ادب وفن

"كُلُلّوش".. وتمثلات الأنثى الساردة / عبد علي حسن

يتعين علينا عند قراءة نصوص سردية تنتجها المرأة أن نتقصى جملة من الإجراءات التي تمنح تلك النصوص سمتها الأنثوية ، ويترتب على ذلك التقصي والاكتشاف التعرف على وجهة نظر النص بعده مرآة الذات الساردة ، ولعل الاهتمام بهذه النصوص من هذا الباب هو بسبب الاتجاه الحديث لتبني وجهات نظر النقد النسوي والجندر والجينثوية المهتمة بما تنجزه الأنثى من نصوص تعبر عن وجهة نظرها في ما يخص علاقتها بالآخر/الرجل وبالمجتمع وبنفسها وأخيرا بمثيلتها المرأة ، خاصة في المجتمعات البطرياركية التي يحتل فيها الرجل موقع المركز ، ومنها المجتمع العراقي .
وإزاء ذلك فإننا سنلاحق ونتقصى التمثلات التي اعتمدتها القاصة رغد السهيل في مجموعتها القصصية الأخيرة "كللوش"، كيما نتمكن من رسم مشهد رؤيوي يتضمن وجهة نظر نصوص المجموعة بالقضايا التي اشرنا اليها آنفا ، عبر الكشف عن الاسلوب والشخصيات المركزية والمشكلات التي تواجهها ثم وجهات النظر المقترحة من قبل القاصة لتأكيد السمات الانثوية للنصوص بعدها انعكاسا لتمثلات القاصة بشكل خاص .
يمتلك العنوان "كللوش" دلالة خاصة ذات أثر استرجاعي في ذاكرة المتلقي العراقي حصرا وعند الآخر بالملاحظة التي اوردتها القاصة في التنويه الذي يلي الاهداء ، توضيحا لمعنى هذه المفردة في العرف الاجتماعي العراقي الذي أكده الاهداء بعدها مفردة تمتلك امتدادها على طول الوطن وعرضه من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه ، لذا نحن ازاء تكريس لمحلية هذه المفردة لما تتضمنه من معان تدور جميعها في منطقة حزن وفرح المرأة العراقية طريقة للتعبير عن تلك الخوالج بشكل يثير في النفس موقف المرأة المعلن عبر هذا الصوت/ المفردة، وسنعتمد هذه الدلالات "العنوانية" ان صح التعبير مثابة للولوج الى الممكنات السردية وتمثلات نصوص المجموعة التي استنارت عتبتها الثانية بسطور من قصيدة للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي بتأكيدها الدور الحضاري للمرأة على مدى تقدم العصور متجاوزة بذلك الدور الشكلاني والتسطيحي للمرأة الذي وضعه الرجل وحاول تكريسه فكريا ودينيا بعدها وسيلة امتاع للرجل لتحتفظ بدور دوني لا يؤهلها للمساهمة في بناء المجتمع ورفد معاني الحياة بقيم ايجابية متقدمة، "طفلة أنت وأنثى واعدة
وُلدت من زبد البحر ومن نار الشموس الخالدة
كلما ماتت بعصرٍ، بعثت
قامت من الموت وعادت للظهور
انت عنقاء الحضارات".
ولعل اختيار هذا النص من الشاعر البياتي يتماهى ويؤكد وجهة نظر القاصة في ما يمكن ان تقوم المرأة به من دور يؤثث الحياة بشكل متقدم على كافة المستويات، وهو ما سنتابعه في قراءتنا نصوص المجموعة.
تضمنت مجموعة "كللوش" القصصية ثلاث عشرة قصة اعتمدت القاصة في تسلسلها العنواني آلية التوالد الحكائي استثمارا لأسلوب بنائية حكايات "الف ليلة وليلة"، اذ حرصت القاصة على وضع بذرة الحكاية القادمة عبر ذكر مفردة أو جملة في نهاية كل قصة لتبدا القصة التالية وهي تحمل العنوان الذي تمت الإشارة اليه في نهاية القصة السابقة لها، على ان هذه القصص لا تجمعها قصة الإطار أو توالي الحدث او استمرار الشخصيات في القيام بأدوارها السردية وانما كانت مستقلة وذات اكتمال في بناء أحداثها وشخصياتها، ولعل الجامع بينها هو استمرار الراوي كلي العلم -- وهنا القاصة -- في سرد الأحداث وكذلك الراوي العليم الذي تولى سرد عدد من القصص، لذا لم تكن هنالك ضرورة الى اعتماد هذه الآلية - الاشارة الى عنوان القصة القادمة – لعدم وجود قاسم مشترك "الشخصيات، الاحداث" بين القصص وعدم تكوينها لقصة الاطار لقد حايثت متون المجموعة القصصية الواقع مقتربة من المشاكل الحقيقية التي رافقت التحولات البنيوية للمجتمع العراقي وما تتعرض لها الشخصية العراقية من عوامل الانتهاك والتهديد اليومي، ففي القصة الأولى "حديقة جمعة اللامي" تختار القاصة نماذج من شخصيات قصص جمعة اللامي اضافة الى شخصية "فرخندة" الشابة الأفغانية التي تم تجريمها لمجرد اعتراضها وبشدة على الممارسات المتخلفة في المجتمع الافغاني وتحديدا فيما يتعلق بمعرفة الطالع أو الحصول على مولود وغيرها من القضايا التي تنم عن جهل المجتمع والمرأة في المجتمعات الأبوية ، ويحاول النص الكشف عن هموم النسوة في مثل هذه المجتمعات التي تنخر في جسدها ممارسات الجهل الديني والاجتماعي على حد سواء ، لتبدو قضية فرخندة هي ذاتها قضية ونسة وسليمة وزينب -- شخصيات جمعة اللامي السردية -- وكذلك نادية مراد .
"بنو لام وبنو ورد...حول الطاولة يتداولان في قضية فرخندة... كلا قضية سليمة..! أليس من دية للنساء. أليس من دية للنساء؟ تصرخ نادية مراد في الأمم المتحدة.." ففي النص الآنف الذكر اشارة واضحة إلى جمعية الظلم والانتهاك الاجتماعي والاستغلال الجنسي الذي تعاني منه وتعيشه المرأة في كل مكان وزمان، فاستدعاء شخصيات جمعة اللامي السردية وعبر تحقق الهوية السردية لتلك النساء كانت محاولة ايجابية من قبل القاصة في مقاربة الهم الاجتماعي الذي وازى من حيث التحقق الفعلي للأحداث عبر تجريم فرخندة وما تعرضت اليه نادية مراد العراقية على يد عصابات "داعش"، كما ان اشراك جمعة اللامي كشخصية سردية في النص قد ساعد كثيرا في تمكن القاصة من طرح وجهة نظرها عبر اسلوب تجريبي ادخل شخصيات روائية أخرى في مجرى السرد كالروائي عبد الخالق الركابي والروائي ارنست همنغواي ، ولاستكمال لوحة تواتر الأثر الجمعي لنضال المرأة وعبر حوار بين باقة الورد وجمعة اللامي فإن الاولى تقترح خلق "سليمة" أخرى من طين جمعة اللامي وماء دجلة "لوحة الطين ، لنشكل منها سليمة أخرى كلما ماتت وقفت في الأمم المتحدة". وفي نهاية القصة تستدعي باقة الورد شخصية فرخندة "الصغيرة" لتحكي لها حكاية كللوش لتبدأ القصة التالية بذات العنوان "كللوش" ببنائية مستقلة ومتكاملة الأحداث والشخصيات المنفصلة عن مجريات السرد في القصة الأولى.
وتصطف الى جانب القصة الآنفة الذكر وضمن محور الكشف عن معاناة المرأة في المجتمع الذكوري عدد من قصص المجموعة كقصة "كللوش" و"حيوانات الوجوه" و"نخلة أم الحارث" و"التركة"، ففي هذه القصص حاولت القاصة الكشف عن وجهة نظرها ازاء الوضع الاستثنائي الذي تعيشه المرأة في المجتمع، كموضوع الوحدة التي تعاني منها الأرملة ومحاولتها ايجاد بديل موضوعي للآخرين كما في "نخلة أم الحارث" التي وجدت في نخلة حديقتها انيسا تمتلك قدرة التعويض عن فقدان العلاقة مع الآخرين والتعامل معها بعدها كائنا بشريا يشاطرها الحياة ، في حين تمكن نص "حيوانات الوجوه" عبر رؤية حلمية من تقديم تصور داخلي لوجوه الناس كل حسب تصرفه وطريقة تفكيره فوجدنا الثعلب والذئب والقطة وسواها من الحيوانات كل حسب توصيفه المعروف عنه وارتداء وجوه البشر اقنعة تلك الحيوانات، ولعل قصة "التركة" هي القصة الأكثر كشفا عن العلاقات القائمة في العائلة العراقية في ما يخص حقوق المرأة من الإرث والتركة المالية التي يتركها الأب لأبنائه ، اذ نلاحظ التمييز الواضح والمكشوف بين الابن الوحيد والبنات الثلاث اللواتي تجبرهن الأم على التنازل عن حقوقهن للأخ ، باعتبار ان ما سيرثنه يذهب الى أزواجهن ، كما وتخلل القصة كشف للعلاقات غير المتكافئة بين الأزواج الذي يترتب عليه سوء معاملة المرأة وإهمالها.
وتستأثر القصص الأخرى بالاهتمام وطرح وجهة نظر القاصة بمعطيات الواقع العراقي ، ونعد هذا الاهتمام وجهة نظر القاصة السهيل بمجريات الواقع العراقي بعد 2003 .
ففي قصص "الأفندي دال نقطة" و"اللعبة" و"هامة حي؛ تدارك" و"اغتيال حقيبة" و"موت أم" محاولة للدخول في تفاصيل الواقع العراقي وافرازات ومعطيات الإحتراب الداخلي ومظاهر الفساد المالي والاداري الذي تعاني منه البلاد، وأثر ذلك في الوضع النفسي للفرد العراقي، فقد جرى تمثل هذا الواقع عبر تخيل افتراضي يمتلك صفة الاقتراب من الواقع على سبيل المحاكاة والتمثيل وامكانية الحدوث من خلال منطق الاحداث ووجود سببية الحدث ومسألة علة الحدوث لإقناع المتلقي ، والثاني من خلال التخيل العجائبي الذي لا يمتلك سببية الحدوث ومنطقيته كما في قصة "هامة حي تدارك" و"الافندي دال نقطة" و"اللعبة" حيث تمكنت هذه النصوص -- اضافة الى نص "كللوش"-- من تقديم رؤية داخلية لمظاهر الواقع وتأويل تلك المظاهر عبر سرد كرس ايقاع المتلقي في منطقة الغرائبي فضلا عن تمكينه – المتلقي -- للوصول الى معادلات تأويلية تكشف عن رؤية هذه النصوص المستبطنة لمعطيات الواقع العراقي، في حين تمكنت القصص الأخرى "ركلة قدم" و"دندنة الأرض" و"مواء العاشق" من تقديم رؤى تخص العوالم الداخلية للقاصة متضمنة كشوفا رائعة لثيمات توقظ ذاكرة المتلقي وتحفزه على متابعة الأحداث المفترضة متبينا خلالها وجهة نظر الساردة في تلك الموضوعات التي لم تبتعد في أقصى حالات تفردها عن هموم الذات الساردة وموقف الانثى منها، وهي هموم امتلكت ايضا صفة الموضوعية من خلال التجربة الذاتية.
لقد حققت نصوص المجموعة السمات الانثوية عبر جملة من الاجراءات السردية منها وجود انثى ساردة "القاصة" سواء اكانت عبر ضمير المتكلم/ راو كلي العلم او هو/ راو عليم وكذلك وجود شخصيات نسوية مركزية وثانوية اضافة الى معالجتها للقضايا التي تخص المرأة في المجتمع العراقي ولعل جملة "جورية" في قصة "التركة" :- كل فتاة بعد ابيها ارملة ،تلقي الضوء على عدم تمكن المرأة من مواجهة الصعاب والمشاكل اذ اعتبر النص موت الاب هو بمثابة رفع الحماية والاهتمام عن البنت لتبقى وحيدة دون معين وهو ما يحصل في المجتمعات الابوية ، وكذلك تكريس لغة الأنثى الساردة بشقيها العليم وكلي العلم من الاقتراب من مشاعر وهواجس الأنثى في مختلف المحاور التي كانت مثابات فكرية وجمالية طرحت وجهة نظر المرأة -- بعدها انثى ساردة -- عبر لغة شفيفة استطاعت ان تؤشر الى قدرة في ادارة السرد وامتداده الى خارج النصوص باتجاه ضخ المزيد من التفاعلات النصية ، خاصة في عتبات القصص النصية التي كانت تمهيدا وتمرينا لذاكرة المتلقي في استقباله لقصص مجموعة "كللوش" للقاصة رغد السهيل التي احتلت موقعا متقدما في قائمة المشهد القصصي العرافي الذي بدأ يتعافى مؤخرا كما نرى.