "منانا" هاوية أم كاتبة مبدعة طمرت موهبتها لسنوات طوال لكننا كنا نسمعها وهي تقرأ بعضًا مما كتبته لأفراد أسرتها الصغيرة وكان الزوج "آنري" هو الأكثر تعليقًا على الموضوعات الحساسة التي تتناولها في كتاباتها الروائية التي أثارت حفيظته لاحقًا ودفعته الى أن يحرق مخطوطتها الأولى لكن جارها "نوركي" صاحب محل القرطاسية القريب من منزلها يتدخل بوصفه ناقدًا أدبيًا يُدرك قيمة ما تكتبه "منانا" ويرى في مخطوطتها عملاً روائيًا فذًا يخترق التابو الجنسي على وجه التحديد. لقد أسهم "نوركي" في تعزيز ثقة "منانا" بنفسها ككاتبة متفردة سوف تترك أثرًا كبيرًا في نفوس القراء إذا ما اطلعوا على نصها الروائي الصاعق الذي أثار والدها أيضًا بعد أن اقتنع بأهمية النص الروائي ووافق على ترجمته إلى اللغة الإنكَليزية شرط أن يلتقي بكاتب النص أو كاتبته ويعرف سلفًا نهاية هذا النص الإشكالي الذي وصفه بإعجاب كبير:"النص عبقري وفاحش في الوقت نفسه" عندها سوف يتعمق الإحساس لدى المتلقي بأنه يقف في مواجهة كاتبة تكتب نصوصًا ليست بورنوغرافية فقط وإنما فاحشة الأمر الذي يشجع زوجها آنري على القول بصراحة غير معهودة بأنها يجب أن تراجع نفسها كثيرًا قبل أن تقْدم على حماقة من هذا النوع الذي سوف يشوّه سمعه العائلة برمتها. لعل أبرز مميزات هذا الفيلم هو سلاسته، وانسيابيته، وتدفقه العفوي الذي لا يسمح للملل أن يتسلل إلى متلقيه الذي قد يتعاطف كثيرًا مع "منانا" بوصفها كاتبة من جهة وأم من جهة أخرى بدت عليها معالم التعب والإرهاق والنسيان حتى أنها كانت تدوّن بعض الأفكار التي تخطر ببالها على ذراعها اليسرى التي امتلأت بالملحوظات التي تتعلق بروايتها أو بمواعيدها اليومية وقد رأيناها غير مرة وهي تكتب أو تمحو هذه الملحوظات التي توحي لنا كمشاهدين بغرابة سلوكها ومظهرها الخارجي، فهي لم تعد أنيقة لأنها منهمكة في الكتابة وتدور في فلك عزلتها الأمر الذي تضعنا فيه مخرجة الفيلم أمام ثيمة جانبية وهي عزلة الكاتبة بوصفها ذاتًا بشرية متفردة. وحينما تشتبك مع زوجها بصدد المكان الذي يجب أن تكتب فيه قبل أن يتنازل لها عن غرفة النوم تقرر الذهاب إلى منزل "الناقد الأدبي" الذي يوفر لها غرفة خاصة في محل عمله الأمر الذي يستفز زوجها ويحاول جاهدًا إعادتها إلى البيت خاصة في يوم عيد ميلادها الذي حضر فيه بعض أصدقائها بينما كانت هي خارج المنزل تلاحق "نوركي" كي تعرف بعض المعلومات المخبأة عن نصها الروائي. وبالفعل تتابعه في الأندرغراوند وتجلس على مقربة منه من دون أن يكتشف وجودها حيث تسمع مباشرة صاحبة دار نشر بأن ما تكتبه هو نص بورنوغرافي لا علاقة له بالعمل الأدبي وأنه قد يكشف بعضًا من مكوناتها الداخلية المقموعة التي نفّست عنها بواسطة هذا البوح الإيروسي الذي تسمّيه عملاً إبداعيًا.
تستمر اللعبة الإيهامية التي يساهم فيها الأب المترجم حينما يصرّح بجرأة ووضوح بأنه لم يقرأ مثل هذا النص لأي كاتب فاحش وينجح في استدراجنا إلى الفخ الذي يشي بأهمية ما تكتبه من دون أن يوضح لنا طبيعة هذه الكتابة وحقيقتها المجردة عن الأباطيل مؤججًا فينا عناصر الشدّ والترقب والتشويق. غير أن هذا الأب الذي ضللنا، بينما كان في واقع الحال يعرف كل شيء، يبدأ بتحطيم هذا الوهم الذي زرعه فينا جميعًا حينما أعاد الى ابنته بمناسبة عيد ميلادها الذي نسيته تمامًا صندوقًا قديمًا يتضمن مذكرات طفولتها التي كتبتها بأسلوب جميل يوحي لنا بموهبتها الإبداعية الأمر الذي يضعنا مجددًا أمام سؤال الموهبة والإبداع وهل أن ما تكتبه يعتبر عملاً إبداعيًا صرفًا وليس سيرة بورنوغرافية كانت مقموعة سابقًا وقد وجدت طريقها إلى الورق؟
لا بد من الإشارة إلى أداء الشخصيات الأربع وأولها شخصية "منانا" التي جسدتها الممثلة ناتو مورفانيدزه بإتقان كبير استطاعت بواسطته أن تشدّ المتلقي وتكسب تعاطفه حتى أنه قد يغفر لها زلّتها الجنسية مع نوركي حينما تعاطفت معه وقبّلته وبدأت بخلع ملابسه قطعة قطعة من دون أن تمضي في العملية إلى أقصاها. وما دمنا في سياق الحديث عن "نوركي" الذي أدى دوره بنَفَس لا يخلو من الفكاهة والمرح، الممثل راماز أزسيلياني فقد حطّم جدية الأداء عند الشخصيات الأُخرى وخاصة الزوج آنري، الموظف المحافظ الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة التي لا تريد الانحدار إلى مشكلات قاع المجتمع الجيورجي.
أما الشخصية الأكثر إثارة والأفضل أداءً فهي شخصية الأب "جاري" التي جسّدها الممثل أفتانديلماخارازده بصوته الأجش، وجديته الرزينة التي وضعت الأمور في نصابها الصحيح محطمة بالنتيجة أوهام ابنته في كتابة النص الإبداعي بعد اللقاء المرتقب الذي تحقق بينهما لنكتشف أن الأب كان يعرف كل شيء لكنه أخذنا وإياه في رحلة استكشافية لا تخلو من متعة الوصول إلى الحقيقة بعد أن أزاح بشكل تدريجي مقنع الضباب الذي كان يغلّفها منذ بداية الفيلم حتى نهايته الجميلة المعبرة.