ادب وفن

ابراهيم الخياط.. الذات الشاعرة وذاته المضمخة بالتجربة / وجدان عبدالعزيز

الشاعر ابراهيم الخياط لم يكن شاعرا فحسب، انما كان عازفا لحكمة الحياة على اوتار الحلم، بيد انه يمسك اوتارها مخافة ان تميد به في شطحاتها الخيالية، قد يعيش لحظات الشعر، يتنعم في اجواء الخيال، ثم سرعان ما يؤوب الى رشده الواقعي، فالشعر عنده التماع الفكرة وليس الفكرة ذاتها.
تقول الكاتبة حمدة خميس: "بلى أقول.. الشعر شفاء من جميع أمراض النسيان والفناء! الشاعرية أعني، لا الكتابة، لا القصيدة. الكتابة وسيلة والقصيدة رداء. الشاعرية مبتغى الكتابة والقصيدة، الكلمات والرداء. الشاعرية عافية الكون والإنسان وكنز الطبيعة. أقول الشاعرية وأعني بهاء الحياة، إشراقها، عمقها، سرها، لذتها، ضياءها، تفتحها، طلاقتها، صعودها المتعالي"، وهكذا الشاعر الخياط يتنعم والشاعرية في ديباج الكلمات.
بيد انه استلّ منها اوجاع الحياة في قصيدته "في الحرب الطويلة" ليثبت لنا ان "الشعر ليس عملاً ذاتياً محضاً، ولا يمكن، من ثم، وضعه خارج الواقع والتاريخ.. وكونه إنتاجاً شخصياً بالدرجة الأولى لا ينأى به عن اشتراطات الواقع والتاريخ والمؤتمرات الاجتماعية والإنسانية... والواقعية عموماً. هذا إذا لم ننس أن منتج النص الشعري نفسه يتأثر بما يكوّن شخصيته من عوامل ومحددات واشتراطات: فيزيولوجية واجتماعية واقتصادية ونفسية وأخلاقية وسياسية وأيديولوجية.... أي إن الشاعر محكوم بمؤثرات قادمة من خارجه، وعى ذلك أو لم يع"، وهذا ما اشار اليه الناقد محمد راتب الحلاق.
لهذا نجد ان الخياط، قد عاش واقع الحرب بكل مراراتها، فمن العنونة خلق أيقونة الوجع "الحرب"، واعطاها صفة الطويلة، ليجعل من الوجع اكثر ايلاما، ثم ان هذه الأيقونة تنفتح في المتن عن استيطان الوجع برتابة حياة الحرب، ورغم وجع أيقونة العنونة والطريق النحس بعقوبة ـ النهضة ـ الارض الحرام وصفة الطول، الا ان هذا "الفتى الخاكي الخجول/ لم يخف/ ولم يحزن/ ولم يمت"، والشاعر الخياط هنا، قد كشف ان هذا الفتى ملك سرّ الليل، فخلق بذلك سؤالا: لماذا سرّ الليل، وما هو سرّ الليل؟؟ ‏هل ان الحرب علمته على الكتمان والعمل بعيدا عن الاضواء، ام انه يعاني نفسيا فينطوي على نفسه ويكتم ما فيها؟ والحرب كما نعرف لها آثارها النفسية المختلفة باختلاف الاشخاص، وتختلف آثار الصدمة النفسية الناجمة عن هذه الحرب وفقاً لفئتين من الأشخاص، تشمل الأولى الأشخاص الذين عاشوا تجربة سابقة أو مشابهة، والثانية الأشخاص الذين لم يتعرضوا الى تجربة كهذه.
بالتالي فان تكرار التجربة لدى من خَبِرها قد تؤدي به إلى تحطيم الأمل والثقة بإمكانية الحصول على الأمن من جديد، كما يجد هذا الشخص نفسه غير قادر على إيجاد التفسير لما يجري حوله، فتكرار التجربة يعيد إحياء الصدمة الأولى إضافةً الى المعاناة التي يعيشها في حاضره، أي الصدمة الجديدة، فيكون التفكير الذاتي والرضا بالقليل من المطالب المهمة له، والتي يختفي بعدها الإبداع والتطور الفكري لديه، فتكون همومه معلقه بكيفية العيش في هذه الحياة المتوترة المليئة بالمتناقضات المسببة للصراعات النفسية بين الإقدام والإحجام، مولدة لديه ضعف القدرة على الفعل، الا ان فتى الشاعر الخياط الخاكي "لم يخف/ ولم يحزن/ ولم يمت"، وهذا يجعلنا على يقين ان ذات الخياط حاكت ذات النص بتوجيه من تجربته، لتثبت عكس ما كنّا نتوقعه من سلوكيات الفتى الخاكي، "من هنا كان الشعر اعمق انهماكات الانسان واكثرها اصالة، لأنه اكثرها براءة وفطرية والتصاقا بدخائل النفس. ومن هنا، كان الشعر وسيلة حوار أولى بين الأنا والآخر، ووسيلة ايصال أولى. فهو، لانغراسه في اعماق الانسان، فعّال، وملزم، انه حميّا تسري في الانسان وتسري، ومن ثم عبر سلوكه ومواقفه وافكاره ومشاعره، في الحياة والواقع". حسب ادونيس في كتابه مقدمة للشعر العربي، أو كما أشار الناقد عبد الواسع الحميري بقوله: "ذات الشاعر هي حقيقة الشاعر، هويته الشخصية، ما به يكون الشاعر ذاته أي شاعرا بعينه، وليس أي شاعر، أي مقومات وجوده الواقعي أو الموضوعي، بوصفه "إنسانا + متميزا" أو "موهوبا" أو بوصفه "كائنا اجتماعيا" تنهض فيه إمكانية التفرد".
لذا، فالذات الشاعرة تعني ذات النص أو ذواته، والتي تتجاور مع ذات منشئ النص، وان ذات الشاعر هي هويته الشخصية، اما التعبير عبر الضمير او عبر القناع عن الذوات الاخرى الكامنة في النص، فهي تمثل ابداع الشاعر، وهنا تبدأ الجدلية المفتوحة والمركبة من الداخل والخارج، اي من ذات الشاعر وذات الشعر في انفتاحهما بعضهما على بعض، وجدلهما بعضهما مع بعض، لكن تضاف الى ذات الشاعر تجربته في توجيهاته لذوات النص، وبالتالي خلق حوار منفتح مشروط بحرية التحرك، فالانفتاح والحرية يخلقان عدة مواقف موجهة بإمكانية الايحاء والترميز.. فكانت هوية الشاعر الخياط واضحة الملامح، وأكدها من خلال مواقفه عبر هذا النص القصير، الذي أخرج الفتى الخاكي من سلوكيات مظلمة الى سلوكيات منفتحة على الحياة.