ادب وفن

استذكارا لرحيله .. السياب مصباحٌ كئيب في سفينة باتجاه ليل طويل / قيس مجيد المولى

نشأة السياب ومكونات موجوداته الشعرية:
فقد السياب ارتباطه العائلي مبكراً ففي سن السابعة من عمره توفيت والدته، وقد كان قبل وفاتها يحظى بالرعاية والاهتمام والفخر شأنه شأن أي وليد بكر ليكون فك الارتباط هذا أول حيرة له في مواجهة المجهول والذي رسم الملامح الأولية التي ارتكزت عليها مقومات تكوينه الشعري إحساساً بوحشة الموت والظلمة والتي أمدت شعريته بطاقة الحزن التي غلف بها أغراضه العاطفية فيما بعد. ولكي تكتمل صورة الحزن بشكلها الشمولي وتتعمق تلك الدالات في نفسه فقد تزوج والده من امرأة أخرى واعتكف معها في منزل جديد لتتسع مساحة الرؤيا لهذا القدر والتفكير بكيفية قبوله والرضوخ إليه أو التخلص منه وقد تكفلت جدته برعايته ومحاولتها التعويض عن مأساته الأبوية ولكنه لم يجد في تلك المأساة غير الإدمان على النظر إلى الأفق البعيد ما بين التلال البعيدة وإلى حفحفة سعف النخيل في المساء انتظاراً للبعيدة والتي أخبروه بأنها ستعود وقد علم بأنها لن تعود، ومحاولة للتخلص من إطار اللا عودة والذي اختطه الآخرون حوله وجد في علاقاته الجديدة بالطبيعة مورداً في بعديها الزماني والمكاني فالمكان هنا قريته جيكور التي تقع على شط العرب ذات البراءة الخلاقة ببساتينها وأرضها الخضراء وجداولها الإروائية الصغيرة وطبيعة ساكنيها التي لا يتجاوز تعدادهم عن "750" نسمه وبعض بيوتها ذات الإشكال الأسطورية حيث ألف السياب أقرانه في هذه الفترة وكانوا يلهون قرب البيت المسحور والذي سمي في قصائد السياب بـ "منزل الأقنان" ويأملون أن يروا الأشباح في هذه الدار الواسعة انسجاماً مع قصص أجدادهم التي كانوا يستمعون إليها عن هذه الكائنات ليتكون أول ضوء في مخيلته عن الرمز والأسطورة وهو المكون الثاني لقدراته الشعرية لتبدأ ذاكرة بدر وفي سنه المبكرة بحسن التقاط الموجودات الغيبية وإحالتها إلى مراكز التخييل لتستقر في الذاكرة الثانية ذاكرة الإنتاج لا ذاكرة الحفظ والإعادة وكان ذلك التوقد قد اكتمل حين التحق بالمدرسة المحمودية والتي أضاف المكان فيها إليه بعض التجديدات الأصيلة في البناء العمراني وهو يتابع بفرح ونشوة وتأمل شناشيل ذلك البيت الواسع وزجاجه الملون البراق والذي يعود إلى عائلة الجلبي وأخذ خياله يصور له فتاة أحلامه خلف تلك الشناشيل والتي أتى على ذكرها برقة شفافية زجاجها الملون في مجموعته "شناشيل ابنة الجلبي" ثم أضيفت إلى تلك المكونات مكون آخر حين أخذ ينظم الشعر باللهجة العامية باللغة المتداولة والشائعة والمحكية في جنوب العراق وقد حاول السياب من خلال تلك اللغة العامية تسخيرها للتعبير عن حزنه بالسخرية وقد ذكر بعض الملازمين لبدر أن بعض أساتذته نصحوه بالتوقف عن الكتابة بهذا الشكل واكتشفوا مقدرته في كتابة الشعر الفصيح ولعل من أهم المكونات الأخرى التي بلورت تحسسه الشعري هو إحساسه بالظلم والاستغلال والجشع كحقيقة قائمه حين فقدت عائلته أغلب أملاكها بسبب جشع ملاك الأراضي اتجاه الطبقة الوسطي من ذوي الملكيات المحدودة وقد اشترك جيله من الشعراء في الإحساس بالظلم وغياب العدالة ولعله أقرب إلى نازك الملائكة بهذا الإحساس من أنهما كانا يشعران بغياب الإنصاف وغياب المجتمع المثالي الذي كانا ينشدانه تحقيقا للمثل العليا مما تركت تلك الاختلافات بين ما يراه في الواقع وما يشعر به ويريد تحقيقه أثرا عميقا في نقص وجدانية بعض البشر وإلى جانب ذلك أضيف عامل آخر له أهمية في حياة بدر الشخصية ومكونه الشعري ألا وهو شعوره باللا مقبولية من الجنس الآخر لاعتقاده بقبح منظره إذ أضاف له هذا الاعتقاد تعقيدا لحياته العاطفية حيث ظهر ذلك في العديد من قصائده التي شكي بها اللوعة والانتظار واللا جدوي من الحب الموعود وفي عام 1943 بدأ رحلته نحو الغربة الجديدة والتي عمقت تكوينه الشعري بدالات نفسية ومعرفية ولغوية حين ارتحل إلى العاصمة بغداد لإكمال دراسته الثانوية ومن خلال تلك المدينة التي حفرت أخدودا خاصا لها في تاريخ المدن بدأ مرحلة الكشف عن قدراته الشعرية في معاينة مع شعراء بغداد فأحسن بعلاقته معهم وكشف مكان بغداد عن سحره في ذاته وعرف ما تعنيه متعة المدن وقد تعرف واطلع على ما يكتب الآخرون فوجد في نفسه ثقة مضافة بأنه يكتب ما يضاهي الآخرين وأحيانا يتفوق علىهم حيث نشرت أول قصيدة له في جريدة الاتحاد البغدادية وقد جمعته علاقة حميمه مع شعراء تلك المرحلة ولكنها لم تخل من ضغينة الحسد الشعري والاستعلائية ومنهم "بلند الحيدري، البياتي، سليمان العيسي، رشيد ياسين" وخلال وجوده في بغداد مر بتجارب حب فاشلة ليعمق ذلك الفشل خوفه من أذنيه الطويلتين وجسده النحيف ووجهه الطولي ليأخذ هذا المكون النفسي الآخر بعده في قصائد متعددة كتبها في تلك المرحلة وفي عام 1947 أصدر مجموعته الشعرية "أزهار ذابلة" ووسط أجواء الدعوة إلى الحداثة والتي عمت أوربا وبالتحديد الشعر الفرنسي فقد وجد السياب أن لا مناص من الاطلاع على تجارب شعراء الغرب وكان له من خلال دراسته اللغة الإنكليزية شانه بذلك شأن نازك الملائكة فقرأ "وددزورث، شيلي، إليوت، أديث ستويل" وقارن بينهما ودافع عن توجهاتهما الشعرية واقترب من مفاهيمهما حول نظرية الشعر ولكنه سرعان ما وجد "في بودلير" ضالته حين اكتشف في "أزهار الشر" ما يؤدي إلى تحرره والولوج إلى العالم الفسيح وأطمأن إلى أن مكوناته أصبحت تفي بأكثر من الغرض المطلوب وقد ظل هذا المكون لصيقا ببدر من أنه قد استفاد حد التأثر بتجربة هؤلاء الشعرية في حين رأى آخرون بأن قدراته في اللغة الإنكليزية كانت محدودة ولم تكن تؤهله لمعرفة واستكشاف عوالم هؤلاء الشعراء.
ومع الاضطراب السياسي في العراق فصل من كليته وسجن عام 1946 وأطلق سراحه ثم أعيد سجنه ثم أطلق سراحه وأكمل دراسته في دار المعلمين العائلية والتي كانت التجمع الوحيد للشعراء والمثقفين ثم انتقل مكانيا إلى بيئة جديدة تختلف عن بيئته الأولي "البصرة" وعن بيئته الثانية الحضرية "بغداد" حين عين مدرسا لمادة اللغة الإنكليزية في مدينة الرمادي ذات الأرض الرملية والالتزام الديني والأفق المفتوح وهي نقلة مكانية إجبارية من أجل لقمة العيش وبداية لحياته العملية وهناك أمضي وقته في القراءة وكتابة الشعر وكان ينشر ما يكتبه في الصحف البغدادية ولم ينقطع عن زملائه الشعراء سواء في متابعة نتاجاتهم أو مراسلتهم أو اللقاء بهم من حين الى آخر ولكن الأقدار كانت لحياته العملية بالمرصاد حين سجن وفصل من وظيفته عام 1949 ومنع من التدريس نهائيا، وبعد الإفراج عنه وقع في دائرة العوز المادي والعوز المكاني في بغداد ليعود إلى مقامه الأول إلى "جيكور" ويبحث عن أي عمل يعينه خارج اختصاصه وذوقه مقتنعا بأي نوع من العمل الذي يناسب حجم شهادته من أجل البقاء فوق الأرض بمواجهة الجوع والتشرد والبطالة ليقبل بالعمل في البدء في شركة التمور ثم كاتبا بسيطا في شركة نفط البصرة ولقد أجمع من كتب عن بدر بأنه كان يعاني الضائقتين الاقتصادية والصحية لعدم وجود توازن ما بين كفاءته وعمله ومنهجه وجنوحه اللامحدود نحو الشعر ولم يطل مكوثه في البصرة ليعود بعد عام إلى بغداد ويحدث له تحول شعري مهم حين أصدر عام 1950 ديوانه الشعري "أساطير" حيث كتب في مقدمته مفهومه للشعر الجديد والذي كانت لمكوناته التي ذكرناها أثرها في تنظيره لهذا المفهوم وقبلها كانت مسألة الريادة ما بينه وبين نازك وأيهما أسبق بما عرف بالشعر الحر وهو أي الشعر الحر المصطلح الأمريكي الذي أوجده "والت ويتمان" عام 1855 وذلك عندما كتب هذا الشاعر مقدمة لمجموعته "أوراق العشب" حين قدم في تلك المجموعة قصائد تخلو من الوزن والقافية لكنها مشحونة بطاقة شعرية عالية حيث تركت مسألة هذه الريادة الى النقاد والباحثين ومنذ العام 1947 وعبر قصيدتيهما هل كان حبا للسياب، والكوليرا لنازك. واتجه السياب بعد "أساطير" إلى كتابة القصيدة الطويلة "المطولات" والتي رأي فيا مجالا حيويا لا يقيده في قول ما يريد حين أفرغ فيها همه الاجتماعي والفلسفي والأسطوري ملطفا أدواته المعرفية بآلته الجمالية بهندسة مثيرة للقبول والجدل، ولعل قصيدتا "المومس العمياء وحفار القبور" هما من الأنماط الشعرية التي استطاعت استيعاب ذلك الهم الذي حمله الشاعر منذ بواكير طفولته كصرخة في وجه العالم النفعي الفاسد ولا بد لنا عند دراستنا استخدام السياب الأسطورة في شعره بأنه وضع الأسطورة في قصائده وضعا جاهزا دون تفكيكها من الكل إلى الجزء ولم يسع الى تحريرها إلى مديات أوسع وهذا ما لا نعلم سببه حتى الآن رغم مكوناته الأسطورية عند منزل الأقنان.
رحيل آخر أم فرار؟
وعلى أثر اضطراب الأوضاع في العراق عام 1952 وحملة الاعتقالات التي قامت بها السلطات الملكية للقوى الوطنية وخشيته من الملاحقة بعد اعتقال العديد من الوطنيين العراقيين وزجهم في السجون فقد استكمل دورته في التشرد والغربة وانقطاع لقمة العيش وفضل الهروب خارج العراق متوجها في البدء إلى إيران وبجواز سفر مزور ليصل الى إيران ومنها يتجه إلى الكويت وبالتأكيد فان رحلته هذه أو بالأحرى فراره هذا لم يكن هيناً وخاليا من المخاطر، وقد دون معاناته في هذه الرحلة في قصيدته "فرار". وهناك في الكويت أثرى ما كتب برائعته "غريب على الخليج" وهذه القصيدة تصوير دقيق للواعج النفس والحنين إلى الوطن ومعاناة الفراق لتكون من البكائيات النادرة إزاء رغبة الغربة بتقهقر الإنسان ومحاولة إخضاعه الى الأمر اللا مجدي في ذلك الواقع.
وتتوالى همومه ويشتد مرضه ويبذل جهداً للمقاومة بعد عجز الأطباء عن تشخيص مرضه وهو في لندن بعد قبوله الدراسة في جامعة "دوم" وفي نفس العام 1952 تصدر له في بيروت مجموعته الشعرية "منزل الأقنان" ليعود إلى داره شبه مقعدٍ ويفصل من الوظيفة وهذه المرة بسبب انتهاء إجازاته المرضية ليستمر في ملازمة الدار راقدا بلا حراك وبسبب ذلك الرقود الطويل أصيب جسده بالتقرح. وكان وهو في فراشه ينشد "سفر أيوب" وقد اشتدت عليه الآلام بدرجة لا تطاق ومعها وافق على علاجه بالطب الشعبي "الكي بالنار" لأطرافه المشلولة وقبل العلاج الروحاني والذي أفاده لبعض الوقت ليعود إلى أحضان آلامه. وفي أواخر أيامه نقل إلى الكويت للمعالجة بوساطة صديقه الشاعر على السبتي وانقطع عن أي مصدر للرزق ولم ينقطع عنه أصدقاؤه الشعراء ومحبوه وهو ملقى على سرير الاقتراب من لحظة الموت ليتوفى في 24 كانون الاول 1964 في المستشفى الأميري بالكويت ويعود السبتي بجثمانه ليدفن في مقبرة الحسن البصري.
كانت حياة بدر شاكر السياب الشخصية ذلك المصباح الكئيب في سفينة ليختفي في ظلمة الليل قليلا فقليلا كما وصف ذلك هو نفسه في غريب على الخليج أو كأنه ذلك السراب خلف بقايا من القافلة.