ادب وفن

انطون تشيخوف وارهاصاته الابداعية مع مسرح موسكو الفني / عدنان منشد

ربما كان من حسن طالع انطون تشيخوف "1860- 1904" أن يولد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ضمن فاصل تاريخي حاسم ومعزز بالأمل والانجازات العلمية الكبرى في روسيا القيصرية والعالم الأوربي ككل. ولعل قراءتنا لهذا المبدع الروسي القدير تشف عن ارتواء كامل لنصوصه المسرحية الخلاقة، والبعض القليل من قصصه القصيرة التي تربو على أربعة مجلدات، مع حدود معرفتنا المتواضعة بالدراسات النقدية التي كتبت عنه في ترجماتها العربية المحدودة، ومنها ما قرأنا لجون جاسنر واريك بنتلي ومارك سلونيم ودافيد مارشاك وفلاديمير برمليون وريموند وليامز وآخرين. وهي غيض من فيض ازاء ما كتب من دراسات نظرية وتطبيقية واكاديمية حول طبيب روسي بسيط استطاع ان يحفر وجوده الابداعي الكبير في عصر عاش فيه ديستوفيسكي وتولستوي وتورجنيف وغوركي، وكان الاخير هو الصديق الاقرب الى نفس ومشاعر تشيخوف من دون الآخرين، لأسباب شتى.
عاش انطوان بافلوفتش تشيخوف في النصف الثاني من القرن المذكور، حينما كانت روسيا القيصرية تتنازعها فكرتان عصيتان على التحقيق، الأولى فكرة روسيا السلافية بمرجعياتها وأصولها الآسيوية وحضارتها البيزنطية روحاً، الارثوذكسية الاوربية ذات الحضارة المتحررة والفكر المستنير والانسان الحر القادر على فهم واقعه والسيطرة على مقدراته، وبين الفكرتين الكبيرتين – كما يقول سلونيم توزعت عشرات الاتجاهات واصطرعت التيارات الفكرية والسياسية والادبية في روسيا القيصرية المهيأة لانفجار شعبي قادم، يهد الزرع والضرع واركان اسرة "آل رومانوف" القيصرية من دون وجل او خوف.
كتب تشيخوف في ذلك العصر ستة عشر مسرحية تضاهي وتنابز المسرحيات الحديثة التي كتبت بعد شكسبير وموليير واعني بها مسرحيات ابسن النرويجي وسترنبرغ السويدي ومترلنك البلجيكي الذين عاشوا عصر تشيخوف وتباروا معا وعلى اختلاف اماكنهم في صنع النص المسرحي المنثور بعيدا عن غنائية الشعر واستبعاد المؤثرات اليونانية القديمة كالجوقة "الكورس" والمقدمة "البرولوج" وغير ذلك الكثير. وكانت مسرحيات تشيخوف قد اتخذت المنهج الواقعي النقدي الصادم، وهي على العموم مسرحيات متقنة بالعناصر المسرحية المعروفة كالثيمة والحبكة والمنظر والحوار، وامينة للوحدات الأرسطية الثلاث، اي الزمان والمكان والموضوع، ومعروفة شائعة لكل المخرجين والممثلين وقراء الادب المسرحي في العالم. ومن الواجب ان نحددها الآن على وفق تسلسلها التاريخي في الكتابة او عروضها على منصات المسارح الروسية، ومنها مسرح موسكو الفني الذي تأسس بفاعلية المخرجان الروسيان الشهيران: قسطنطين ستانسلافسكي ونيمروش داشنكو مع انطوان تشيخوف ومجموعة من المسرحيين الشباب الروس في العام 1898.
وكانت مسرحية "بلاتونوف" 1881 اولى مسرحيات تشيخوف بينما كانت مسرحية "بستان الكرز" 1903 هي آخر مسرحياته ومسك ختامه. وبين هذين العامين كتب تشيخوف: " في الطريق العام 1885/ مضار التبغ 1886/ ايفانونف 1887/ تانيا ناريينا 1889/ شهيد رغم انفه 1889/ العرس 1890/ العيد السنوي 1891/ ليلة ما قبل المحاكمة 1895/ النورس او طائر البحر 1896/ الخال فانيا 1897/ الشقيقات الثلاث 1900".
في خضم تلكم الاعمال المسرحية التي ما زالت منصات المسارح في العالم تهتز وترتعش لتقديمها، كانت انطلاقة انطوان تشيخوف الكبرى في زمنه السعيد، ليعش مستمتعا بحفريات التاريخ والعلم التي انفتحت شراعا في وجهه، أولها قراءة "البيان الشيوعي" لكارل ماركس وفردريك انجلز، ثم اطلاعه الايجابي على كتاب "اصل الانواع" لتشارلس دارون، وتعرفه على قوانين الوراثة والتوزيع الحر من خلال العالم النمساوي غريغور مندل، ثم ولعه واستيعابه لنظرية لويس باستور الميكروسكوبية حول الجراثيم، الاقرب الى اختصاصه الطبي.
سيرة ومسيرة عظيمتين تداخلتا معا في حياة تشيخوف الابداعية القصيرة، بسبب اصابته بمرض السل المبكر، على الرغم من ان هناك مجموعة من الوشائج البسيطة والمعقدة بين هذا الكاتب والعصر الذي عاش فيه، خصوصا في بلورة مسرحياته المذكورة واضاءتها بتجليات الواقع الاجتماعي المحتدم في روسيا وقتذاك، وبلغت واقعية اقرب الى حرقة النفس وشجن الروح في افضل واكمل صورة للموت.
قال عنه ليو تولستوي، وهو من النادر ان يكتب عن معاصريه او اقرانه، عبارة قصيرة ذات مغزى: "تشيخوف.. انه بوشكين الجديد الذي يكتب نثراً". وقال صديقه مكسيم غوركي بحقه:" انه يخترع علاقات وأحداث لا واقعية، ولكن للطرافة ليس هناك ما لا يوجد في الواقع".
لقد كانت أغلب مسرحيات تشيخوف ذات طابع كوميدي ملموس، ليس فقط لان الكوميديا اكثر الاشكال الفنية قدرة على وداع عالم يحتضر، بل اجدرها برثاء هذا العالم والكشف عن جراحه والسخرية من مواضعاته المتعفنة. ولكن ايضا لأن تشيخوف كان يتمتع بطبيعة ساخرة قادرة على استيلاد الفكاهة من أحلك اللحظات، وعلى الاحتفاء بالصيغة التهكمية التي انضجتها السنوات الأولى لكتاباته القصصية والصحفية الساخرة، التي احتفظ عبرها بشيء من روح غوغول وشدرين وغوبونوف، او بمعنى اوسع بشيء من الروح الروسية الاصيلة في نزوعها الانساني الى الفرح والحياة.
* *
في ربيع 1898 ولد مسرح موسكو الفني الشعبي بقيادة ستانسلافسكي وداشنكو وتشيخوف ومجموعة من الشباب المسرحيين الروس، وكان اول ريبتوار "ذخيرة" لهذه الفرقة هو مسرحية "النورس او طائر البحر" لتشيخوف بعد فشل ذريع منيت به هذه المسرحية في بطرسبيرغ قبل عامين او ثلاثة من تأسيس هذه الفرقة الفنية. كان تشيخوف يتابع فرقته من مشغله في جزيرة يالطا ويبعث الرسائل والامنيات الى صديقه المخرج ستانسلافيسكي، آملاً بنجاح مدونته المسرحية الاولى في تدشين العرض الاول لهذه الفرقة، وهي بالمناسبة تعد المسرحية الرابعة عشرة في مجمل نتاج تشيخوف المسرحي، ولأنه كان يعيش في مصحة داخل جزيرة الشياطين، كما اسماها، فانه ارسل شقيقته ماريا بافلوفناتشيخوفا للوقوف على عرض النورس الاول.
يتذكر قسطنطين ستانسلافسكي، كما جاء في كتابه الشهير "حياتي في الفن" اليوم الاول لهذا العرض، بعد ان حملته ريح المجاهدة الى ذراه العالمية وهو يجلس في الظلام، خصوصا حينما اسدل الستار وخيم على الصالة صمت القبور. ولكن نجاح هذا العرض كان هائلاً عند رفع الستار واندفاع جميع العاملين لمواجهة الجمهور تحت دوي التصفيق، ثم تبادل الجميع القبلات بمن فيهم الغرباء الذين اقتحموا هذا المسرح الجديد بمزيد من الفرح والصفير وحالات التصفيق، وفي نهاية العرض طالب الجمهور بإرسال برقية الى تشيخوف.
منذ ذلك العرض، قامت بين ستانسلافسكي وتشيخوف علاقة روحية وصلة قرابة، وكان اللقاء مؤثراً بين الاثنين، خصوصا بعد عودة السنونو المشافى من جزيرة يالطا، حيث شد قسطنطين ستانسلافسكي على يدي انطوان بافلوفتش تشيخوف بشكيمة اقوى من المعتاد، وابتسم له برقة داعياً اياه الى تعاون فني مستمر.
وبقية القصة معروفة لمن تتبع انطولوجيا تشيخوف المسرحية، او ممن قرأ كتاب ستانسلافسكي المذكور حول حياته في الفن، حيث كان عملهما الثاني لمسرح موسكو الفني الشعبي "الخال فانيا" التي كتبها تشيخوف في العام 1997، وكان تشيخوف يحضر تدريبات هذه المسرحية يومياً بهمته وموظفا طاقته على طريق الخيار الصعب، آملاً بالامتحان النهائي الذي تنكشف فيه حقيقة المسرح وللوعود التي طالما اغدقت عليه من ارباب المسرح. لذلك لم يهتم تشيخوف بالتفاصيل التي يتطلبها كل مشهد من "الخال فانيا" ولا عمل الممثلين ولا ملاحظات صديقه المخرج ستانسلافسكي، كان فقط يرغب في التواجد في جو الفن والثرثرة مع الممثلين المرحين. كان يحب المسرح ولكنه لا يطيق فيه الابتذال الذي يجعله ينكمش متألماً، او يهرب منه حيثما كان يظهر.
من الصعب بعد ذلك ان يصدق المرء، بان طاقم مسرح موسكو الفني الشعبي بعد العرض الاول لـ الخال فانيا قد قارب النجاح كما حصل في عرض مسرحية "النورس" خصوصا حينما اجتمع هذا الطاقم في احد المطاعم الروسية، وراح يذرف الدموع – كما يقول ستانسلافسكي – لان المسرحية بإجماع الآراء قد فشلت، على الرغم من ان الزمن تكفل في الامر فيما بعد، إذ حازت الاعجاب بعد ذلك واستمرت تقدم لأكثر من عشرين سنة واصبحت مشهورة في روسيا وامريكا وأوروبا.
ويعود تشيخوف مرة اخرى الى جزيرة الشياطين تحت تأثير المرض، من دون ان ينسى التزامه بفرقة موسكو الفني الشعبي، فيرسل اليها عن طريق البريد الفصل الاول من مسرحية بلا عنوان، ويلحقها خلال الاسبوعين اللاحقين بالفصلين الثاني والثالث، فيعمل أعضاء الفرقة على قراءة المسرحية والتدريب على مشاهدها، بعد ان اقترحوا لها عنواناً لم يخطر ببال تشيخوف نفسه "الشقيقات الثلاث"، حتى اذا جاء العرض بدا للمخرج وممثليه ان العرض لم يلق نجاحاً وان الجمهور لم يعجب لا بالمسرحية ولا بالأداء، وقد تطلب الامر وقتاً طويلاً حتى يصل ابداع تشيخوف الى قلوب الجمهور في هذه المسرحية ايضاً.
لم تنته علاقة تشيخوف بفرقته الفنية، وخلال عامي 1900- 1901 تزوج تشيخوف من الممثلة اولغا كنيبر، احدى ممثلات مسرح موسكو الفني الكبيرات، وكان في ذات العامين يكتب آخر مسرحياته الكبرى "بستان الكرز" التي خص بها ذات المسرح. كان وافر النشاط على الرغم من مشافيه المتعددة في يالطا وجنيف وبادن، اذ سعى في العام 1902 الى الاستقالة من اكاديمية العلوم الروسية، احتجاجاً على قرار الاكاديمية بفصل مكسيم غوركي من عضويتها، بعد ان صدر هذا القرار بإيعاز من القيصر، وفي عام 1902 كتب قصته الاثيرة "الاسقف" ثم قصته الشفافة "العروس" 1903 التي تعد آخر العنقود من اقاصيصه الشهيرة التي شكلت اربعة مجلدات لم يصلنا منها في طبعتها الروسية المترجمة للعربية خلال سني التسعينات المنصرمة، إلا ثلاثة فقط.
وكان آخر ثمار ارهاصات انطوان تشيخوف في مسرح موسكو الفني قبل وفاته في احد مستشفيات مدينة بايدن الالمانية عرض مسرحية "بستان الكرز" الذي قال عنها مخرجها ستانسلافسكي: "سار اعداد هذه المسرحية بصعوبة، ولا عجب فالمسرحية صعبة جداً، وسحرها في عبيرها المخفي عميقاً والذي يصعب الوصول اليه، فلكي تشمه ينبغي عليك ان تبسط برعم الزهرة وتجعل اوراقها تتفتح. ولكن ذلك ينبغي ان يحدث تلقائيا بدون عنف، والا حطمت الزهرة فتذبل بين يديك"!
واثناء عرض "بستان الكرز" لاول مرة، وقبل ان يشد الرحال الى بايدن حيث منيته الاخيرة، ظهر تشيخوف مرحا كأنما يحس بقرب وفاته ومع ذلك فقد ترك في نفوس اصحابه وخلانه ومريديه انطباعاً مقبضا، فاحت منه رائحة الجنازة. اما المسرحية نفسها كما يقول ستانسلافسكي فكانت متوسطة النجاح ورحنا نلوم انفسنا على اننا لم نستطع من المرة الاولى ان نعرض اهم واجمل واثمن شيء فيها.
اخيرا، ربما كان اسلوب تشيخوف في الكتابة والابداع ناعما جدا بالنسبة الى الانسان المعاصر، إذ ان الطرق المعترف بها لتقديم الانسان الثوري الطليعي على منصات المسرح تتطلب احتجاجاً مؤثراً وفاضحاً حاداً. وهذا بالفعل غير موجود في مؤلفات تشيخوف المسرحية، ولكن ذلك لا يجعلها جعجعة لا خير فيها ولا طائل من ورائها. وهذا ما لاحظه تشيخوف واثبته ستانسلافسكي.