ادب وفن

"منعطف الرشيد".. تدوير السرد/ تضحية في غياب الوعي / مقداد مسعود

تبهجني ترسيمات السارد العليم لشخصيات "منعطف الرشيد": جميل عرجة، ستار عجينة، أحمد نعجة، فواز بن الخبازة، وسالم كتر: حامي حمى المواخير. وسهير الأيجة وفاتن الفاتنة/ الداهية. والشقاوة محمود الأعضب.
يغوص السارد العليم الروائي رياض المولى في نفايات العالم السفلي، كأنني أمام، ، الواقعية القذرة، ، التي من أعلامها الروائي الأمريكي بول أوستر.. يستوقفني رصد رياض المولى الدقيق للبراني/ الجواني بتوقيت التحرك الصباحي للحاج حافظ "حركة الشارع كانت هادئة نوعا ما في صباح ذلك اليوم الذي كان فيه الحاج حافظ راجعا من محلة الشيخ طه بعد أن تناول فطوره الدسم هناك" من هذه اللقطة البرانية المبأرة من عين كاميرا تقوم بمسح عام، يتراجع السرد نحو الجواني الموضوعي: غرفة الحاج حافظ ومنه للجواني الذاتي.. "نهض من نومه وهو يستشعر بطعم أكلة الباقلاء بالدهن في مكامن الاشتهاء لديه، تلك الحاسة الاستشعارية الخاصة التي تطورت لديه بشكل أقوى من الآخرين بفعل فرط الاتكاء عليها في حالات الجوع والاشتهاء، فينهض كل يوم وقد ترسخت بذهنه مفردات أكلة معينة تطبق على عقله كالمظلة فيزيحها من خلال تنفيذ ذلك الطلب على الفور، وهذا ماحصل له عندما كانت أكلة الباقلاء بالدهن قد أطبقت على جميع جوارحه وأحاسيسه فهب مهرولا إلى صديقه صاحب العربة وأقدم شخص يبيع الأكلة في محلة الشيخ طه لينسف صحنا كاملا منها مع جميع المطيبات والحوامض التي تمتلئ بها العربة" نلاحظ هنا دقة الغوص السردي في تلافيف النظام الفسلجي وانعكاساته الشرطية لدى الحاج حافظ. وعلى المستوى محلية التاريخ، يدس السرد معلومة حول الأكلة التي غدت علاماتية مبصومة ببائعها. ثم يغادر السرد الجواني ويستأنف الاشتغال على البراني، المستقوي بالجواني بعد الملء. "كعادته الصباحية الجميلة التي اتسم بها مروره على جميع معارفه من أصحاب المحال والبسطات في شارع الرشيد بدءا من جامع الحيدر خانة وانتهاء ببداية ساحة الميدان حيث يسلّم على هذا ويمازح ذاك ويجلس مع أستاذ غالب ليسمع آخر الأخبار والتحليلات السياسية فيستمع بإصغاء وكأنه تلميذ مواظب على حضور الدرس ويجلس بحضرة أستاذه وفي النهاية يدلى برأيه البسيط ويختتم القول بعبارة.. الله كريم".
(*)
أدخلُ فضاءين في "منعطف الرشيد": فندق السعادة والأمكنة التي يقصدها صاحب الفندق والنزلاء وفي كل الأمكنة سنجد كلمات مثل: رطوبة، مياه آسنة، طين أزرق لزج تنبعث منه رائحة خانقة،يتنقل السرد بخطوات هندسية مدروسة بين الشخصيات.
(*)
تعتني قراءتي المنتجة بشخصية جديدة بالنسبة لي في السرد العراقي أعني شخصية "وديع".. ولن تذكرني بشخصية الشاب شبه المعتوه "بنجي" أو بنجامين في رائعة وليم فوكنر "الصخب والعنف".. "ويل لوديع إذا لم تكن نكهة الشاي مضبوطة، فالفلقة موجودة والحزام الجلدي على أهبة الاستعداد".
العلاقة بين وديع والحاج حافظ هي علاقة العبد بسيده فوديع وقف الشرط المجتمعي كله ضده.. توفي والداه أثر حادث سير وتخلى عمه عن رعايته وقبيل سفره: وهبه للحاج حافظ! فاستعبدهُ الحاج وهو طفل صغير لتنظيف غرف الفندق وخدمة النزلاء، والذهاب لجلب وجبات طعام الحاج الثلاث من المطاعم التي يقررها الحاج.. طفل بلا أي رعاية عائلية وحاج لا تتوفر فيه أي صفة من الأبوة أو الرحمة سوى التنابز الذي جعله يطلق عليه "وديع الغبي، لأن وديعا كان بليد الذهن ثقيل الفهم فاغر فاه دائما.. مراهق يبلغ من العمر ستة عشر عاما،نحيل البنية، محدودب الظهر". السرد هنا يوّفر للقارئ صورة سردية لملامح وديع.. ثم يرسم صورة ً لأغوار ذاته.. فهل كان وديع بسبب يتمه وعوزه لدفء المنزل وغياب مَن يستقوي به.. هل كان يشعر بتدحرجه السيزيفي الذي صيّره عتبة ً تداس في الدخول/ الخروج؟ كما تملكته حركة مدورة واحدة: "يعمل مثل الحمار أو ثور يدور حول ناعور مغمض العينين ولا ينفذ سوى طلبات الحاج وبعض الزبائن" فهل هو وديع الغبي كما ينعته الحاج؟ أم هو وديع الصامت أغلب الأوقات؟! شعور العتبة المداسة جعله في منأى عن سعة بغداد وجنائنها وضجيجها الحيوي. حالة الانسحاق جعلته "يشعر بالدونية بأسوأ درجاتها" لم تتكون لديه شجاعة أو رغبة في تعلم الحياة، لم يجد مرآة يتمرى فيها سوى الحاج حافظ مالك فندق السعادة، عديم الضمير ومن هذا الكائن الممسوخ الذي يسمونه الحاج حافظ، اجترح "مخيلة قصيرة الأبعاد محدودة الزوايا أحادية اللون مقتصرة على مناظر أستاذه وهو يضاجع ضحاياه من مشردات الطريق ومتسولات في غرفته الخاصة، فكان يسرق النظر من فتحة الباب الضيقة".. وما يراه من ثقب الباب وما يسمعه من فاحش القول من نزلاء فاسدين مفسدين، سيقوم وديع بمساعدة غريزته بتدويره سرديا كمفرغ للمحتبس فيه.. "فيقوم بتشغيل ذاكرته المعطوبة لخزن تلك الكلمات ليحولها فيما بعد إلى فيلم سينمائي قصير يكون هو بطله ليمارس دوره في إفراغ سمومه في جسد الضحية الهائمة في حبه والتي تتوسله بأن يمتطيها كفرس جامح وهو فارسها الذي يمسك بلجام شعرها المتناثر في ثنايا الحلم الوردي".
وديع اسمه لا ينصره! أين الوداعة في حياة ميتة في الحياة وفي حياتها؟! وديع اشكالياته غياب التربية المنزلية التي تؤثل ذاكرة الفرد في عائلته واشكاليته بالنسبة لي كقارئ منتج، غير مقنعة من بعض الجوانب! ألا توجد جدة لوديع؟ عمة تحنو عليه؟ خالة ؟ أقارب؟ غير العم النذل الذي وهبه لصديقه الحاج حافظ؟ لقد وفرّ المؤلف رياض المولى كل أسباب القسوة على هشاشة وديع.. فالحاج حافظ كان يحسن البخل والبطش مع إنسان غير كامل الأهلية مثل وديع ويعتبره عالة عليه، والحاج يسلبه حتى "إكراميات" الزبائن !!
(*)
نلاحظ أن السارد العليم يتهم الحاج حافظ بإطلاق صفة الغبي على وديع، فأصبحت ملازمة له مثل ظله.. ثم يتواطأ السارد العليم مع الحاج حافظ، بعد هروب وديع من الفندق والعمل في معمل للنجارة وسوف تتغير معاملة الأسطة، أبو أحمد.. "فأصبح يعامله بحدة ويزجره ويوبخه أمام العمال الآخرين والسبب هو بطء استجابته لأوامر الأسطة وغباؤه الكبير وخموله أيضا! من جانب آخر أن وديعا لا يملأ فراغاته الليلية إلاّ برؤيته لنفسه "منتحلا صفة المهيمن على مقاليد العملية الجنسية مع جميلات يستمد صور وجوههن وأجسادهن من واقعه المعاش، وفي كل مرة يذهب فيها إلى السوق يراقب حركة النساء ويتفحص أجسادهن. وهكذا سيقوم بتدوير سرعة العين عبر مخياله المكبوت جنسيا.. لكن ليس بالطريقة هذه يكون الإشباع لابد من تحقيقها فعليا.. وهكذا سيقصد بيت الأسطة أبو أحمد ويجري ما يجري مع زوجته التي نجحت في التصدي.
(*)
الاستثناء الجميل في حياة وديع هو تلك الممرضة التي تعاملت معه بإنسانية فذة.. "لقد بدأ يشعر أنه إنسان حقيقي ولأول مرة في حياته، حياة جديدة بدأت تدب في جسده وروحه جعلته ينظر إلى الدنيا بمنظار آخر أقل قتامة وبؤسا وشقاء". لكن يبدو أن هذا الشعور السعيد، محض فاصل إعلاني في حياة منذورة للنحس، إذن على وديع التنقل بين قساوات الحياة العراقية: فقدان الوالدين، تنازل عمه عنه للحاج حافظ، بطش الحاج معه، خشونة تعامل الأسطة، أبو أحمد، الاعتداء بالسكين عليه في البتاويين. قسوة القائمين على دار الرعاية "فضلا عن المرشدين النفسيين والباحثين الاجتماعيين الذين لا يكترثون لمشاكل النزلاء فضلا عن رداءة الطعام وتكراره. شباب يدخنون ويقتنون صورا جنسية مأخوذة من مجلات فاضحة ولا يستبعد بممارستهم اللواط وعصابات وتكتلات".. إذن كيف يتحرك وديع البريء في هذا المستنقع الاجتماعي، ومَن يعين وديع على تربية الوعي لديه؟ مَن؟ في زمن الكواسر! وعلى ذمة السارد العليم "هو محتفظ بذكرياته وتجاربه المحدودة لنفسه".
(*)
وديع يلاحقه مصيره القاتم بالتوازي مع الأستاذ رافع الحالم بيوتوبيا لا يحسن تأثيلها في زمن فاشي بنسخته العربية! وسيلتقيان ثانية: المنحوس والحالم: وديع والأستاذ رافع. وديع الجندي في نقرة السلمان ورافع السجين الشيوعي ومن تلاقيهما سينبجس دم وديع، "تهلل وجه وديع حتى وضع الخبز جانبا واحتضنه وهو يصيح باسمه فصعق الجميع". لأن الأستاذ كان نزيلا في فندق السعادة حين كان وديع عاملا فيه، ولكن مَن يصدق وديع أو الاستاذ رافع في نقرة السلمان؟! وستكون تهمة وديع "من يتكلم مع معتقل يكون على شاكلته" وهكذا الوديع "انتهى به المطاف إلى نهاية مسدودة". بعد ثلاثة أيام من إصدار الحكم بحقه سيقف "قبالته ثلاثة من الجنود المسلحين على مسافة عشرة أمتار وجهوا فوهات بنادقهم نحوه.. لحظات قليلة حتى انطلقت رشقات متلاحقة بسرعة البرق اخترقت جسده الهزيل".
(*)
كلاهما من ضحايا الوعي ولكل ضحية طوقها الخاص وديع له إشكالية الثوب والجسد "فقدان شنيع لفصال ثوبه العمري حتى تلبّس بثوب آخر أقصر من كيانه ووجوده ومتطلباته فخرج هيكلا مشوها يحمل على أكتافه هموم الإنسانية وإفرازات الضياع ومخلفات التيه". إشكالية الأستاذ رافع أنّ زمنه الخاص/ الشخصي يطوقه بإحكام وهو بدوه يتشبث به، يقظته الأيديولوجية متأخرة وبتوقيت ساعة نحس عراقي.. "وهب نفسه للحزب الشيوعي، وقد انظم إلى صفوفه في فترة نهاية السبعينيات، عندما كان فك السلطة مفتوحا وهو يبتلع المعارضين والمناوئين إلى أحزاب أخرى غير البعث، وحمى الاعتقالات كانت أشدها". ومن أجل أن صيانة زهرة الرمان ينسجها مخطوطة ديالكتيك مدافعا عن حفدة فهد وسلام عادل، أما تشبثه الثاني فهو مسرحة حياته بالانتباذ عن الواقعي والتماهي في المسرحي المتجسد بالزي "يرتدي ملابس بسيطة تعود إلى فترة السبعينيات والثمانينات وقد اعرض عن مواكبة موضة العصر والتي عدها موضة سخيفة ومتحللة فآثر التشبث بالماضي من خلال ارتداء ملابس توحي بذلك وهو لم يكن متشبثا بالماضي من خلال الملابس وحسب بل من خلال المعتقد والتقاليد والأفكار".. لكن بعد سقوط الطاغية وهروبهم من نقرة السلمان سيصل المناضل رافع "وهو يرتدي ملابس جديدة".
(*)
تشتغل الرواية بفنية المتوازيات: تنهي مباراة جميل عرجة والحاج حافظ بالإفلاس المادي والذل المطلق. البريء وديع والقاتل القواد سالم كتر: يقتلان. فاتن ينتصر جمالها بالدهاء وسلمان ينتصر بسلوكه القويم والمناضل رافع لم يتعلم ديالكتيك الحياة.. شخصيا تحتفظ ذاكرتي بعذابات المظلوم وديع المهدور الدم مثل آلاف العراقيين.. وديع حياة متخثرة بين قوسيّ النحس/ الغدر.