ادب وفن

عبد الودود عيسى المحامي في روايته "شمخي" / مقداد مسعود

الامتنان واجب ..لو لا صديقي الشاعر والقاص والخطاط فرات صالح العلي ، لما عرفت ُ عن المحامي عبد الودود عيسى أي شيء عن روايتيّ "مذكرات مسلول" و"شمخي" للروائي البصري العراقي عبد الودود العيسى ، فالصديق فرات وحده من أتاح لي قراءة الروايتين وأحتمل استعارتي لهما فترة قاربت السنة. أطلعت ُ على روايتين بصريتين جديرتين بالدراسة النقدية: "مذكرات مسلول" صدرت في 1953و"شمخي" عام 1969ومن خلال قراءتي وتجربتي في القراءة المنتجة: شعرت أنني أمام مؤلف يمتلك مثنوية توعوية: فهو يمتلك:
* تجربة حياة ثرة
* تجارب في القراءة الروائية
ان مثل هذه الأعمال الروائية تستحق الاهتمام النقدي وإعادة طبعها فهي ضمن الخطوات ما بعد خطوة الريادة العراقية.
(*)
تدور أغلب أحداث رواية "شمخي" في الأهوار وتنتهي مع فشل حركة رشيد عالي الكيلاني. قراءة الرواية تؤكد المام المؤلف بالمكان المائي وبطبائع الناس فيه. يرسم صورا دقيقة لمعالم المكان وللمتغير البطيء الذي يحدث على الشخوص.. البطء لا يقلل من أهمية المتغيرات بل يحدث خلخلة تدريجية في بنية المجتمع الريفي الراكد.
(*)
تقنية السرد تتوزع بين ثلاثة أصوات
* السارد العليم من الصفحة الأولى في الرواية حتى الثلث الثالث من الصفحة الثانية
* ضمير المتكلم المشارك بصوغ الحدث ، أعني شمخي
* السارد الأستاذ إحسان في فصل (لهو) فهو سيروي حكايات من الهور أثناء وجوده معلما فيه
* مجلس لهو
* عيسى
* أرض ودماء
* سرقة
* ذبح
* يعود السارد العليم في "المقاومة" وهو الفصل الأخير في الرواية
(*)
شخوص الرواية كالتالي
* جاسمية :
* شمخي
* الشيخ
* حاتم القتيل
* جاسم القاتل
* الملا
(*)
* الأستاذ إحسان بؤرة الوعي الشيوعي في الريف ويكرس السرد مفاصل تخص الأستاذ.. وهناك الخوف الطبقي هو الاتصالية الأقوى بين الاقطاعي الشيخ وبين الوعي الثوري المتمثل بأستاذ إحسان "لقد ضاق الشيخ ذرعا بإحسان وزملائه وطلابه فقد بلغه عنه انه يحدث زملائه عن مرض الفلاح وجهله وفقره وعرائه وحرمانه واجهاده وقد بلغه ان زملاء إحسان يستمعون له ويحسنون الاستماع وانه قد تسرب جزء غير هين من ذلك القول منه ومنهم الى تلامذتهم، فقد هرب كثير من الشبان من الأرض ولجأوا الى المدن ، كسبا للقوت، وضمانا للعيش، ومن كان يتهرب من الجيش، قد عاد إليه اليوم عن رضاء وقبول لقوانينه وأنظمته حتى شعر الشيخ بقلة الأيدي العاملة وهو يتحسس الخطر المحدق الذي ينتج عن هروب الفلاحين من الأرض".
نلاحظ في كل هذه المسردة، نوعا من التعميم للمتغيرات.. ثم ينتقل السارد الى التخصيص وإشهار السبب الرئيس لكل ما يجري: من حراثة وعي في هذه المسطحات المائية الموغلة في الريف "وقد سمع الشيخ فيما سمع بأن الشيوعيين منبثون في جميع انحاء البلاد، وانهم يؤلبون الفلاح على الشيخ والحكومة، وانهم ينادون برفع مستوى الفلاح ثقافيا وصحيا وهو يخشى ان يصلوا به الى مرتبة الشيخ نفوذا". وسيكون الحل هو إغراق المدرسة ويقوم الملا بأمر من الشيخ بتبليغ إحسان بالرحيل ..بعدها سينقل أستاذ إحسان إلى القضاء..
(*)
الإشكالية الأساس في الرواية من ناحية الوعي هي: اشكالية الفلاح شمخي الذي هو منّضد اجتماعيا ضمن طبقة الشيخ فهو أحد الحوشية الذائدين عن الشيخ الآكلين من فتات مائدته، هذا الحوشي تسرب أو أستطاع استاذ إحسان من تسريب الوعي الثوري له وهكذا توصل إحسان إلى حراثة الماء الآجن وتخليص شمخي من هذا الماء من خلال إيقاد جمر الوعي الثوري فيه وبشهادة السارد العليم. "ولكن هذا الوعي الذي تسرب الى النفوس البسيطة كنفس شمخي لا يدفعها الى ثورة تحطم وعنف يهدم، ولأتعرض لنشر بوادر الهلكة، وانما يبذر فيها هذا الشعور بالإجحاف والتحسس بحرمان لم تنبته الأرض، وانما صنعته يد انسان قد استعبده ولاقدرة له على مقاومته، ويأبى الانصياع له فيهرب من قربه، ويهجر أرضه الى المدن".. لكن هذه الاشكالية بمرور الوقت سيحسمها شمخي شخصيا.. "لست أملك أرضا ولم امنح في يوم من الأيام ثمرة جهدي ولم يمنح ابي ثمرة جهده وان كنت لقيت استاذا كإحسان كان الخير كله فلم الق بعده سواه وقد القاه والقي امثاله في المدن ممن يفكرون في الخير ويعملون لخير الجميع . فما مقامي هنا ولابد من رحيل".
(*)
وهناك المتغيرات التالية:
تبدأ الرواية بلقطة مبأرة أنثويا ريفيا مائيا في تلك الأقاصي المتلحفة بالأخضر وبقساوة العيش وبالدور الأساس لفاعلية المرأة في تدجين القسوة فالمرأة هي التي تحتطب وعليها السقاية والحصاد وتجمع العشب والحشيش للحيوان وهي وحدها مَن يقوّت العائلة بخبز تنور الطين أو تعد للعائلة (سياحه ) .. "رصاعه"، "طابكه" لا يعيقها أن تكون في الأيام الأخيرة من حملها .. "متى كان الحمل عائقا من العمل".
(*)
تلاحظ قراءتي: توزيعا خاصا نسبيا للساردين في الرواية، فالسارد العليم وهو يضيئ المشهد بمسح عام في الصفحة الأولى من الرواية ثم يختفي في الثلث الأول من الصفحة الثانية ليحل محله ضمير المتكلم للوليد الذي نزل من رحم أمه الفلاحة للتو .. "وهكذا غادرت بطن أمي المظلم الى عالم حسبته النور والحياة ولم تتلقني الحياة الا بأطمار وخرق وقد كنت في عالم من دفء وغذاء وسألقى البرد والجوع".. ثم يستمر الوليد في مسردة قصيرة لسيرته وأوجاعها. قد ينط علينا القارئ المتعالم المعاصر ويهزأ من السارد الطفل ، لكن وراء هذا السارد .سارد محذوف قصدا هو الأم فأمهاتنا حين نكبر ونشتاق طفولتنا ونسألها سوف تسرد لنا حتى يوم ولادتنا.. سيقوم هذا السارد بتقديم وجيز سيرته لنا ومراحلها الريفية ومايلازمها من موتيفات.
* تحملني أمي دوما بكيس على ظهرها مع احمالها التي تكدس فوق رأسها وبين يديها أنى تذهب.
* حتى إذا ما فطمت وشببت قائما ودرجت على رجلي وشاركت ابناء الحي العابهم وقفزهم ورعيهم وسباحتهم والسعي مع الجاموس بين البردي في الهور اسبح ما قدرت على اجتيازه سباحة ، أعلو ظهر جاموسة من القطيع، تقطع بي الهور الى احدى هذه الجزر التي ينمو عليها البردي والقصب .اكون معها كيفما تنفلت ارضع من اخلافها ان استشعر الجوع والا ففي اعقاب البردي وعروقه جمار لذيذ مغذ يتسابق الاطفال كتسابق الرجال على الحصول عليه والتمتع بترفه وليونته.
* ولما أبلغ بعد مبلغ الرجال حتى أهب عباءة تستر جسدي
* ولما يشتد ساعدي بعد فأحمل "الفالة" معي سلاحاً ادفع بها الاعتداء وشصا اصطاد به السمك..
ويستمر السارد في فهرست حياته الفقيرة والمفارقة لحياة المترفين من أولاد الشيوخ ..
نلاحظ في حيز من الرواية وظيفة مناصة للمرقمة -1- والمعنونة "جوار الشيخ" فنحن سنعرف لذلك الطفل السارد اسما وهو الفتى "شمخي".. سيذهبان هو وأبوه لمضيف الشيخ واسم الفتى هو ثريا الرواية أيضا..
(*)
هل الرواية هي سيرة شمخي؟
تسهب الرواية في توصيف الأمكنة فالخطاب الروائي موجه للمدينة التي لاتعرف خصوصيات الريف لذا فالسارد العليم يسهب في وصف الأمكنة الاجتماعية المضائف وأنواعها واختلافها ضمن التراتبية الريفية فمضيف الشيخ.
ويستمر شمخي كسارد حتى منتصف المسافة الروائية وهو يوّضح كل معالم الريف المائي بمسطحاته المائية ليس لمن حوله بل لمن لا يعرف عن هذا الفضاء أي شيء فيغلب التوصيف على السرد وكأنني أقرأ ما يكتبه اصحاب الرحلات عن المكان الذي يقصدونه أول مرة وسنعرف المتغيرات الاجتماعية الطارئة بالنسبة لشمخي وعائلته حين ينتقل للسكن بمحاذاة بيت الشيخ وبيت الملا وبناية المدرسة الريفية .سيكون المتغير الاجتماعية من داخل البيت من توسع المطبخ وقدور الطبخ، "اضافة الى بضعة أوان خزفية أو من هذا المعدن الفضي اللون مما يحمل الباعة الى الاسلاف يقايضون بالشلب أو يبيعون بالدراهم، لأن دخل زوجها قد زاد فقد كان يعطي مائة كيلة وهو هنا يعطي ثلاث مائة كيلة يضاف إلى ذلك ما تفضل به الشيخ من جاموسة". وهنا علاماتية الرفاه الاقتصادي الأسري الخاص بشمخي
أعني التركيز على سعة المطبخ = سعة الرزق. يلي ذلك التحضر من خلال أوعية المطبخ ..
(*)
نلاحظ ان حركية السرد منشغلة بمسح دقيق لتفاصيل المكان. أكثر من انشغالها بالمتغيرات على الذات الإنسانية للشخوص ثم سيكون المتغير على يد المعلم إحسان الذي غرس جمرة الوعي لدى التلميذ شمخي.
(*)
مقتل حاتم ابن الشيخ على يد أخيه جاسم وستسجل الجريمة تحت عنوان "اطلق سراحه لعدم توفر الادلة".
(*)
حكايات: سرقة، ذبح، الهجرة للمدينة، تطوع شمخي، سيكولوجية الملابس.. كل هذه التفاصيل والموتيفات في هذه الرواية – حين نقرأها تحقيبيا – تجعلنا ننظر لهذا الجهد الروائي بعين التقدير والأعجاب.