ادب وفن

فيلم «العطر.. قصة قاتل» قراءة سيكولوجية / يوسف عدنان

شغل فيلم "العطر .. قصة قاتل" حيّزا مهما في السرديات السينمائية الألفية، وقوبل عند صدوره بحفاوة في دوائر النقد السينمائي والساحة الفنية عموما. وهو فيلم ألماني يجمع بين الدراما والفانتازيا والجريمة والتشويق، من إخراج "توم تايكور" ومن بطولة "بن ويشا" الذي لعب دور جان بابتست غرونوي، وبرع في أدائه إلى حدّ الإتقان، إلى جانب ممثلين آخرين تركوا بصماتهم الإبداعية على الفيلم السينمائي.
وبحكم أن الفيلم مستوحى من رواية عميقة حول الوضع الإنساني تحمل نفس الاسم "العطر" للروائي "باتريك زوسكيند"، فقد ترامى المتخيل الروائي على السرد السينمائي وانعكس إيجابا في إنعاش السيناريو الفيلمي، كما ألحّ على الصورة، بأن تبلّغ ما يعجز عنه السرد الحكائي القولي لوحده. فالفيلم عادة يعتمد على جذب المشاهد بصريا – من خلال الولوج إلى فضاء الصورة – قبل أن يتورّط عاطفيا أو ما شابه ذلك في مجريات الأحداث. بينما الرواية تحرُص على تعليق القارئ عاطفيا بكلّ حدث ليرسمه كما يشاء، فيتصوّره وفقا لحدود مخيّلته. وفي هذه المغامرة – أي نقل المحكي "الرواية" إلى المرئي "الفيلم" – استطاع المخرج أن يُبرهن أنّه من المخرجين المتمكّنين في إبراز الصور الفكرية سواء البشعة أو الجمالية "المتسامية"، ورميها في معترك النظرة والتّمرئي والفتنة البصرية، باعتماد طريقة التمثيل السينمائي التجسيدي الذي يغذّي الاستفزاز الموفور في الصور، كفن تصويري جديد للوصول إلى الفكرة في الفيلم. ناهيك عن أن ثيمة العطر قلّما جسدت في الفن السابع بالنظر لصعوبة تعامل الوسط الصوري معها.
تدور أحداث فيلم "العطر" في القرن الثامن عشر في فضاءات باريس وأيفرن ومنوبيلييه وغراس. ويجسّد الفيلم على امتداد ساعتين من الزمن، سيرة حياة جان بابتست غرونوي، الشخصية الغرائبية المُنحدرة من عوالم باريس القاسية والمتملّكة لحاسة شمّ ما فوق إنسانية، جعلتها متفرّدة عن باقي جنس البشر فوق كوكب الأرض. ليؤسس هذا المشهد الميركلي "الإعجازي" بنيان الحبكة بأكملها – ويسمى في اللغة السينمائية مثل هذا النوع من المشاهد التي تحركّ دينامية السرد "حث الأحداث".
يحيط بشخصية غرونوي كما سيطلع لنا من بين السطور، الكثير من الغموض والإبهام ممّا يترك للمشاهد والقارئ الناقد دهشة بناء الاستنتاجات وفسحة تضعيف التأويلات واستجلاء المعاني المُضمرة والمخبوءة ما وراء السرد وما وراء الصورة. فمن الأبعاد الفلسفية التي يتضمّنها فيلم "العطر" والتي يُشهد ببراعة كاتبه في طرحها، تلك التي تحُوم حول تجربة الكائن مع جسده، وهل من الممكن أن يكون لرائحة الجسد نصيب من إثبات وجود الكائن والوعي بذاته كموجود في العالم؟
يسجّل على الفيلم تعاطيه المُبهر مع "حاسة الشم" التي هي في نهاية المطاف جزء من الجسد، ولذلك يتحقّق الفهم الشمولي والسّديد للحبكة انطلاقا من فكرة الجسد وكيف لبث مصدر ا حصريا للمعرفة بالعالم الخارجي، لا يمكن تجاوزه. لقد أعاد محتوى فيلم "العطر" الاعتبار الى الجسد وموضوعة الجسدانية، في حقبة لم يتخلّص فيها المجتمع الأوربي بعد من الموروث العقائدي الكنسي الذي يسفّل الجسد ويربطه بالخطيئة والفحش والدنس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يأتي الفيلم على مشارف عصر الأنوار، مُستبقا بذلك الجدل الفلسفي الكلاسيكي بين الاتجاه العقلاني والاتجاه التجريبي، وأيهما أجدر بالاستمساك به لبلوغ المعرفة، العقل أم الحواس، الفكر الخالص أم التجربة الملموسة.
يشتغل المخرج في سلسلة من المشاهد على لغة الجسد لذا يؤجل البطل الخطاب والقول لصالح النظرة والحركة، فتظهر كيميائية الجسد وممكناته واستعداداته وقدراته، ففي بعض اللقطات يصبح الجسد من يتكلم: عندما يقترب بالكاميرا إلى عيون البطل ويلج من خلالها إلى عالمه الداخلي. أو عندما يتوقف عند حالات تلعثمه وعجزه عن التعبير حينما يعجب بالموضوعات.
بالعودة إلى النص السينمائي، تتلخّص مشكلة غرونوي في كونه غير معرّف، وحتى الآخرين من حوله لا تكاد تتحسّس وجوده، بل لا وجود له حتى برؤيته لنفسه أثناء استجاباته النكوصية المتملّصة من الألم والافتقاد. وتحت طائلة هذا النزيف النرجسي "الوجودي" بدأ بالبحث عن ذاته، عن رائحته، بعد أن أدرك أنه بلا رائحة تميّزه عن باقي الذوات الأخرى. إنه الجسد المنفيّ الذي يلازمه الغياب. هذا الخواء الجوهري المقدر على غرونوي أن يحمله، سيرسم له عالما كهوفيا تتخطّفه داخله هلوسات ووساوس لادغة ويتيه في ظلاله المازجة بين الوهم والواقع، مستشعرا أقصى درجات التمزق الكياني و الاضطراب النفسي والعوز.
إن رائحة الجسد تعدو شبيهة بتلك البصمة التي يتميّز بها كلّ إنسان عن غيره لإثبات هويته، والتي افتقدها غرونوي وسعى الى التعويض عن هذا الحرمان الذي يسِمُ وجودَهُ بطبيعة طيفيّة/ شبحيّة، بتملّكه الرائحة البشرية المنبعثة من الأجساد الأنثوية العذارى تحديدا، ظنّا منه أن العطر المستخلص من الرحيق الإنساني – عبر عملية الاستشراب- وحْدَهُ من سيضمن له رائحة لا تقاوم ولا تزول، تطرد عنه لعنة لا يتقاسم عبئها معه أي كائن بشري على وجه الأرض. فقد لا يخفى علينا أن للعطر دائما علاقة بالآخر، فبالعطر نجذب انتباهه ونجعله يقبلنا، وهذا أيضا ما ظنّه غرونوي عندما لاحظ أن الهدف من العطر المثالي الذي يبحث عنه، هو أن يكون مفعوله فاتنا وجذابا يفقد كلّ وأيّ ذات السيطرة عن نفسها وانفعالاتها. وبذلك سينتقل – في حركة سيكوبائية – من استخراج العطر من الأزهار "الرمز" إلى استخراجها من النساء "الأصل".
نمرّ في هذا التقديم على ذكر وجيز لتعليق الناقد السينمائي "روجر ايبرت" على الفيلم قائلا فيه: يبدأ فيلم "العطر" بنتانة الروائح المنبعثة من أماكن الصرف ويبقى مظلما وكئيبا و غامضا حيث أن سلب شخص من رائحته يعتبر قاسيا بشكل كبير، لكن الطريق الذي خُطّ في هذه القصّة يعتبر بشعا و مرعبا بكل تأكيد. بإمكاننا أن نقول أنّ غرونوي كان يُقاد نتيجة لظروف حياته وطبيعة روحه المزاجية، و يمكن أن يكون حسب الأساطير بيضة الشيطان التي لا رائحة لها كما يقال. وهذا المقصود يرمي له ضمنيا رهان السيناريو، الذي يتطلّع إلى اظهار شخصية البطل كحالة استثنائية تظهر في تاريخ البشرية وتُربك نظامها الجيني الوراثي. وبالتالي يضع العبقرية في ميزان الجنون، وتجاوز الحالة الطبيعية في تقابل مع الشذوذ، لتتسع دائرة الحوار الحامي الوطيس بين ما هو مألوف وما هو غريب في الكيان الإنساني.
يصوّر لنا المخرج في خضم تسلسل أحداث الفيلم، جهل وتخلّف المجتمع الفرنسي ما قبل التنوير، الماثل في إعطاء الناس قيمة لذوي النفوذ والجاه والسلطة والمال، واحتقارهم لباقي العامة إلى جانب استنزافهم واستعبادهم بشتّى الأشكال. يُكابد البطل في محو هذه النظرة الدونية التي تقلّل من شأنه وتأبّط عزيمته، ساعيا في المقابل الى انتزاع الاعتراف الجدير به. إن كلّ هذه الأفعال والممارسات السادية في حقّ غرونوي، بدت كما لو أنها تشلّ شخصيته وتثير مجموعة من العقبات – يُطلق الناقد البريطاني جون يورك على هذه العقبات “القوى المعادية” – وهي العقبات التي تعوق الشخصية المحورية في الفيلم أثناء سعيها نحو تحقيق ما تتمنّاه.
إن كانت الوردة بالنسبة للوقيوس، تمثل رمزا يتمّ فيه تعويض الجمال المفتقد، فإنه لدى جان بابتست غرونوي نرى العقدة قد تضخمت بتجاوزه الرمز والتسامي مع الأصل "الجمال الإنساني"، وذلك بتدمير هذا الأصل كمحاولة تملّكه والسيطرة عليه. ونزعة التدمير لديه لم تتولد إلا بسبب اغترابه الشديد. ويفهم من منظور التحليل النفسي كيف أن الحرمان والاحباط الشّديدين اللذين أحسّ بهما وعاشهما بطعم نفسي مرير، يغديان – كدوافع لاشعورية- بحثه الدائم عن تعويض متعوي مضاعف. ففي تعامل التحليل النفسي مع الحوافز، خصوصا تلك المخفية أو المتنكرة، إسهام في تفسير وتأويل الأعمال السردية، سواء تعلق الأمر بالسينما أو الرواية أو المسرحية (…) الخ. وقد تقوى هذا الانشغال بالمناسبة بعد ظهور نظرية التحليل النفسي السينمائية "قبل نهاية الستينات".
لقد اختزل في حاسة الشمّ كل شيء عند غرونوي، من كلمات و مشاعر و أحاسيس و رغبات وذكريات و تخيلات (…) الخ، ليصل به ولعُه تجاه التقاط وتخزين الرائحة البشرية النسوية حدّ الهذيان والهوس الاستحواذي والفيتيشيزم والنيكروفيليا، واضطرابات نفسية وجنسية أخرى وقعّت كل واحدة منها على محطة من مراحل تطور الشخصية داخل السرد.
يسوق غرونوي هذيانه لأن يرى في نفسه تحفة نادرة من صنف الجنس البشري يباركها حتى الربّ عَبْرَ راهبه، الذي اختار له اسم "بابتست" – أي المعمّد في القاموس الديني الكنسي- . هذه الرمزية الدينية المناطة بالاسم والتي يدّسها الكاتب بسبق نيّة في ثنايا السرد ستُثمر في القادم من الأحداث صورا لتجليات الرعاية الإلهية، تقرّبنا في مجموعها من صورة مركبة تستحوذ على مخيلة المشاهد، يكونُ فيها البطل جون بابتست غرونوي ملاك لكنه ترعرع في أحضان الشيطان. ومنه دعوة غير صريحة للجمهور لتعليق الأحكام حول المصير المبهم للبطل. ليتقاسم مع الشخصيات الدينية كالأنبياء والرسل شيئا من أسرار الموت والبعث. ومن أدهش الصور على هذا المنقلب تحوّل الفيلم في مشاهده الأخيرة إلى حكاية السيّد المسيح بشكل غير مباشر.
كنا نعتقد البطل حالما يحقّق أعمق رغباته وهي حيازة العطر المثالي، سيصل إلى مراده وسينكفّ افتقاره. لكنه وبالرغم من تحقيق مبتغاه لايزال يحسّ بالضعف الانساني والاحتياج وتضاعف لديه الاحساس بالعزلة، إذ سيكتشف في عزّ نشوته بالنصر أنه ليس هو المرغوب فيه وإنما العطر السحري الذي يمتلكه. من جهة أخرى، ينجو غرونوي من الموت المحقّق في اليوم المقرّر إعدامه فيه أمام الحشود، وبعد خلاصه يفضل الانتحار بطريقة ملتوية يمكن عدّها لاشعورية يبدو في ظاهرها كما لو أنه سيق به إلى الموت. إلى جانب مشاهد أخرى تدع المشاهد في نهاية الفيلم يطوف في حلقة مفرغة، ويبدأ من جديد بطرح الأسئلة غير مكتف بالأجوبة التي يقدّمها محتوى الفيلم. إذ وحدها الأسئلة كما يقال ترى الحقيقة، بينما الكثير من الأجوبة تظل عمياء.
من المؤاخذات التي لا يمكن عدّها على كلّ حال عيوبا في السيناريو الفيلمي، تتعلّق بتكثيف الأحداث عكس السيناريو الروائي، حيث يكرّس الكاتب عددا معقولا من الصفحات لتطور الدوافع وتكشّفات الشخصية اللازمة لتحقيق تحول مُرض، إلى جانب بعض التغييرات التي طالت الشخوص. غير ذلك يعتبر الفيلم مادة دسمة لسبر أغوار النفس البشرية وتطبيقات التحليل النفسي على السينما. فالقراءة الفيلمية القائمة على مقاربة نفسية للسينما، توسع مجال النظر إلى ما يوجد في الواجهة الخلفية من شخصية البطل، نقصد ما يعتمل في جعبة النفس واللاشعور باعتبار هذا الأخير هو المحرك المتنكّر لدوافع الفعل. ويستلزم الإمعان في دلالة العلاقة المنسوجة في الفيلم بين العطر والجنس خاصة وأن المحتوى الإيروتيكي يحيط كثيرا بالرائحة العطرية من حيث اتصالها بالرغبة والإثارة واستثارة الهوامات وتنشيط الذكريات وصولا إلى الممارسة الجنسية الفعلية.