ادب وفن

"أحلام مبللة".. ﻻ تعرف سوى الماء / عصام كاظم جري

الحياة بكامل أوصافها وصورها الطبيعية وتشكلاتها التاريخية والجغرافية هي موجودات/ أشياء محيطة ببعضها البعض ولهذا التجاور قيمة ﻻ احد ينكر محتواها وفحواها في تشكل عنصر مهم في الوجود ونتاج في العمل اﻻبداعي. ولكل بيئة خصوصية وجمال يحيط بها وكذلك هم وثقل وعبء وتساؤﻻت فائضة ولهذه الخصوصيات تأثير مستمر ﻻ نهاية له أبدا. تأثير قائم مع قيام حياة الإنسان فهو الوحيد الذي يستطيع ان يوظف هذا الحركة الثرة في عمله اﻻبداعي كنتاج معرفي يؤسس منها مفهوماً للكتابة عن هذا العالم، عالم الموجودات والطبيعة.. والكتابة هنا معالجة وهذه المعالجة تضيء النص دائما لأنه ابداع. وللشاعر عالم وخيال خاص به يسيطر عليه ويفوق فرائض الحياة التي تحاول ان تسيطر عليه وهو دائم الخروج عن هذه اليوميات وتبقى لدية الفنطازيا مشروعا كحلم. لهذا اخذ الشاعر يربط الخاص بالثقافي العام من اجل اضاءة نصوصه/ مشروعه. وبالتالي يتشكل لديه مساحات من البحث والتأويل والقراءة واﻻستنتاجات.
في ديوان "أحلام مبللة"، المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر جابر محمد جابر، يوظف الشاعر مفهوم الطبيعة "الماء" كعلامة واشارة وخاصية ابداعية وجمالية متفردة، بدءا من الدال الرئيس للمجموعة الشعرية المعنونة بـ "أحلام مبللة"، مرورا بمتن قصائد المجموعة، ولعل فكرة الماء وثيمتها قد طرحت كثيرا من بعض الشعراء وتناولها النقد والنقاد ايضا بصورة كثيرة. فبحسب الناقد جاسم عاصي "يبدو ان النهر والبئر وبقية مصادر المياه وكذلك عناصر الطبيعة كاﻻشجار شكلت روافد غنية لإشباع حاجات المبدع للتعبير وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بعالم الطفولة التي خلقت الفة بين الشخصية والمكان فالكاتب يستنهض هذا الخفي من الأحاسيس والرؤى والمشاهدات المخزونة في عقله الباطن ويعطيها مؤشرات جديدة طقسية مرتبطة بالميثولوجيا واﻻساطير والحكايات والشعيرات الأخرى التي استنبتها العقل البشري وسط بيانات مفعمة وغنية بالرمز الدالة استطاع المنتج خلالها ان يؤسس معقوﻻت ومعتقدات ارتبطت بالموروث الشعبي واﻻسطوري الذي زخرت به بيئة الريف والمدن ذات الطابع الريفي".
الشاعر جابر محمد جابر ابن المدن الجنوبية القريبة من الريف. مدن ايوب السومري/ مدن السندباد/ النهر/ الشط / الخرافة / الشعائر .... الخ، لهذا استطاع الشاعر توظيف فكرة الماء لكتابة ديوانه. فالأحلام: ماء عند الشاعر ماء غير منقطع وربما لهذا البلل: نهر / جدول / نبع ... الخ ولو نقرأ ما كتبه الشاعر والناقد خزعل الماجدي في كتابه العقل الشعري الكتاب الأول نجد "قد قال طاليس ان الماء هو أصل كل شيء وترك وراءه كل خرافة مرتبطة بالآلهة واﻻساطير ترك اله الماء ونظر عقليا في فكرة الماء و ﻻ تنبع اهمية هذا الحادث في القول بان اصل اﻻشياء هو الماء ﻻن ذلك ورد كثيرا في اساطير الخلق العراقية والمصرية القديمة وغيرها ولكن اﻻهمية تكمن في اثارة سؤال عقلي عن اصل اﻻشياء".
هنا نجد دﻻلة الماء عند الشاعر جابر محمد جابر تثير شجونه ونوازعه الذاتية والوجدانية والغنائية: الشباك/ اﻻسماك/ الصيادون/ الزوارق/ الشواطئ/ الضفاف/ النهر/ السفن/ الطيور المهاجرة / النوارس / المطر / اﻻشرعة / الشمبلان / المراكب/ الصديق البربري / اللون اﻻزرق / ناصية النهر / الجداول / صباح معطر بالغيوم / الينابيع / قطرة مطر / الشماشير ....... الخ
نقرأ من قصيدة نوافذ:
الطيور
تغرس اجنحتها
وتخبئ فرحها لشتاء قديم .
ونقرأ من قصيدة "تجنبا ﻻلتباس ممكن":
القرويون
بنوا بيوتهم
على انقاض اشرعة الماء
منذ القديم
رسموا اﻻنهار على جباههم
اذا الشاعر هنا ﻻ يعرف غير الماء ملاذا ملازما لذاته ووجدانه ونجد في مجموعته ايضا: يباس / ظما / ضفاف / مرافئ / جفاف ......الخ وهذه اشارة اخرى للماء/ غياب الماء. ولهذا الغياب اثر حيث يثير نوازعه مرة اخرى في رفوف: الوجود / اللاوجود. غياب / حضور... هذه الثنائية يبحث عنها الشاعر ويعيد سؤاله اﻻزلي الدائم والمستمر.
ان البيئة على مر السنوات التي مرت كانت شاهدا على رونقها وجمالها عند الشعراء كونها المصدر الرئيس والذي تختلف فيه الصور والحكايات والروايات والقصص . انها المكان الذي يصلح للتخييل الشاعري و وﻻدة الكلمات. وللشاعر فيها سؤال لن ينقطع. فهو يبدا بها بالفن الذي يؤدي وظيفة ويشير الى التفاتات مهمة وتاريخية. الماء يصلح ان يكون مادة/ موضوع لديوان " أحلام مبللة". ونحج الشاعر في توظيف الماء بصور شعرية جميلة وببلاغات فنية بديعة اسهمت في رسم تجربته اﻻبداعية.