ادب وفن

"أنواء الروح".. الاستعارة الفنية في تكوين النسيج الشعري / عباس باني المالكي

حين يشكل التداعي الذهني الصوري ذاكرة الارتباط المعنوي مع المكان، تتكون السياقات الصورية ضمن هاجس الذات بوعيها المكاني من خلال ارتداد المكان الجديد، وقد استطاع الشاعر عبد الستار جبار أن يعبر من خلال مجموعته الشعرية "أنواء الروح" أن يجعل من المكان الحيز الذي يكتشف من خلاله الذات بحسها التكويني ويعيد تكوينها حسب مؤشرات الأماكن الحيوية التي عاشها حيث نلاحظ أنه يوفي البناء الموجز بالتعبير عن كل الدلالات التي يريد أن يضغطها داخل النص دون أن يرتبك النص ويسوده الغموض، ويحقق الهاجس الذاتي من خلالها، ما يجعل نصه يتدرج بالدلالة حسب توهج الإحساس الداخلي ويكون نسيجه الشعري نسيجا فنيا يرسم الجملة الشعرية وفق طاقة التخيل الفنية لديه.
"الغيمة التي باركت عتبة بيتنا كل فجر هجرتنا دون أن تَزُق الأمنيات، تركتها خلف عروق الباب اليابسة وراحت بعيدا".
وهنا تتحول الذات إلى مراقب للوطن ولا يطغى عليها سوى الصمت والتأمل بما يحدث داخله، وتختلط عليها كل الأشياء بمسمياتها الحية أو الراكدة لأنها تمثل صور الذاكرة التي عشتها فيه ويبقى الزمن هو الذي يربطها بكل جوهرية الحياة التي تريد أن تراها فيه ، وهذا ما يكبر عنده التحسس الشعوري بكل القضايا التي يراها في وطنه، فالبعد عنه يجعل الذات تكتشف مصيرها الإنساني الارتدادي، حيث يتخذ الوطن حالة الحلم ، ويتسع باتساع الذاكرة.
وحيث تتحول كل المسميات الى طاقة فعل رمزي يرتقي الى مستوى الحياة التي ينشدها، لأنها بنت الكثير من مفاهيمه الداخلية، وارتبطت داخله كأنها المعنى الذي يسعى من أجل أن يراها في الحياة، من رائحة الخبز والعصافير التي تغني في مساحة ذاته البعيدة عن غربته، وتأخذ المساحة الكبيرة من الدلالات التي ينتمي إليها ، ويبقى يناشد من هم في الداخل لأن يسعوا نحو تغيير كل الأشياء حولها من أجل أن تعاد العافية الى وطنه، أنه يريد أن يحدث التغيير الذي يجعل الوطن كما هو وليس كما هو الآن "برائحة الخبز، بالعصافير، بالأغاني المغمى عليها".
ويزداد التصاق الرموز الملازمة لذاكرته وتتحول الى مساحة كبيرة من الحس الوجودي والتراكم النفسي في جوهرية انتمائه الى الحياة، وتتحول الى احساس يعيشه من الداخل كرموز دلالية، وذلك لعدم وجود أنساق تناظرية بين ما يعيشه الآن وما بقى في ذاكرته:
"عند مفترق الخرافة والأسرار، فرشت بساط النزيف، تطهره أشعة الحب، قلت للنجم: شد حبالك يا صاحبي".
ويستمر الشاعر بطرح كل ما سبب له أزمة الغربة وكيف تكونت داخله، فهو لا يعيش الخيال في تحسسه الشعوري بقدر التذكر بكل ما هو مرتبط بالوطن، ما جعل استذكاراته تتحول الى رموز حية تتحرك داخله وفق هاجس الذات الذي تشابك مع المكان الجديد ، ويؤدي انعكاسها الى تحريك تلك الأشياء وفق حالة التذكر المقارن وحسب تقاربها أو تباعدها مع الأشياء القديمة، وما يمثل له من ارتباط جوهري بالحياة، فهو لم يعد يصدق أنه فارق وطنه، لهذا بقيت روحه معلقة به.