ادب وفن

"التناص".. آلية اجرائية لفحص ودراسة النصوص الابداعية / داود سلمان الشويلي

"أنا لا أؤمنُ بشعرٍ جديدٍ مطلقاً، لأنّه سيكونُ رديئاً.. الشاعرُ العظيمُ هو الذي يذكّركَ بسابقيه"
تي أس أليوت
من الامور المسلم بها فيما يتعلق بالمناهج النقدية - كحال المدارس الابداعية كافة ان العرب، والعراقيين ضمناً، هم من المبدعين المستهلكين لها. اذ ان بعض الادباء والمهتمين - وكذلك المترجمين- يقومون بنقل تلك المناهج وكل ما تنطوي عليه من مصطلحات ومفاهيم وادوات اجرائية، من لغاتها الاصلية الى اللغة العربية، معرفين بها، ليتلقفها النقاد، مستخدمين اياها في دراسة النصوص الابداعية العربية وفحصها، قديمها وحديثها، وهذه الظاهرة عامة وعلى كافة المستويات، وتعد من ابرز سمات اشكالية النقد العربي، وفضلاً عن ذلك، فإن ما يرد من تلك المناهج قد يصلنا متأخراً عن زمن ظهوره، وربما يعود ذلك الى ان المهتمين بنقلها، ترجمة وتعريفا، لا يأخذون سوى الجاهز منها، أي بعد ان تكون تلك المناهج قد اكتملت عدتها، وتوسعت قاعدة استخدامها، وباتت قابلة للنقل، ومن ثم التطبيق.
ان ما يدفع المهتمين بنقل ما هو جديد - على الرغم من عدم جدته زمن النقل - هو وصول الذائقة - والحديث هنا على مستوى النقد فقط - الى نهاية الطريق، أي استنفاد المناهج السابقة لقيمتها الاجرائية، وعدم قدرتها على مسايرة ما هو جديد بالنسبة للإبداع العربي. وهكذا ظهرت المناهج البنيوية في النقد العربي، والعراقي ضمناً، ظهوراً متأخرا، كما هو الحال فيما بعد بالنسبة للمناهج السردية، والمقاربات النقدية الاخرى، وبعض مفاهيم النقد والدراسة والتفحص للنص، بعد ان اصبح المكتوب "= نصاً".
من اهم الاسباب التي تقف وراء تأخر ظهور تأثير المناهج النقدية الحديثة، قبل عام 2003، هو ما كان يعيشه الجو الثقافي الادبي عامة في العراق - في الثمانينات - في ظل اجواء الحرب، واذا كان هذا احد الاسباب، الا انه لم يكن اهمها، فإن هناك اسباباً اخرى كثيرة، منها ماله علاقة بدور الترجمة من اللغات التي ظهرت فيها تلك المناهج النقدية الحديثة، كاللغة الفرنسية مثلاً، ومنها ماله علاقة بالمؤسسات الثقافية بالترجمة والنشر والطباعة، وهي مؤسسات حكومية، اذ انها - ورغم دورها الكبير- ما زالت قاصرة عن القيام بتلك المهمة بالسرعة المطلوبة، فضلاً عن ان اغلب اختياراتها لا تقضي حاجة الذائقة النقدية العراقية، ولولا الدراسات الاصلية، او المترجمة، التي ترد من دور النشر في المغرب العربي - وما اندرها- وبعض دور النشر العربية، لما تعرفنا على تلك المناهج، التي عدت مناهج حديثة على الرغم من ظهورها في بلدانها قبل عشرات السنين، ومن يطلع على تواريخ نشر ترجمات هذه الدراسات يجد ان اغلبها ممن ابدعه او ترجمه الاشقاء المغاربة.
واذا كان القول هذا ينطبق على السرديات عموماً، فان "التناص" كآلية اجرائية وكواحد من المقتربات النقدية بفحص النصوص ودراستها، قد تأخر التعريف به، ومن ثم الاشتغال عليه "وفيه" لدراسة النصوص الابداعية العراقية وفحصها، كون السيميائيات – اساساً - قد ظهرت بوصفها مناهج نقدية، حديثاً في النقد العراقي، وقد بينت ذلك في الفصل الاول من كتابي "الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي".
ومن انواع التناص بصورة موجزة:
أ‌- على مستوى المحاكاة: حيث يقسم "التناص" على مستوى المحاكاة الى نوعين، هما:
اولا- المحاكاة الساخرة "النقيضة"، والتي يحاول الكثير من الباحثين ان يختزل التناص اليها، وكما عند جينيت "مدخل لجامع النص"- جيرار جينيت - ت. عبد الرحمن ايوب. فإن هذا النوع يتم فيه "تغيير المعنى بحيث يصير مثاراً للهزء والسخرية".
ثانياً: المحاكاة المقتدية "المعارضة"، التي يمكن ان نجد في بعض الثقافات من يجعلها هي الركيزة الاساسية للتناص.
ب‌- على مستوى الانتاج: ويقسم الى:
اولاً- التناص الداخلي: أي قيام الكاتب بإعادة انتاج سابق له.
ثانياً- التناص الخارجي: قيام الكاتب بإعادة انتاج منتج من قبل الاخرين.
وعن النوع الاول، يقول د. محمد مفتاح: "انه من المبتذل "..." ان يقال ان الشاعر قد يمتص آثاره السابقة، او تعكس تناقضاً لديه اذا ما غير رأيه". "تحليل الخطاب الشعري- استراتيجية التناص".
اما عن النوع الثاني، فيؤكد الكاتب نفسه، على انه: "من المبتذل ان يقال ان الشاعر يمتص نصوص غيره، او يحاورها او يتجاوزها بحسب المقام والمقال، ولذلك فإنه يجب موضعة نصه او نصوصه مكانياً في خريطة الثقافة التي ينتمي اليها، وزمانياً في حيز تاريخي معين".
ج – على مستوى الشكل والمضمون: ويقسم الى:
اولا: التناص المضموني.
ثانياً: التناص الشكلي.
ومثال على ذلك دراسة الناقدة الفرنسية "كريستيفا" المعنونة بـ "النص المغلق" في كتابها "عالم النص-جوليا كريستيفا - ت: فريد الزاهي، وفحصها لنص" دولاسال" على مستوى الشكل والمضمون.
ينقسم الباحثون في هذا الجانب الى ثلاث فرق: بعضهم يراه في المضمون، وبعضهم يراه في الشكل، وثالث يراه فيهما معاً، لانه من غير الممكن فصل المعنى عن المضمون، او الشكل عن المعنى.
د- على مستوى القصد: ويقسم الى:
اولاً: التناص الاعتباطي: الذي لا يمكن الوقوف عليه في النص الا اعتماداً على ذاكرة المتلقي.
ثانياً: التناص الواجب: اذ يوجه المتلقي نحو مظانه، أي بوجود مؤشرات تؤشر للقارئ مفاصل التناص.
عندما يجلس المبدع امام الورقة البيضاء "لينتج" نصاً، فإن جميع ما يمكن تسميته بـ "الشروط" لا يمكن اشتغالها في تلك اللحظة. اذ اثناء الابداع لا يمكن للمبدع ان يضع نفسه ضمن ارتهانات متواضع عليها "كشروط" وانما تعمل - هي - ضمن لا وعيه وما تراكم في ذلك اللاوعي "وكذلك الوعي" من خبرة في هذا المجال، لهذا فإن لافتة "شروط التناص" هي لافتة لا تطبق بحرفيتها بقدر ما تكون على شكل "تعاقد" وهذا ما يؤكده "جينيت" حول التناص الواعي، اذ يقول انه: "اشعار القارئ بصورة ما، انه ازاء نص متناص". معنى هذا إن هنالك شرطاً بين الكاتب والقارئ وبموجب ذلك "يقدر الكاتب على مسايرة المؤلف غير متهيب من فك رموز التناص الواقع بين ما يقرأه والنصوص المكونة لهذا المقروء".
اما الشرط الاخر، هو ان يكون "التناص" لا واعياً، أي "تذويب نص الآخر ومحوه واعادة خلقه بالكامل، بحيث لا يعود اكثر من ذكرى بعيدة او مصدر الهام للنص بين مصادر اخرى". "ادونيس منتحلا - كاظم جهاد"
والتناص يشتغل كأداة مفهومية وكرواق ابستمولوجي ان على مستوى الانتاج وان على مستوى الفحص "كأداة معملية" ضمن آليات، ليست ظاهرة للعيان، فضلاً عن انها غير مشروطة، كما هي الاليات المتجسدة في المعامل والمختبرات، وانما يعتمد تجسدها "استخدامها" نوعية الترابط والتداخل الحاصلين بين النصوص المتناصة "على مستوى الانتاج" او اعتماداً على النص نفسه، "على مستوى الفحص" من خلال قراءته، أي ان هذه الآليات التي يؤشرها الفحص من خلال النص نفسه هي نفسها التي اعتمدت عند الانتاج، وهذا يعتمد على "حصافة" القارئ ومقدرته ودقته ووعيه والتراكم المعرفي لديه، اذ ان النص هو "شيء" ميت، لا حياة فيه، انه كالبذرة التي هي مشروع- واحتمال قائم- لان تكون نبتة تعطي ثمارها.
ان التناص "اثناء الفحص" هو الكفيل بإحياء النص، أي يدفع النص لأن ينشئ "معنى" من خلال تفحصه لإظهار تناصاته مع النصوص الاخرى، وعلى هذا الاساس تكون القراءة التناصية لاي نص احدى ادوات "جماليات التلقي" ذات البعد الثنائي "النص- القارئ" أي يكون التناص، اضافة لكونه "جيولوجيا كتابات" يكون قراءة، أي يصبح فناً لـ "كشف ما يكشف في النص نفسه الذي نقرأ والعلاقة مع نص حاضر بغياب ضروري في الاول".
واذا كانت مقولة "موت المؤلف" احد المآخذ على البنيوية، فإنها ما زالت فاعلة في "الفحص التناصي" لكي تبقى علاقة النص بالنصوص الاخرى وثيقة، وكذلك علاقة القارئ بالنص المقروء، هي العلاقة الوحيدة في الوصول من خلالها الى "معنى النص" عند الفحص التناصي.
والتناص، اثناء الانتاج، له آلياته التي يعمل بها، ومن اهمها:
أ – التمطيط:
ومن اشكاله، الجناس بالقلب، وبالتصحيف، والكلمة المحور، الشرح، الاستعارة، التكرار، الشكل الدرامي، ايقونية الكتابة.
وقد اوردت "كريستيفا" في دراستها "الشعر والسلبية" عن شعر لوتريامون، ثلاثة انواع من التصحيفات هي: النفي الكلي، والنفي المتوازي، والنفي الجزئي.
ب – الايجاز:
ويأتي من خلال الاحالة التاريخية "احالة تذكرة او احالة محاكاة".
ان "تعقيد" هذه الاليات في هذين الشكلين وتفرعاتهما لا يمكن الركون اليه، ذلك لانه من خلال هذين الشكلين يمكن دخول بعض انواع السرقة كالانتحال خاصة داخل العملية التناصية دون التعرف عليها وهو ما يجعل التناص في هذه الحالة راية الشرعية امام هذه السرقات.
اما بالنسبة الى آليات التناص على مستوى الفحص والدراسة، فإنها هي نفسها آلياتها في الانتاج والمتوصل اليها من خلال عملية "تفكيك" النص، لكي تشتغل تلك الآليات على مستوى الفحص، صورة صحيحة ودقيقة للوصول الى مرحلة الفهم، ومن ثم مرحلة "التأويل" الذي اكده "ريفاتير" عند استخدامه التناص في آخر اعماله عن الاسلوبية على اعتبار انه: "مرتبة من مراتب التأويل" ومن ثم بناء المعنى وانتاجه. وهذا ما يجب على التناص "اثناء الفحص" الوصول اليه.
ان استخدام التفكيك سيبعد القراءة التناصية من مجال القراءات التقليدية التي تحاول انتقاء دلالة معينة توقعها في التأويل الأيديولوجي للنص، أي ان يساعد النص على ابراز امكانيته في هذا الجانب امام كل قراءة.
وأخيراً، لا يمكن عد ما قلناه سابقا على انه "مسطرة" علينا استخدامها عند فحص النص، لان في ذلك سحبا للبساط من تحت اقدام "الاجتهاد" في استخدام المناهج النقدية التي تأتينا من الغرب ومقارباتها النقدية، لكي نبعد أي اشكالية يحتمها استخدام تلك المناهج على النصوص الابداعية العربية، تلك النصوص التي لها علائق وشيجة بقضية الفكر العربي المعاصر الذي هو في الاساس فكر مغاير- برغم انسانيته- للفكر الاوربي الذي يعد نفسه مركزاً.
ان حديثي هذا على التناص جاء بعد قراءة بيتي الشاعر محمد بن يعقوب بن علي، مجير الدين ابن تميم الإسعردي عن شعره، "فوات الوفيات- المؤلف: محمد بن شاكر الكتبي" حيث يقول فيهما:
أُطالع كــــــُلّ ديوانٍ أراه ... ولم أزْجُرْ عن التضمين طَيْري
أُضَمِّنُ كُلَّ بَيتٍ فيه معنى ... فشِعري نصفُه مِن شعر غيري.
إذ كان واعياً لما يبدع اكثر من وعي المبدعين الاخرين كافة. فقد دلّ ونبه على مصادر شعره دلالة كافية، وليس في ذلك عيب، فهو لم يسرق او ينتحل.
والمتفحص لأي قصيدة، او قصة قصيرة، او رواية، او أي نص ابداعي، يجد ان هذا النص" نصفه "من وضع الاخرين، ان جاء على شكل تضمين، او كفكرة مصاغة بحالة جديدة او قديمة، كالأمثلة الابداعية التي درسناها في فصول كتابنا "الذئب والخراف المهضومة". او في الفصل الاخير من كتابنا" الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية"، او الدراسات الاخرى التي نشرتها عن القصة والرواية والشعر.