ادب وفن

قراءة في رواية "كم أكره القرن العشرين" / مقداد مسعود

"لا وئام بين بصرتين بعد الآن، هناك أشياء بدأت تتخفى، تهرب خجلة. وأخرى راحت تزأر بقبحها، تنط ّ من خارج الحسبان. وحده الاحساس بالعاصفة أضحى ناقوس العيش في خرائب هذه العروس الموءودة".
الروائي عبد الكريم العبيدي هو من القلة الذين أجادوا الكتابة عن جحيم الطاغية، لأنه من أولئك الذين شاركوا في التصدي الجماعي الفعلي ضده، وروائيا من خلال تناول الجندي الرافض للمشاركة بالقتل الجماعي وهذا الجندي في روايته مثقف غير مؤدلج لأي طرف سوى إنسانيته الشعرية، ومن هذا الجانب الجميل يذّكرني العبيدي بالروائي الألماني العظيم أريك ماريا ريماك في معلقاته السردية "كل شيء هادئ في الميدان الغربي. وقت للحب وقت للموت. ليلة لشبونة. الأصدقاء الثلاثة".
في "معلقة بلوشي" يشعر القارئ النوعي أن المؤلف العبيدي هو من أمهر اللاعبين بالأنساق الزمنية الثلاثة:
• النسق الصاعد
• النسق المعترض
• النسق الهابط
ولا تقف مهارة العبيدي عند هذا الحد فهي تجيد استعمال الوثائقي والسياسي والجغرافي وتوظيف هذا الاستعمال في الموضع الحيوي، أما توظيف الذات الانشطارية فقد بلغت لديه شأوا مرموقا على مستوي ذات "مولو" وكذلك الرضة النفسية التي أصابت شقيقته الطبيبة "ميا"، ومن خلال هذه الاشتغالات تصنّعت رواية عراقية بتوقيع البصرة فالريافة "ليست هذا اللا بُد ّ الذي ليس منه بد. هي علاج ٌ بَصْري ٌ بارعٌ لكل ما هو تالف منها. علاجٌ تام من دون آثار جانبية، طب عرب، يأخذ عناصر الدواء من شماريخ أزقة هذه المدينة، ثم يعيدها إليهم بمهارة، فتعود البصرة إلى ما قبل الخراب".
(*)
من أجل التعبير الفاعل عن الواقع الموضوعي، قرر الفعل الروائي أن يؤمن بما هو أعلى من الواقع وهكذا تملصت الرواية بمهارة من فوتو سرد الواقع، كما أن الشخصية المحورية أو سواها في المجتمع الروائي ضمن معلقة بلوشي ليس مستلة من وقائعية مطلقة، بل تتخلق في رحم مخيلة المؤلف، إذن الشخصية مكون لساني تخيلي، ومن هنا يمكنني القول أن الشخصية الروائية وحدة دلالية، مثل أي علامة لغوية، مثنويتها تتجسد في الدال والمدلول.
(*)
"مولود" ليس إنسان مضطهد لذاته، هناك شبكة علاقات روائية تحصنه وترافقه وتذود عنه، يطلق عليهم السارد العليم "الشماريخ" وفي مقدمتهم: "عزّام" الذي كان "يغيب فجأة، يختفي عن الأنظار. لن أجده في أي مخبأ، وبعد شهر أو أكثر يعود ويظهر دون أن يأبه بحيرتي. يعود محملا بنماذج اجازات وهويات مزوّرة وكتب رسمية"، وهناك الملّقب بالباشا الذي ينتحل دور شخصيات متنوعة من رجال نظام الطاغية ومن ينسى دور ضابط المخابرات "مضر عبيجل" ومساندته لمولو؟! وفي هذه الشبكة يوجد أيضا "شماريخ ضالة. مخلوقات مغمورة شديدة اليأس، تدنو من حافة الحياة، وتعقد صداقات طارئة مع كل من يرافق عزام ليلا. ثم ترتدي أقنعتها، وتعود إلى عالمها السفلي، قبيل طلوع الفجر. تعود فَرحَة على ما أظن"، ومن مواقف مضر البطولية والشخص الملّقب بالباشا وشبان ذلك البيت في محلة الجمهورية وغيرهم، ومن هؤلاء كلهم تنهض بنية النص الدلالية، كلهم تماسكوا فيما بينهم ضد الطاغوت، وهذا التأثيل لا ينهض من فراغ بل منبجس من مثنوية وعي: وعي ممكن/ وعي فعلي.. الفعلي يتجسد في التضاد الحاد بين مولو وصارم وبين صارم وميا وبين عائلة صارم وعائلة حازم يتضح أكثر أثناء الجلسة العشائرية بين العائلتين، أما الوعي الممكن فهو جماعي تجسده شبكة علاقات الشماريخ ضد الطاغية.
(*)
الخلية السردية الموقوتة التي تتشظى وتمنح الرواية سعة مشوّقة هي وجيز قول العرافة في بداية الرواية "سيظل يتبعك مثل ظلك، سيقتفي أثرك أينما حللت"، وهذه الخلية تواصل بثها التكراري بين الحين والآخر في صفحات الرواية، كأن لها وظيفة الانعكاس الشرطي وفق نظرية بافلوف.. أشهد أن جماليات هذه الرواية ثرة جدا، رغم أن تقنية المخطوطة، شاعت بوفرة في الروايات العربية، لكن العبيدي اجتهد في الجديد اجتهادها نوعيا كبيراً في اجتراح بصمة جديدة للتقنية المخطوطة فهو حوّلها من مساراتها الواضحة إلى مسارات تتواءم مع الملتبس الاجتماعي العراقي وجعل من البطل المنكسر في الرواية لا يتعامل مع الزمن وفق أمنية الروائي ألدوس هكسلي في روايته الفذة "لكي يقف الزمن"، بل "لإنقاذ بلوشيتي من طرف دونيتها المستترة في قلوب القبائل من أولئك الذين يصفونها بـ خطأ تاريخي، شيء "يتواجد" يمكن قبوله على مضض.. الآن بدأت أعيد الزمن الى منابعه، أخضعه الى سلسلة من التشكل في معركة مباغتة كادت تحيل زمني كله إلى هباء".
ثم ينتقل السرد من الزمن الذاتي إلى الزمن الموضوعي متجسدا في ساعات الجنود اليدوية ويقوم السرد بأنسنة هذه الساعات ويجعلها في حاجة إلى "ذات استكشافية تعيد اليها اعتبارها كشهيدات يُعد رحيلهن من أكثر الخسارات في قائمة المعارك". وهكذا تصبح الساعات اليدوية للقتلى هي الهوية القومية للمحارب "لم أعد أأبه بعد ذلك بأي علامة في رأس أو بسطال أو بندقية، لأميزها بها عراقية الجثث عن إيرانيتها. ثمة ساعة ونصف بدت كافية جدا بين دولتين متنازعتين، منشغلتين في حرب ضروس طاحنة بين موت عراقي وآخر إيراني. بين ساعات الحروب الحيّة وبين مؤقتيها الميتين" فالساعة التي تشير إلى الواحدة ظهراً تحملها جثث عراقية وساعات الثانية والنصف تعني جثث إيرانية، وبمرور الهجومات ستكون لهذه العلاماتية الفارقة علاماتية جديدة "وحدها الساعات منحت أكوام الجيف انسانيتها، وحدها التي صححت مسارات ظنوني، وجعلتني أشعر من داخل عفونة الجثث أنني أتسلل بين جثامين آدمية لعراقيين وإيرانيين اشتبكت في أبشع لوحات الموت ضياعا وتحللت، تاركة لساعاتها مهمة حساب الزمن وفرز تجلياته".
لكن الفارق الزمني بين توقيتي العراق وإيران لم يصمد في ثبوتية الساعاتية اليدوية صار "يتقلص حينا ليبلغ أقل من ساعة، وأحيانا يتسع ليصل إلى ما يقرب من ساعتين أو أكثر أحياناً. وصل الفارق بينهما إلى سبع ساعات.."، وسبب هذا التفارق هو "لم تول وصية القتلى احتراما..".
هنا يغادر الزمن جهامته الموضوعي وينزاح شعريا/ أخلاقيا إلى جهوية جديدة، تشكّل علاماتية ثالثة للساعات. ولكن هناك صدمة العلاماتية الرابعة الذاتية والعدائية من منظور مولو البلوشي والتي ستمنح العلاماتية جهودية جديدة ومقززة!
وإذا كان زمن ساعات قتلى الطرفين يشير الى حالة طارئة تختزل أحلامهم فإن زمن عدو مولو البلوشي الموتور "صارم"، "ارتبط زمن ساعات صارم بجريمة سرقته المحاطة بمبهمات فوضى الشلامجة، لم يكن صارم يمتلك أي صلة بزمن الساعات التي سرقها" وسبب انعدام الصلة هو أن "سرقة الساعات هي مصدر الهامه وليس زمنها". هو يندفع برغبة السلب والنهب في الهجومات. لكن صارم بسبب تفاقم شعوره بالنقصان خارج الزمن وبالدونية المجتمعية:
• لا وجود لزمن صارم، لا وجود لقيمته في عفونة الجثة
• إذن صارم يسرق زمن الجثث بشهادة عجلان وتأييد الشماريخ له.
(*)
مؤثرية تراسل العين بين الدكتورة ميا والرجل الغريب.. "ظل المريض يميل برأسه يمينا وشمالا لاقتناص أي فراغ، وراح يدعك عينيه الواسعتين بشدة، كأنه غير مستوعب لما يرى، ربما دفعته رغبة شديدة لرؤية وجه الطبيبة، وجهها لا غير". هل الرغبة تقتصر على رؤية الوجه؟! أم على رؤية ما وراء الوجه؟! أم ستكون الرواية بصيغة مسح عام للوجه ثم تستقر العينان في عينيّ الوجه الآخر مصحوبة بصعق روحي.
ثم يركز السارد العليم على مؤثرية التراسل "التقت عيناهما لحظة" ستعمد قراءتي إلى تعديد المؤثرية كالتالي نقلا ً عن النص نفسه:
• برقت فيهما رغبة منفلتة غريبة
• تشابكت الإشارات والحركات
• فانقبضت نفس الطبيبة فجأة
• عرقت يداها
• واحمر وجهها
• شعرت بغصة
• وبتسارع في ضربات قلبها
• ورفيف جفنيها
• استشعرت خطراً قادما منه
من خلال تراسل النظرات ستحدث صدمة انشطاريات في ذات الطبيبة "ميا" وعلى ذمة السارد العليم "بدت الصعقة أكبر من جلادتها، لدرجة لم تسطع معها الاحتفاظ بـ "ميا" الطبيبة. فرّت "ميا مراد".
(*)
في الصفحات الأولى من الرواية يخبرنا السارد أن مولود شقيق الطبية ميا من شهداء الحرب، ثم سيقدم لنا السارد تفصيلا دقيقا في الصفحات القادمة لاستشهاد مولو البلوشي وفقدان صارم الزنبور في معارك الشلامجة وما سوف يتم سرده لنا سيتكرر ثانية قبل نهاية الرواية أعني مشاهد الغريب "المرابض قرب قبر المرحوم مولو"، وسيطعن بهذا السرد سرد آخر في الرواية وتتكشف لنا الخبايا".
(*)
الدكتورة ميا أثناء تصفحها مخطوطة مولو، كانت منشغلة بالثانوي في المسطور، فهي تساءل نفسها "كم من الحشرات تغذّت على هذه الدفاتر؟ وتركت فضلاتها تشوه وتمحو".. "أحصت الدكتورة العديد من الأخطاء الإملائية والكلمات المحذوفة وتابعت تحول الخطوط، حتى أن جملا كثيرة بدت عصية على الفهم، مليئة بفوضى السهام والحذف والأخطاء والتصحيح".
سرديا أن السارد الأول هو مولو وسردياته موّثقة في دفاتره، وما سوف يقوم به السارد الثاني أعني "الملك الظليل" هو تنفيذا لوصية من مولو نفسه إبداعياً. وما يجري في الصفحات الأولى هو توزيع السرد بين مكانين وزمنين مختلفين.
• الجدة سليكة في البصرة تتفقد كيس ودائع لمولو بعد دفنه
• طبيبة العيون ميا مراد شقيقة مولو في بغداد وهي في قصرها المنيف مع زوجها وولدها المسمّى باسم خاله مولو تتفحص كيسا سلمه الغريب الأعرج لأم بان لتسلمه بدورها للطبيبة لدينا قراءتان لدفاتر مولو
• القراءة الأولى هي "قراءة ميا": لمحت اسم شقيقها في أعلى الصفحة فانتابها فزع مفاجئ، ثم قرأت اسم الرواية فداهمها شعور قوي بالخوف والعجز، وبتنميل في الجسد. قلّبت الصفحة بصعوبة، وحالما فاحت رائحة البلوش هتفت بلا شعور: أخيرا فكّر شقيقي المرحوم أن يرد لي المعروف، أن يجعلني مجنونة مثله، أن يحيلني إلى آخر هيئة لي، وأنا أرتعد !".
• القراءة الثانية هي استعمال الدفاتر لإنجاز الرواية إبداعيا من قبل السارد الثاني الملّقب بـالملك الظليّل: "سلّمت للعائلة مخطوطة الرواية مطبوعة".
في المناصة المعنونة "موجز اتفاقية هاولير" وعلى ذمة السارد العليم: الملك الظليّل "في اليوم الأخير من تلك الرحلة العجائبية، منحتني السيدة بحضور زوجها، حقيبة صغيرة، زعمت أنها تحوي الكيس الملغوم الذي حدثني عنه، مع رزمة أوراق مليئة بهذيانات واستذكارات ووقائع كتبها شقيقها في المستشفى"، وهكذا وفرّت الطبيبة ميا للسارد الملك الظليّل كل المواد الأساسية للإنتاج السردي.