ادب وفن

محمد خضير.. في ما يمسك وما لا يمسك / مقداد مسعود

إلى روح شيخي محمود عبد الوهاب – طيّب الله ذكره ُ وثراه -
(*)
قراءتي هذا الكتاب ترى: السيادة في "ما يمسك وما لا يمسك" للذاكرة التذكارية، يستعملها المبدع محمد خضيّر ليحذف صلابة بياض النسيان، وينشّف الراهن من الجهامة.. للتذكار: عنوانات فرعية في الكتاب: "حديث عن نفسي.. الرؤيا الخضراء.. الأم وراء ماكنة الخياطة.. الأب بالسّدارة.. سندباديون.. بغداد آب 1972.. تدوير الأفكار.. حلم السنة الأخير.. مفكرة الأعماق.. المفكرة الريفية.. مفكرة المطر.. دفتر الصيف.. دفتر الشتاء.. دفتر الربيع.. مفكرة منتصف الليل"، وهذا يعني أن الكتّاب يستعمل تدوير الذاكرة وبلغته "اختمارٌ ذاكراتي"، فهل كان المؤلف هو وحده "مَن يُمسِك مفكّرة ً يدوّر عتلة العالم ويشهد على انبثاق طائر"؟! هل هو وحده؟ أم معه ذلك الآخر المتواري فيه والذي يدعوه الى التشارك معه؟ من "شعراء وقصّاصين ومسرحيين وخليط من النحاتين والرسامين والمغنّين ولاعبي السيرك.. وسوفوكلس وسافو وأوفيد والمعريّ وابن المقفع ودانتي وديكنز ودستويفسكي وغوغول وكافكا وهمنغواي وبو وغينسبرغ وجبران وأخيرا بوب ديلان/ 100"
(*)
الكتاب من الكتب المائية فالماء يبلل قراءة القارئ ويغمره برائحة الغرين والأشنان وتتقافز السراطين من الصفحات ولقى الشاطئ: قوقع: وبر أخضر ملتصق بصخور مثقبة فيها المصقول البشرة وفيها الكامد...
(*)
كتاب "ما يمسك وما لا يمسك" كأنه بلم عشاري يحملني من المجرى إلى المصب: يهبني فانوس صريفة وبيتا طينيا وبساطا من صوف تصرخ الألوان فيه وفجأة يصبح البلم مهيلة فأراني وسط الذين أحبهم من السندباديين: رائحة الشتاء، المملكة السوداء.. نار القطرب.. جواد السحب الداكنة.. شاكر حمد وياسين النصيّر.. وعند المصب بتوقيت مغادرة المبدع محمد خضير لحانة "مجرمون طيبون".. سألتحق في مساء من آب بهذا الرجل المنتعل حذاءً رياضيا وهو يقرأ خطوات قدميه على بلاطات الشارع وينسخها في رأسي: كلانا من المشائين بلا فلسفة أو رواق أو زينون الأيلي.. وأنا مثله "أبليت ُ عددا من الأحذية في شوارع الحزب الذي انتميتُ اليه بملء اختياري، كان المشي لغة المراسلين الحزبيين السرية خلال مراحل وعرة وأسماء مستعارة ومهمات شاقة وخطيرة ثم صارت رياضة الأقدام دليل حياتهم.." .. سأقتفي ظل "بيت في دجلة" وصولا إلى مهدي عيسى الصقر وسأكتب في 1998 عن "صراخ النوارس" وحين أدخل فصل "الأم وراء ماكينة الخياطة" سأرى أبي يجلس وراء ماكنة الخياطة ماركة "أبولو" وأرافقه في محلاته وشراكته مع الخياطين الهنود: غلام رباني.. محمد دين.. وصداقاته المهنية مع الخياطين: نوري عيّاش.. قاسم محمد صالح.. حميد ملا علوان وحجي حسين، الممول الرئيس للخياطين بما يحتاجون من بكرات خياطة علامة الديك والأزرار بكل أنواعها والطباقيات وإبرة ماكنات الخياطة والإبر العادية ووو "إلخ
ثم أنتقل الى سوق حنا الشيخ في 1966.. محل خياطة "محمد مسعود وكريم شعبان".. ها هو محمود البريكان يدخل "أورزدي باك" يقصد جناح الموسيقى فيتحول "اهتمام البائعات وراء مناضد الأسطوانات إلى وجهه الغريب وعينيه المحجوبتين وشعره المفتول حول أذنيه"..
(*)
حكيم بصرياثا القاص المبدع محمد خضيّر: يوصي/ يقترح على قارئ كتابه: القراءة المتشاركة "أطمحُ أن تُقرأ هذه الإنشاءات التي نشرتُها في مناسبات عدّة من غير أن أحسبُ لها حساب السيرة الذاتية المكتفية بنفسها عن نفسها، وداخلها عن خارجها. فالهدف الأساس من نشرها إباحة المشاركة المفترضة بينها وبين الآلاف من النفوس/ الذوات التي تشبُهها في حينها وما بعد حينها..".. ألا تؤدي هذه المشاركة إلى تجريد الكاتب من خصوصيته التي لا تعني تعاليه بل سماته التي نحتتها الكتابة ذاتها ؟! وبشهادته "فأنا ومتحفي طرف ٌ مجزوء من متراس الضمير المعذّب بأثقاله وديونه غير المسددة" وهو الذي يعلن "لي بيت ُ من زجاج" وهذا البيت قابل لتحولات شتى "أراه مرة مثل صندوق يترسب رويدا رويدا في مياه البحر كغواصة شفافة الجدران، ويضعني مرة ثانية في أعماق غابة متشابكة الشجر، وأصحو ثالثة في صحراء مترامية، ورابعة يتراءى مثل جمجمة تتربع على هامة الزمن".. كما ألتقط شذرة مِن عنوان فرعي "خبرة السرد" وأقف خلف المبدع محمد خضير وخلف مسافة إبداعه وأصيح بصوت محب.. "لا تأخذوا أبداً نصيحتكم حول السرد من شخص خبير بنظريات السرد" وحول طموح المبدع بخصوص القراءة بالتشارك هل سببه انحسار ذلك المد الستيني "فترة انفراج ثقافي وفنّي وسياسي بين فترتي عنف ودمار، أن العراقيين صاروا يعدّون أنفسهم أفرادا متميزين بمواهبهم وحياتهم الخاصة، وأن الواحد منهم يعدل ألفا، وإن كان الألف لا يساوي واحدا منهم".. أما سبب تشارك القراءة بمؤثرية الانكسار الجماعي للذات العراقية "التي مسحت تقاطيعهم الفردية وخصوصيات الرأي والانتماء لديهم فقد أصبح الفرد جزءا من كتلة، تعد ّ بالآلاف.."؟! أم سبب الدعوة للتشارك هو بلوغ المبدع محمد خضيّر سن الحكمة المشحونة بخبراته في الحياة والكتابة؟ وبشهادته.. "قد ينمو الكاتب مع تجاربه، فأما ينتج أثرا جميلاً على صورته في عيون الآخرين" وذلك أيضا مثبّت في الشذرة المعنونة "المعنى" الحقيقي.. وها نحن في 2017 يستعيد المبدع محمد خضير 1961 من خلال لحظة في ناحية "العكيكة" في أقاصي أهوار الناصرية فأستروح الشيح والمرآن ويظللني طير الغرنوق وتبقى الصورة في نسختها الأولى لابن "هليل" ونسمع ضحكته التي هي وبشهادة الكاتب "دليلي الآخر على انكسار كأس القدر المملؤة بخمرة البراءة المستحيلة، سمعتها مرارا فيما صرمت ُ من سنين القرية كلما حلّ الظلام على بيوتها".
(*)
دون مشاركة الذين يعرفون كاتبا ولا يعرفهم هو إلاّ مصادفة ولا يعرف منهم/ عنهم إلاّ اهتمامهم بكتاباته هنا صدمة الوجع لدى الكاتب والقاص محمد خضير.. "أليس هذا عذابا مخزيا: أن تكون معروفا عند غيرك َ ولا يكون غيرك معروفا لديك"؟ لذا يحاول محمد خضيّر التراسل المرآوي المضاد "ينبغي لنا، نحن الكتّاب، أن نكون مجهولين للآخر بقدر ما يكون الآخر معروفا لنا".. ضمن هذا السياق، يغمرني صوت الشاعر تشارلز سيميك في قصيدته – إلى القارئ – وها أنا أثبتّها كاملة
"ألا تسمعني
أخبط ُ حائطك
برأسي؟
بالتأكيد تسمعني
فلماذا إذاً
لا ترد عليّ؟
أخبط ْ الحائط من جِهَتِك َ
ولنبق َ خلاَناَ"
لكن كيف يكون الآخر معروفا والكتّاب ليس بمقدورهم معرفة كل من يقرأ لهم؟! الكاتب لا يحذف الآخر، بل ينتشله من "غزارة المرجع" ويؤطره ضمن "حدود النص" وما يقوم به الأديب هو "استعمال الواقع" مع متغيرات مشروطة بفن السرد والعرف الاجتماعي تشهد على ذلك قصص "المملكة السوداء، 45 فهرنهيت، رؤيا خريف".. وبشهادته وهو يتحدث عن ضحايا الحروب "كان إيواء هذا الأنين الشارد من الحرب ومسامرته في عمل سردي يخفف من الشعور بالذنب لمشاركة ٍ صامتة في قتال"، فمن سفن محطمة ومن ثقوب صخور الساحل وصليل سلاسل الجسر المتماوج فوق شط العرب انبثقت قصة "رؤيا خريف" ومن الحجيج في أوائل السبعينيات الذي كانوا يتكدسون ببطانياتهم على كورنيش شط العرب انبجست قصة "الحاج" ومن تلك الرمال الحقيقية صاغ المبدع محمد خضيّر "تاج لطيبوثة".. وهكذا "سيحين الوقت دائما لكتابة نص جديد من وحي السراطين النهرية" وهو منجذب ومجذوب للتشارك النصي في قصته "منزل النساء" المشطورة نصيا يتسع المنزل "يوما بعد يوم لحالمات وافدات من مخاضات الحرب الأهلية ومقالب الأزبال" فهو المولود "في حضن مجتمع نسويّ، طُرِد منه الآباء خارج الأبواب، أو سيقوا إلى خدمة العلم في أقصى البلاد".. وفي هذه الاعمال القصصية تحوّل الآخر عابرا للقارات ويجيد كل اللغات لكن باللغة العربية وشهود العدل هنا المترجمون الذين نقلوا نصوص المبدع البصري العراقي الكبير محمد خضير الى اللغات الأجنبية ..
(*)
ثمة سؤال يدور في ذهن كل محب لمؤسس "المملكة السوداء، 45 درجة مئوي، رؤيا خريف" ورواية قصيرة "كراسة كانون".. لماذا تغيّرت جهوية السرد عن النص القصصي ورجحت كفة السرد اللا قصصي على حساب القص المميز الذي جسّد علامة فارقة في القص العراقي في "المملكة السوداء".. بشهادة للروائي نجيب محفوظ في مجلة ألف باء في تسعينات القرن الماضي.. نعم المبدع لم تجف ينابيعه.. لكن - استميحه عذرا – أسرف في استعمال السرد خارج النص القصصي الذي تألقت فيه القصة القصيرة العراقية من خلال المملكة السوداء.. وأترك بين يديّ القراء قائمة من السرود اللا قصصية
*بصرياثا
* الحكاية الجديدة
*الكتاب والسرد
*حدائق الوجوه
*أحلام باصورا
*صرخة
*ما يمسك ومالا يمسك..
والسؤال الآخر بتوقيت حكمة العمر – أطال الله بعمر مبدعنا وأستاذنا – القاص محمد خضيّر –
هل بتوقيت حكمة العمر، انخفضت نسبة الصبر لدى مبدعنا وبشهادته هو "القصة كالقصيدة صناعة وزيادة عليها بالتصوير والتدبير الذهني الصبور. بل أكاد أقول صناعة هي غاية في الابداع. فالقصة التي تكتب لإنتاج معنى هي دون القصة التي تهدف إلى زيادة المعنى بإعمال التفكير والتدبير. إننا إزاء بنية يستعان عليها بالصبر والتأمل ومواصلة التدبر..
رغم المقبوس السابق أرى أن الخبرة العميقة والغزيرة للمبدع محمد خضير، تجعلنا ننتظر رواية