ادب وفن

شريط "الرحلة" لمحمد جبارة الدراجي حين يتعاطف الانتحاري مع ضحاياه / فيصل عبدالله

من بين الأفلام العربية المشاركة في دورة مهرجان لندن السينمائي الـ 61 "من 4 ولغاية 15 تشرين الأول 2017"، عرض شريط "الرحلة 82" لمحمد جبارة الدراجي للصحافة قبل العروض الشعبية المسائية. صاحب "أحلام" في 2005 و "أبن بابل" 2007، يأخذنا في جديده الفني الى فكرة محببه اليه، ان كانت مجازية أو واقعية، وهي الرحلة، وقد أدرج ضمن فقرة "الرحلة" في برنامج هذه التظاهرة.
تبدأ الرحلة في 30 كانون الأول 2006 وصباح اليوم الأول من عيد الأضحى، ولهذا التاريخ واليوم دلالة كبيرة في عراق اليوم. ومباشرة يدخلنا المشهد الأول الى متابعة شابة مزنرة بحزام ناسف تتسلل بين جموع المسافرين الى قاعة محطة بغداد المركزية للقطارات. تجول بناظريها بين وجوه من هم في صالة الانتظار على أمل اختيار لحظة استهداف أكبر عدد منهم عبر ضغطة من إبهامها. التمهيد أعلاه يُقطع وينتقل الشريط الى فصول أخرى عبر مشاهد تتوالى وكأنها تضمر قصصاً وحكايا. ما نتابعه يتيح لنا، كمشاهدين التعرف على اسم الانتحارية سارة "زهراء غندور" ذات الـ23 ربيعاً، ثم الشاب سلام "أمير علي جبارة" الذي يعيش على النصب والتسكع وصاحب لسان سليط وبذيء. وفي السياق ذاته على أطفال من عوائل نازحة أو مهجرة يمتهنون بيع الورود الصناعية او دهان الأحذية ضمن تراتبية تعتمد على الأقوى فيهم. وفي الوقت ذاته نتابع فرقة موسيقية، أعضاءها من العاطلين لربما أسرى حرب سابقة، وتعتاش على عزف موسيقى ولى زمانها، وبالقرب منهم تجلس سيدة أنيقة يأكل قلبها الانتظار. فيما يقابلها في الطرف الآخر امرأة تصطحب ابنتها العروس وكأنها تستعد لحفل زواج خارج العاصمة بغداد. وهناك أم هاربة تحمل طفلتها وحكايتها وتتخاتل من نظرات المسافرين إليها وتتهرب من عيون جنود الاحتلال الأمريكي لبلدها في الوقت ذاته.
أما نداءات حركة سير القطارات المنطلقة الى الجنوب ووجهتها البصرة او تلك المتوجه الى الموصل أو الملغية بسبب التفجيرات الإرهابية بدت وكأنها أقرب صدى نداءات كراجات النقل القريبة منها في علاوي الحلة.
وضمن هذا التسلسل الصوري يظهر شيخ مسن يتطلع الى تابوت ابنه الشهيد الملفوف بعلم عراقي. ثم تنتقل الكاميرا لرصد فرقة تضرب على الدفوف وتصاحبها أغان صوفية ورقص دراويش، كان لها وقع وتأثير في نفس سارة. ضمن هذه البانوراما المعقدة، بدت وكأنها تحاكي، ربما، موزائيك المجتمع العراقي، تتحرك سارة. وهي الشخصية المحورية في الفيلم، بعد ان تمكنت من الإيقاع بالشاب سلام إثر أسره وزرع مفخخة في جيبه. بالمقابل ينتقل الفيلم الى خط آخر، وبما يمثل النقلة الدرامية، حين يتم العثور على طفلة متروكة في حقيبة وما تثيره من معان رمزية لغريزة الأمومة ومن عاطفة لدى الانتحارية سارة . ما سبق يوفر للمشاهد نبذة أولية عن سلام الاجتماعية، فهو كما يبدو قادم من بيئة فقيرة ومهمشة، فيما بدت سارة على النقيض كونها من عائلة ميسورة، طبيعة ملابسها، ثقتها بنفسها، إجادة التحدث باللغة الإنكليزية على الطريقة العراقية، وتحفظ القرآن "سورة الكهف"، ولم تزر أمها منذ زمن حددته كما تقول "من ذاك العيد"، لها ارتباطات مع جماعات إرهابية نافذة تعرف كيف تختار المكان والزمان لتنفيذ هجماتها، تفصح عنه مهمتها حين يتم تكليفها بتفجير نفسها في حفلة تدشين استلام قاطرة جديدة وبحضور وفد حكومي. بمعنى ان هناك أكثر من حكاية تتعدد رموز مرجعياتها ومآلات حيثياتها زمانياً ومكانياً، خصوصاً للمشاهد غير العراقي.
ما توفره سردية شريط "الرحلة"، عبر المشاهد أعلاه، غايتها بلوغ صورة شاملة وجامعة لعراق اليوم من جهة، ورصد نقطة التحول الدراماتيكي في عقل الانتحارية سارة عن طريق ثني مشروعها الإجرامي من جهة ثانية. صحيح ان الاقتراب من عقل الإرهابي، او محاولة فهم ما يدور في رأس الانتحاري/ة صعب جداً. إذ تحتاج الى دراسة سايكولوجية معمقة لتلك الشخصية والفصام الذي تعيشه، بناءً وتعبيراً، وتبتعد قدر الإمكان عن التبسط والاستسهال في بلوغها. فضلاً عن حاجتها الى معالجة سينمائية حاذقة تقارب تلك التحولات الدراماتيكية سينمائياً.
ما نتابعه بدا وكأن بوصلة مخرجه ضلت طريقها في جمع خيوط حبكة معقدة ما أثر على تماسك وحدة فكرتها الأساسية. ما تفصح عنه المشاهد يدور حول تردد الانتحارية في تنفيذ فعلها القاتل ضمن فضاء من الشخصيات الديكورية. والأخيرة بدت مستسلمة لقدرية الانتظار والانسحاق؛ سيدة تنتظر أكثر من عشرين عاماً لوعد زواج لم يتحقق، أم ترتسم التعاسة على وجهها ووجه ابنتها العروس، مروراً برجل مسن ينظر الى تابوت أبنه المسجى أمامه ولا يملك سوى قراءة الكتاب المقدس، قطارات لا تأتي وتتغير مواعيدها ومسافرون يزجون الوقت في كافتيريا صالة المحطة. إذ حلت النظرات الزائغة بدلاً عن ذلك وكأن الكاميرا تقول قصة كل شخصية. لذا بدا مشهد التشييع الجنائزي يطرح تساؤلاً؛ هل حقاً شارك انتحاري في تشييع شهيد قضى بفعل الإرهاب كنوع من التوبة؟. وكيف يمكن للمشاهد ان يهضم سلوك المجند الأمريكي تجاه سيدة مشتبه بها وحنقه على حماقة احتجازها وفي البال صور سجن أبو غريب؟ صحيح أن الشخصيات أعلاه مستغرقة ومستنفدة في مشاكلها الشخصية، ومسلوبة الإرادة وتنتظر الخلاص. ولكن السؤال هل ان وضعهم العام كاف لإغراء إرهابي وإقناعه بالتعاطف مع حيوات تعيش عذاب مُقيم وفي رأسه/ا مهمة جهادية؟ ما تقوله الوقائع، أقله نشرات الأخبار، يشي عكس ذلك، إذ ان الانتحاري لا تتُرك له فرصة التراجع عن فعلته الجرمية، او يمنح خيار التحول الى إنسان طبيعي تغمر قلبه محبة الحياة في لحظة وجد. ما شاهدناه يؤشر الى ضعف في تماسك الحبكة، خصوصاً الحوارات السطحية، الى استعجال، أقرب الى الركاكة، في تنفيذها سينمائياً، ولعل ذلك انعكس على البناء الدرامي في تقديم صورة أقرب الى واقع عراق اليوم وبما يحسب على شاب طموح وفي رصيده نجاحات مهمة مثل محمد جبارة الدراجي.