ادب وفن

زاهد محمد زهدي.. الخطاب الاستعاري في شعره 16 سنة على رحيله وشيء عنه / مزاحم الجزائري

في الذكرى السادسة عشر لرحيل الشاعر والمناضل زاهد محمد زهدي الذي أوقف جلّ شعره في الدفاع عن قضايا الشعب العراقي, وأصبحت قصائده وأغانيه استهلالا وختاما لاحتفاليات الحزب الشيوعي العراقي في السجون والمعتقلات, وفي المسيرات والتظاهرات, ويكفيه فخرا, أغنية (سالم حزبنه) والتي أصبحت واحدة من إيقونات الحزب الشيوعي العراقي التي ستبقى لصيقة بإرثه الفني والتاريخي, زاهد سيبقى يغني في عقولنا.
1
زاهد محمد زهدي, كردي فيلي, ولد في قضاء الحي التابع لمحافظة واسط لعائلة كادحة في العام 1930, وكان منذ صغره نابها ذكيا, واحد الأوائل الثلاثة من تلاميذ المحافظة في نتائج امتحان البكلوريا للصف السادس الابتدائي, التحق بعدها بكلية الملك فيصل ــ,وهي متوسطةــ أنشئت بإدارة إنجليزية, ضّمت النابهين والمتميزين من الطلبة من عموم العراق ليكونوا كوادر في خدمة البلاط الملكي, لكن الرياح ذهبت بما لا تشتهي السفن, فقد أصبحت بؤرة للنشاط الوطني والديمقراطي, وبسبب نشاط طلبتها السياسي ومشاركتهم في الإضرابات ألتي اندلعت في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي, جرى إغلاق الكلية وإلغاؤها, استطاع بعدها أن يجد له عملا في مديرية السكك الحديد في الشالچية, وكان احد قادة إضراب عمال السكك في العام 1948 بعد وثبة كانون المجيدة, غير أن أجهزة الأمن تمكنت من اعتقاله بالرغم من تفاديه لها, ما أثار عمال السكك ودفعهم للخروج في تظاهرة ضخمة من الشالچية إلى دار رئيس الوزراء السيد محمد الصدر مطالبين بإطلاق سراحه وهم يرددون: (حق باطل زاهدنه نريده), فلم يكن أمامه من خيار سوى إطلاق سراحه.
ولكن زاهدا لم يكن بمنأى من حملات الاعتقالات الممنهجة والمستمرة لسلطات الاحتلال التي كانت تسعى جاهدة للحد من تنامي التوجهات اليسارية أو الحد منها. ففي واحدة من هذه الحملات في العام 1948 كان زاهد أحد ضحاياها مع المئات من المناضلين الوطنيين اليساريين, وغالبيتهم من الشيوعيين, وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين من قبل المجلس العرفي الذي انشئ لهذا الغرض, تضاعفت بعدها إلى ثمان سنوات بحجج واهية, من قبيل التغني بالأناشيد السياسية, أو ترديد هتافات, أو القيام بإضراب عن الطعام. و أطلق سراحه في العام 1956, وبعد انتصار ثورة 14/تموز/1958عمل في دار الإذاعة العراقية, وأسهم في تقديم العديد من البرامج التي حظيت بإعجاب المستمعين, وقد نظم العديد من القصائد باللغتين الفصحى والعامية, ومن أشهرها أغنية (هر بجي كرد وعرب رمز النضال) التي لحنها وغناها الراحل أحمد الخليل.
تمكن زاهد في أعقاب انقلاب 8/شباط/1963المشؤوم من الإفلات من قبضة الانقلابيين, والتحق للدراسة في براغ هو وزوجته بعد حصولهما على زمالتين دراسيتين, نالا إثرها شهادة الدكتوراه في الاقتصاد. عاد إلى العراق في العام 1973, وعمل في وزارة التخطيط, ومن ثم في مديرية السكك الحديد, وغادر العراق في العام 1982, رحل عنا في 28 /أيلول /2001, وفي نفسه غصّة, فقد كانت تخامره مشاريع عديدة يقف في مقدمتها أن يشهد سقوط النظام السابق, واستكمال بعض مشاريعه الأدبية, لكن المنية المتربصة به لم تمهله قليلا.
2
عُرٍفَ زاهد محمد منذ نعومة أظفاره بالفطنة والذكاء, ومن المؤكد أنّ تجربته الحياتية والمعاناة التي رافقت تشكّل شخصيته وهو لم يزل يافعا, وتجوابه بين المعتقلات والسجون العراقية كان لها الأثر الكبير في إنضاج شخصيته وصقل مواهبه وعلى وجه الخصوص الشعرية منها, فقد كانت هذه السجون تزدحم بخيرة رجال الحركة الوطنية من شعراء, وأدباء, وفنانين, وأطباء, وضباط, ومهندسين, وشكّلت حالة الاختلاط وطبيعة الحياة المنظمة في السجون العراقية التي أرسى دعائمها وعزّزها الشيوعيون العراقيون بعد أن حولوها إلى مدارس حقيقية منتظمة يدرس فيها الأدب, والفلسفة, والاقتصاد, واللغات فضلا عن الشؤون السياسية والتنظيمية, في ظهور أجيال من الشعراء, والأدباء, والكتاب, في مختلف صنوف المعرفة. من هذه البؤر الثورية خطا زاهد محمد أولى خطواته في مشواره الفني, الذي نيف على نصف قرن, ولم يتوقف الأمر عند تدبيج القصائد ونظمها وحسب, فقد هدته فطرته الفنية إلى تلحين قصائده وأدائها, وقد غاب عنها الأداء الفردي, وهيمن عليها الكورال أو الغناء الجماعي, وغالبا ما كان في هذا النمط من قصائده المغناة, يضع ألحانها أثناء كتابتها, فغالبا وهو يدندن باللازمة الموسيقية, أو باللازمة الشعرية (الكوبليت), في محاولة لاستجلاب الأفكار والمعاني كي يستكمل النص اشتراطاته.
ويعتبر زاهد نفسه, احد تلامذة مدرسة الجواهري الشعرية, فقد تابعه في أساليبه وصياغاته وبحثه اللائب عن المفردات العربية الغريبة, إلاّ أنه اشتهر في الساحة الأدبية العراقية, شاعرا شعبيا.
من مؤلفاته:
له أربعة مجاميع شعرية: أفراح تموز 1960, شعاع في الليل 1962, حصاد الغربة 1993, و الإخوانيات.
الجواهري صنّاجة العرب.
الملا عبود الكرخي ــ دراسة في شعره.
وراء المكرفون.
ندوة الأربعاء.
عدد من البحوث الاقتصادية في شؤون التنمية واقتصاديات النفط.
وَمَنْ مِنْ جيل الخمسينيات والستينيات لم يتابع أو يسمع بالمسلسل الإذاعي الريفي (غيده وحمد). وثمة مسألة غاية في الخطورة والأهمية تقتضي طرحها ونحن نستذكر زاهد محمد الشاعر الذي أوقف شعره على قضية استقلال العراق وموقفه من موضوعة الحياة الديمقراطية, والحريات, ورؤيته لمستقبل العراق السياسي, هي موضوعة الريادة في كتابة النص الشعري الشعبي الحديث بعيدا عن الأنماط الكلاسيكية, كما في الأبوذيه, أو الموال, والتجليبة, وحتى القصائد التي كانت تنظم على شكل مقاطع رباعية الأشطر, ومع هيمنة فضاءات القصيدة الكلاسيكية على نصوصه الشعرية, إلاّ أنّه افلح بخروجه من معطف القصيدة الكلاسيكية على مستوى المضامين, وأزعم أنّ موضوعة الريادة ينبغي احتسابها له, فهو كتب قصيدة (سالم حزبنه) في العام 1950, في حين نشر مظفر النواب أولى قصائده (الريل وحمد) في العام1956, ونحن هنا لا نريد أن ندخل في موضوعة مساجلة تاريخية مماثلة لأسبقية نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب حيال موضوعة الريادة في قصيدة الشعر الحر, ولا نتوخى من هذه الدعوة سوى الأمانة الأدبية ووضع الأمور في نصابها.
3
قليلون من العراقيين المتابعين للمشهد الشعري الشعبي يعرفون زاهد محمد الشاعر, وأقلّ من ذلك العدد من الشعراء الشعبيين من سَمِعَّ به, وأقلّ من ذلك العدد ممن يرددون أناشيده وأغانيه يعرفون شاعرها, فهل هذا الخلل متعلق به؟ أم بنا؟ أم بطريقة تسويقه إعلاميا؟ وهل كان التغييب قسريا؟
للإجابة عن هذه التساؤلات, يبدو لي, أنّ الأمر يشوبه شيء من الإبهام, و لابدّ من معاينة الأسباب الحّافة به وإيضاحها وفق سياقها التاريخي, فزاهد الشاعر تفتقت قريحته وهو في ذروة فتوته بين جدران المعتقلات والسجون, وهو ينظر بعين فاحصة لها وهي تعج بآلاف الوطنيين من دون سبب يذكر سوى حبهم لوطنهم, وإذا كانت التجربة الشعرية في معظمها تمدنا بحقيقة اكتشاف الطرف الآخر, إلاّ أنّ تجربة الشاعر نمت, وترعرعت بين محبة الوطن, ومحبة الحزب, وهما وجهان لحقيقة واحدة, ودرج في محاولاته الأولى وهو يبشر بمحاولاته بين رفاقه, يسوق قصائده في المناسبات الحزبية داخل السجون, وافلح وهو لمّا يزل في العشرين من عمره, أن يكتب أشهر قصائده (سالم حزبنه) وأن يضع لحنا لها, وقد قارب عمرها الآن على السبعين عاما وما زالت تحتفظ ببريقها في المناسبات الحزبية. من المسائل المهمة التي ينبغي الإشارة إليها هي, أنّ المبادرات الفردية التي كانت تتسق مع توجهات الحزب وتسوّق أفكاره, تصبح بتقادم الأيام جزءا من توجهات الحزب المركزية, ومن هنا بقيت هذه الأغنية وغيرها من الأغاني والأناشيد جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحزب السياسي, هذا أولا. ثانيا: إن الأناشيد والأغاني التي وضع كلماتها وألحانها الشاعر لم تكن أغان عاطفية, بل كانت في إطار حزبي معين, وهذا الإطار حدّ من شيوعها وتسويقها وتعريف الشارع العراقي بها. ثالثا:غادر الشاعر العراق في شباط من العام 1963 ولم يعد إلاّ في العام 1973, وعمل في وزارة التخطيط ومن ثم في مديرية السكك الحديد, ليغادر في العام 1982 مرة أخرى, ويحق لي الزعم في معرض حديثي أن أقول: لقد جرى إهماله عن عمد وقصدية في سنين مكوثه ببغداد بالرغم من معرفة المعنيين بإمكانياته الفنية والشعرية. إنّ غياب أي إنسان عن دائرة اشتغالاته لمدة أربعين عاما كفيلة بتغييبه عن الذاكرة الجمعية. بيد أنّ الشاعر كان له حضور في خارج العراق يشار له, فالعراقيون الذين أجبروا على مغادرة العراق في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم هم من مجايليه, فضلا عن حضوره في احتفالات عديدة للجاليات العراقية في عواصم ومدن أوروبية عديدة كما في لندن وبرلين وكوبنهاگن.
4
ســــــالم حـــــزبنه
ســـالم حزبنه / ما همته الصدمــات / ســـــالم حزبنــــه.
يخسه اليضدنه / الشعب حي ما مات / يخسه اليضدنـــه.
واحنه المشـينه /عالجسر وســط النار/ احنه المشـــينـه.
نحــفر بــديــــنه / گبر ك يا لاســــتعمار/ نحــفر بديـــنـه.
امشــــي نـــزوره / وبنگـــرة السـلمان / امشـــي نزوره.
رمــــز البطــــوله / شامخ على السجان / رمز البطولـــه.
ســــالم حزبــــــنه / ما همّته الصدمـــات / سالم حزبنـــه.
يخســه اليضـــدنه / الشعب حي ما مات /يخسه اليضدنه.(1)
القصيدة من بحر الرجز, ووزنها: مستفعلاتن / مفعولن / فعلن / مستفعلاتن, ولا يشترط في الرجز التوازن في عدد المقاطع والتفاعيل(2) وهي تتألف من ستة أبيات.
لا يمكن النظر إلى هذا النص منفصلا عن عالمه, فهو تمثيل لذات الشاعر وانعكاس لما يدور من أحداث من حوله, لأنّ التجربة الشعرية غير منفصلة عن الواقع الاجتماعي والعوامل الأخرى الحّافة بها. والشاعر في خطابه الاستعاري استطاع المزج بين الخطاب الصوري والخطاب الذهني, وهذا يتطلب منا ان لا نقف عند تخوم معنى النص, بل أن نبحث عن معنى المعنى للكشف عن دلالاته الأكثر عمقا, واستنتاج معانٍ لم يقلها الشاعر, ولكن النص قالها ((وهذا حال المعارف الإنسانية كلها, فهي تتأسس وفق حلقات تطورية تتسع كلما أوغلنا في المستقبل, دون ان نلمح نهاية ما لهذه المعارف التي تبقى نسقا مفتوحا على نفسه, وعلى أنساق أخرى))(3).
إنّ صياغات الخطاب الاستعاري غالبا ما تظهر لصيقة بالنصوص الوصفية, حيث يتداخل الوصف بالسرد بما يضمن حركية النص وتناميه, فالاستعارة كصورة بيانية لا يعني النظر إليها منفردة, بل بما تقوم به من ترابط بما قبلها وما بعدها في السياق سواء كان الخطاب تقريريا أو تخيليا, والواقع أنّ البلاغيين الجدد أولوا الاستعارة عناية فائقة باعتبارها بؤرة المجاز في النص (4) لا بل هي تشتمل على كل ما موجود حولنا, فالإنسان موجود في الاستعارة, وبالاستعارة يوجد الإنسان(5).
ينبني نص(سالم حزبنه)على أساس تناظر ثنائي, يؤكد من خلاله ثنائية كونية, تبتدئ بالحياة وتنتهي بالموت,
وعلى غرارها تنبثق ثنائية الليل والنهار, والحزن والفرح وغيرها, بيد أنّ الثنائيات الفرعية في النص تتبدى في تناظرات مغايرة يتشكل عبرها الخطاب الاستعاري بمدلولات غير مألوفة في النص الشعبي, وتدور ثنائياتها بين: المناضلين / الشرطة السرية, الشعب / السلطة, الوطن /الاستعمار,الصمود /الانهيار, الحرية / السجن.
إنّ الخطاب الشعري في النص, هو خطاب وصفي, والقصيدة العربية في أصلها هي وصفية, وهذا النمط من القصائد يمكن وسمه بالبساطة, والوضوح, والصفاء, وابتعاده عن الغموض والإبهام, ويحق لنا التساؤل في معرض حديثنا عن هذه القصيدة ــ التي قارب عمرها السبعين عاماـ هل كانت وظيفة الوصف في النص جمالية
أم أنّها خرجت إلى وظيفة إبلا غية؟ والحقيقة أنّ وظيفة النص كانت جمالية وإبلا غية في الحين نفسه.
والشاعر يبدأ النص من الصورة الكليّة (سلم حزبنه) بإطلاق صفة الكل على الجزء, بتوظيفه أسم الفاعل(سالم) الدال على الحال والاستقبال, الواصف لحالة صحية راهنة وهي كناية عن (سلامة التنظيم) وهذا ما يشير إليه الضمير (نا) الدال على الذات الجمعية, واصفا الحزب بالإنسان القوي والمعافى سابغا عليه صفة الأنسنة. وتقدير القول: إن الحزب بعد كل هجمة من قبل السلطة والتي شبهها بـ (الصدمة), يخرج أقوى عودا, وأكثر تماسكا, واصفا الحزب بالجدار الصلد الذي تتكسّر عنده الصدمات, وهذا ما نعنيه بمعنى المعنى. إنّ سبب خروجه سالما لا يقتصر على منعته وحسب بل لأنّ الشعوب لا تموت إنما الأفراد, والشعوب الحية ولاّدة ومنتجة لقيم وأجيال بديلة ترفد المناضلين وتعزّز من مسيرتهم, وهذا التعالق الاستعاري هو الذي ينمي الخطاب الشعري. والشاعر لا يغترف مادته الأدبية من رؤى راودته لحظة الكتابة, إنما من واقع تتماهى مقارباته مع أحداث تاريخية, فهو يوظف مفردة (الجسر) في إشارة واضحة لواقعة الجسر في وثبة كانون1948والتناظر القائم بين هتاف المنتفضين ولعلعة رصاص الشرطة الصادر من المباني المطلّة على الجسر بعد ان أخذوا منها مكمنا للإيقاع بأكبر عدد منهم وترويع الآخرين. وهو يستخدم لفظة (النار) قيمة استعارية بدلا من (الرصاص) لتهويل الصورة الشعرية التي استطاع الشاعر تحويلها إلى صورة بصرية, وكأنّ المتظاهرين يمشون على جسر من النار, وهنا يتبدى مفهوم الوصف حين يفضي بنا إلى مفهوم الصورة الفنية, كما يفضي بنا إلى طبيعة التخييل الذي يعد روح النشاط الأدبي. إنّ تبديات لغة النص المقاربة لأسلوب السهل الممتنع تتموضع فيه المجازات بصورة متعاقبة, وبقدر ما تكون هذه المجازات غامضة ومتعددة, بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات(6), فهو عندما يقول: (نحفر بدينه / گبرك يا لاستعمار) إنما يشخصن الاستعمار ويجعل منه كائنا حيا, موظفا الاستعارة في وصفه لهذا الكائن المتوحش الذي يقتات على دماء الشعوب, ومع ما يتصف به هذا الكائن من قوة وبطش, إلاّ أننا قادرون في نهاية الأمر على حفر قبره (طرده), حتى لو تطلب إنجازه بأيدينا من دون الاستعانة بمعاول, والتقدير: أنّنا قادرون على تحرير بلادنا من الاستعمار مازلنا نمتلك الإرادة. وحين يقول: (رمز البطولة / شامخ على السجّان) فالمبتدأ هنا محذوف وتقديره ( الحزب), وهو يستخدم أسم الفاعل (شامخ) للدلالة على الفعل, وقد جاء في معجم المعاني, باب ش م خ, أنّ الشموخ يعني: العلو والارتقاء, والشموخ على وفق ما ورد في النص الشعري هو السموّ والرفعة, وهذه الصفة ملازمة لرفاق الحزب وتاريخه, إنّ من أهم ما يشار له في هذا البيت وقد جاء بصيغة تقريرية, أنّها تجعل من الاتصال والإبلاغ غايتها, ولا تعنى بالوظائف الأخرى, لذا نلحظ, أنّ مفهومية التقريرية هي السائدة فيه, وأنّ الطاقة الشعرية تبدو فيه شاحبة, كون الخطاب الشعري فيه يحيل إلى حقيقة موضوعية, والجهات المعنية تتعاطى مع معطياتها بدراية تامّة.
من المسائل الجديرة بالتنبيه لها في هذا النص, تكرار جمل شعرية بعينها في أول البيت وآخره, وهذا الأسلوب البياني شبيه برد العجز على الصدر والذي كثيرا ما يرد في عمود الشعر, وفي القصائد الشعبية الكلاسيكية, وأصبحت هذه الجمل أو العبارات لازمة إيقاعية, تمظهرت فيها المجانسة والتوازن في الأداء اللحني بين هذه الجمل الشعرية أكثر من كونها صيغة توكيدية.
ما ينبغي أن نذكره في الختام, أنّ هذه القصيدة ليست قصيدة رمزية توثق لمرحلة تاريخية معينة, بل هي تندرج كوثيقة سياسية تؤرشف لتاريخ العراق, والدور الذي نهض به الحزب الشيوعي العراقي في تلك العقود
في مناهضته للاستعمار, والتضحيات الجليلة التي قدمها لهذه المهمة النبيلة هي جزء من حركة المجتمع العراقي ونضاله, وما تنطوي عليه من صراع بين قوى الشعب الحية, والقوى الخارجية المتمثلة بالاستعمار وأدواته الداخلية, وهي ترصد الدور المتفاني للحزب في تلك الحقبة, والتي كانت ركنا أساسيا في التغيير اللاحق.
إنّ الفعل الإنشادي في تلك الحقبة وفي مثل تلك الظروف لم يكن ترفا شعريا, ولا نزوة طارئة بل هو جزء من حركة التاريخ وصيرورته, ويمكن أن نسمي الأسلوب الذي تناولت فيه نضال الحزب بـ(التصور الدرامي لحياة الحزب), فأنت ترى المتظاهرين يتدافعون على جسر مود (الأحرار) وهم يهتفون, والرصاص ينهال عليهم من كل حدب وصوب, وثمة مجاميع شرعت بحفر حفرة كبيرة, وكيف يتصرف السجناء مع السجانين بثقة واعتداد, هذه الصور المتخيلة تنشط من الفعل الدرامي في ذهن المتلقي. تشير التجربة التاريخية إلى أنّ الحزب قائم وقادر على تجاوز محنه, بمجرد أن يلتقط أنفاسه.
ـــــــــــــــــــ
المصادر:
1ـ زاهد محمد: إعداد عبد الرزاق الصافي, شركة دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر, بغداد,2009:
2ـ العروض: الشيخ جلال الحنفي, وزارة الأوقاف, بغداد, 1978: 197:550
3ـ البلاغة وتحليل الخطاب: حسين خالفي, دار الفارابي ـمنشورات الاختلاف, ط1, بيروت ـ الجزائر:26ـ27.
4ـ بلاغة الخطاب وعلم النص: صلاح فضل, الشركة المصرية العالمية للنشرـ لونجمان, ط1, 1996: 203.
5ـ أرسطو والاستعارة: عمر اوكان, مجلة فكر ونقد, السنة2,العدد17, دار النشر المغربية, الدار البيضاء,
1999: 207.
6ـ التأويل بين السيميائية والتفكيكية: أمبرتو إيكو,ت, سعيد بنكراد, المركز الثقافي العربي, ط1, الدار البيضاء،المغرب.2000 :14ـ15.