ادب وفن

افتتاحية "الثقافة الجديدة": مغزى اغتيال المثقف الوطني الديمقراطي وصمت السلطة !

في ظهيرة يوم بغدادي ساخن قبل تسعة أعوام، وبالتحديد في 22/ آب/2008 امتطى صهوة الشهادة فارس آخر من فرسان الثقافة الحرة والديمقراطية والكلمة الشجاعة؛ ففي ذلك اليوم داهم الجميع نبأ استشهاد الرفيق والصديق العزيز والإنسان والمثقف العضوي كامل شياع عبد الله، المستشار حينها في وزارة الثقافة وعضو هيئة تحرير مجلة (الثقافة الجديدة).
هكذا إذن داهمت الرصاصات الغادرة التي أطلقها قتلة محترفون يشتغلون بالقطعة صدر كامل وهو الذي ظلّ يراوغها بعبوره الدائم للكمائن القتالة التي هندسها فرسان الحروب العبثية منذ تركه هدوء الغربة ورتابتها وأمانها المريب ليكون من أوائل العائدين الى الوطن بعد سقوط الدكتاتورية إلى جانب أهله ورفاقه ووطنه.
وحتى نضع الامور في نصابها الصحيح، يمكن القول أن الرصاصات الغادرة التي أطلقها القتلة لم تكن تستهدف شخص كامل شياع. فقد كتب هو في أحد النصوص التي تركها قبل رحيله (عودة من المنفى): "أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني. رغم ذلك كله، أجد نفسي مطمئناً عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضا. وما فعلت ذلك كما يفعل أي انتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم وثوابه الموعود في العالم الآخر، فالقضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت".
لهذا يمكن القول ومن دون أدنى تردد أن تلك الرصاصات كانت تستهدف الرهان الذي يمثله كامل؛ رهان الحياة، بإزاء آيديولوجيات الموت، رهان الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، بإزاء دولة المحاصصات وما تبعها من فوضى، رهان الديمقراطية، بإزاء الارهاب والشمولية والدكتاتورية والعسف، رهان الوطنية العراقية الأصيلة، بإزاء ملوك المحاصصات والطوائف والهويات الفرعية.
وارتباطا بذلك فإن من كان يقف وراء الرصاصات الغادرة أراد أن يقول لنا إنها أقوى منا، إنها السيدة. غير أن التأريخ لن تكتبه هذه الرصاصات، الملثمة، المرتزقة، الجبانة. التأريخ لن يكتبه الجلاد، كما درجت أدبيات الخنوع على أن تقول لنا، بل سيكتبه الشهداء كما كتبه ويكتبه اولئك الذين يواصلون مواجهة مشاريع التدمير والإرهاب ويراهنون ويسعون، بكل همة، الى بناء وطن يتسع للجميع من دون اقصاء أو تهميش.
إن مغزى اغتيال الشهيد كامل شياع يتجسد في الكثير من القضايا ولكن من بينها وأهمها انه كان من أوائل مَن تنبّهوا ونبّهوا إلى خطر نظام المحاصصات وحروب المتاريس ومخاطر الاحتلال والإرهاب. وفي لحظات طغيان العتمة والتماع سيوف المتحاربين، كان كامل كلما ضاقت فسحة الأمل يفرض، بحكمته وبراعة حجته وتحليله العميق، على من حوله الرهان على المواقف الصحيحة ضد دعاة الفتنة الطائفية وأنصار حروب المتاريس المتقابلة و"قبائل" المتقاتلين حول شكل ومضمون الدولة العراقية الجديدة، الدولة المدنية الديمقراطية العصرية على قاعدة العدالة الاجتماعية، والنضال المثابر من اجل انجاز المهمة المركزية: إنهاء الاحتلال البغيض واستعادة السيادة والاستقلال التامين، والانتقال الى بناء عراق ديمقراطي سيد نفسه. وهذه القضايا كلها تستحق التضحية والإقدام وكان كامل يمتلكها، أوليس هو القائل: "اخترت ان أمشي بين الرصاصة والأخرى، لعلي أخفف من جراح الوطن".
أٌغتيل كامل لأنه راهن على مشروع عابر للطوائف يقوم على الهوية الوطنية العراقية الجامعة.
كان كامل شياع يرى أن على القوى المؤهلة لصناعة الغد أن تستبق دعاة حروب الطوائف ومتاريسها وتطرح مشروعها التنويري، مشروعا عابرا للطوائف يراهن على الهوية الوطنية العراقية الجامعة. ولهذا كان القتلة يترصدونه دوما، وقد نجحوا في أن تصيبه رصاصاتهم الغادرة من كواتم صوت يعشق القتلة ومشغليهم وأسيادهم استخدامها ضد خصومهم، وسُجلت حادثة اغتياله ضد مجهول، كما جرت العادة من طرف سلطة المحاصصات الطائفية - الاثنية. فليس الارهابيون الذين انطلقت رصاصاتهم الغادرة تجاه الشهيد كامل، هم وحدهم من بقوا "مجهولين"، بل ما زال قتلة الشهيد وضاح عبد الامير (سعدون) والقائد النقابي هادي صالح "ابو فرات" والناشط هادي المهدي والكثير غيرهم من الوطنيين والديمقراطيين واليساريين، لم يتم الكشف عنها وربما لن يتم اصلا، في حين اعتاد القتلة بعد كل عملية اغتيال جبانة مغادرة امكنة الجريمة بكل رهاوة وأمان، باحثين عن ضحايا جدد مدرجين على "القوائم السوداء" لهؤلاء! فهؤلاء القتلة المحترفون ليسوا سوى ادوات تنفيذ لتلك القوى التي ترى ان لا مكان للمثقف الوطني الديمقراطي في دولة المحاصصات والهويات الفرعية، هذه القوى التي سعت الى بناء مشهد سياسي مغلق الى حد ما يعيد انتاج نفس الأنساق القائمة، التي انتجت ديمقراطية ناقصة، مشوهة وغير متوازنة، لأن النظام الريعي وطبيعة السلطة في العراق والتوازنات التي تحكمها تجعل منها غير قابلة للتداول بالمعنى الديمقراطي الصحيح، لأنها لا تقوم على اساس وطني بل على اساس توازنات طائفية/ قومية، حيث الهويات الفرعية والمحاصصات هي المقررة في نهاية المطاف.
حادثة اغتيال كامل شياع لا يجوز أن تسجل ضد مجهول
لا بدّ من التأكيد على أن عملية اغتيال الشهيد كامل شياع شكلت محطة جديدة في الصراع وتفاقم الاخطار التي تواجه الثقافة الوطنية والديمقراطية ومشروعها في العراق. ولكن بمقابل ذلك اشرت حملات الادانة الواسعة لهذه الجريمة ومرتكبيها والأشكال المختلفة التي اتخذتها جملة من القضايا. ومن بين تلك القضايا ان حادثة اغتيال كامل لا يجوز ان تسجل ضد مجهول، كما جرت العادة، بل يتعلق الامر هنا برمز ثقافي كبير من رموز الثقافة الوطنية والديمقراطية والتنوير والحداثة. لهذا لا يجوز ان يبقى اغتيال كامل مجرد "لغز"، بل ان السلطة الحاكمة ما زالت مطالبة بالكشف عن مرتكبي هذه الجريمة الجبانة والمئات غيرها، ومن يقف وراءهم، وتقديمهم للعدالة لينالوا الجزاء الذي يستحقونه. فمثل هذه الجرائم لا يجوز ان تموت بالتقادم. كما ان ضخامة الحملة وتنوعها مثلت في الجوهر رسالة قوية لمن راهنوا على الطلقة لإسكات صوت المثقفين وكسر شوكتهم وإقصاء مشروعهم التنويري ومنع تحقيقه. من المؤكد ان هذه الطلقات لن تثبط العزائم بل ستزيدها اصرارا وقوة للنضال ضد الغلط. وعلى عكس ما راهن عليه تجار الموت فان اغتيال الشهيد كامل، برغم حجم الخسارة الفاجعة، خلق ديناميكية كبيرة لصعود المشروع الذي ربط مصيره به كرافعة للتغيير. ومن الضروري المحافظة على وتيرة ايقاع هذه الديناميكية ورفعها باستمرار. لذا تبدو المهمة المطروحة على جدول الاعمال هي تطوير وتنظيم وتوحيد الحركة الاحتجاجية للجماهير الشعبية والنخب الثقافية، وتحصينها ضد محاولات الاحتواء والتهميش، وبلورة آليات وأشكال للتضامن فيما بينها. تبرز في هذا السياق أهمية الدفاع عن الحداثة السياسية، في إطار المعركة من أجل الديمقراطية. فلا يمكن أن تُفقر الممارسة الديمقراطية بتحويلها إلى جملة من التقنيات، أو أن تختزل في تطبيقات انتخابية، مشخصة في صورة مساحيق مشوهة للمشاهد السياسية، ومطورة في العمق لآليات جديدة في الاستبداد السياسي المقنع.
وأخيرا.. ماذا نقول لكامل في ذكرى رحيله التاسعة.. (أبا الياس)، لقد خسر معك الموت لعبة المفاجأة هذه المرة... فقد قرر القتلة أن تنام نومتك الأبدية... ولكنك مع ذلك ستبقى حيا في الذاكرة، في حين ان أعمار القتلة وسادتهم ومشغليهم كانت وستبقى قصيرة على الدوام!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 392 – 393
أيلول 2017