ادب وفن

صلاح القصب : مسرح الصورة.. ذاكرة المخيلة / عدنان منشد

من بين جميع التجارب المسرحية في العراق تنهض التجربة الاخراجية للأستاذ الفنان صلاح القصب بتفردها الاشكالي والمضموني على صعيد المنصة في عروض مسرحية متعددة، ابتدأت منذ عرض "الخليقة البابلية" في مطلع عقد الثمانينيات المنصرم، واستكانت ولم تخفت صياحاتها حتى بعد عرض "ماكبث" في اواخر القرن العشرين. وكان لها دور ملموس في اغناء الحركة المسرحية في العراق والوطن العربي، والكشف عن تجلياتها الابداعية على صعيد الفن الركحي "التمثيلي" وفي طروحاتها التنظيرية وبياناتها المسرحية وآفاقها النقدية والجمالية والدلالية.
والحق، ان صلاح القصب الذي خبر التمثيل والاخراج منذ فتوته الأولى وشبابه في معهد وكلية الفنون الجميلة وفرق مسرح الفن الحديث والاذاعة والتلفزيون في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قد عاد الينا في العام 1980 من بوخارست عاصمة رومانيا الاشتراكية وقتذاك متوجاً بالشهادة الاكاديمية العليا، وارهاصات ما عرف أو ما نظر اليه بعد ذاك حول "مسرح الصورة"، من اجل تأسيس أو تدشين المداميك الاولى لهذا المسرح.
لقد خلقت قرابة اربعة عقود منصرمة التي أعرفها عن د.صلاح القصب – عن قرب أو بعد – فنانا محتدما لمشروعه في المسرح المذكور حتى وان جالد فيها ما قيل أو كتب عنه، منغمراً في هذا المسرح الصوري بفاعلية وصبر نادرين لا يقوى على خوض غمارها الا فنان اشكالي صبور ومنظم من طينة القصب نفسه، وبهدوء منظم في التنظير لهذا المسرح، وبتعزيز خلاق ومبدع لعروضه المسرحية المتتابعة، وهي – في المحصلة أو الثناء – عروض رفيعة ومبهرة، قد تعد من الفرائد الركحية والاخراجية والجمالية ضمن العروض المحلية والعربية والاقليمية، طالما ان القصب يبهرنا على الدوام بأسئلته الكونية المتفردة حول الوجود والعدم، وغائية الحضور والتفرد، مع مشاركة فعلية في شؤون وسجون الادب والموسيقى والتشكيل ضمن ملامح اسلوبية منفتحة ومتواصلة مع الثقافات الشائعة في العالم، خاصة وعامة، ويحاول استجلاءها وتقديم صور شتى عنها.
علينا ان نعترف ان مسرح الصورة، وكما جاء في احد بيانات القصب الخمسة المنشورة في مجلة "الاقلام" هو محطات تأسيسية يقظة متجددة، ومتمردة على المؤسسة التقليدية، وهو تأسيس جمالي فلسفي من خلال رافد التنظير لفلسفة الصورة وانبثاقها والاثيري والتجريبي، خصوصا في رافدها التجريبي والتطبيقي في عروض مسرحية رفيعة المستوى، ومنها:"أحزان مهرج السيرك، طائر البحر، العاصفة، عزلة في الكريستال، حفلة الماس، الخال فانيا، الملك لير، الحلم الضوئي، الشقيقات الثلاث، ماكبث..".
حينما تنبثق الصورة المسرحية في عروض القصب من خلال فضاءات جمالية واسطورية وسحرية وطقوسية وما ورائية تنبثق من محطات الذاكرة الادباعية للمخرج والمتلقي معاً، وعبر معان فلسفية كبيرة ومتعددة، كحدس بريجون وجماليات شوبنهاور وسرياليات سلفادور دالي واللغة المسرحية الخالصة في كتابات انتونان آرتو.
التفاصيل في مسرح الصورة تنظيرا وتطبيقا مثيرة تارة تأتي مصحوبة بصفة الخصوصية واحيانا تفرض نفسها بغرابة الشكل. ومع ذلك، فاننا نتلمس ثلاثة عناصر اساسية في هذا المسرح قوامها "الممثل/ المفردة/ النص" ضمن آلية اخراجية تذكرنا بقول العرب في "السهل الممتنع" وربما هي المعقد والاشكالي في اشتراطات المخرج د. صلاح القصب التي من الصعب تنفيذها او الركون اليها في اشتراطات المخرج د. صلاح القصب التي من الصعب تنفيذها او الركون اليها من اي مخرج شاب يسير على خطى القصب نفسه، اذ ان الاخير يعتقد ان للممثل طاقة تعبيرية مهمتها اشغال المكان، والتمثيل لديه محض اشكال بلاستيكية في فضاء. ولهذا، فان الممثلين النجوم في مسرحنا العراقي يتحاشون العمل مع القصب الا في استثناءات قليلة، امثال سامي عبد الحميد وعواطف نعيم وفيصل جواد وهيثم عبد الرزاق وازادوهي صموئيل، لان صلاحا صعب المراس، ولا يقيم وزنا او اعتدادا الا بممثل جمالي حاذق له الحد المعقول بعناصر مسرح الصورة.
وتأتي ثانياً المفردة المسرحية في عروض القصب الصورية حينما تشكل عنصراً حيوياً مهما من عناصر مسرحة الملموس ضمن بنية غير ثابتة تحرك الفضاء بروح التناقض والانفصال والتشتت واللا نظام، وصولا الى حالة التجميع النهائي، اي اشتغال المفردة المسرحية الدلالية ضمن العديد من الاستعمالات، ومن هذه المفردات الشائعة في مسرح صلاح القصب "المظلات الشمسية والمطرية والنظارات السوداء الخاصة بالعميان، وقطع القماش الابيض الخاصة بالسعادة او الكفن المميت المتحرك وتوابيت الاحياء والاموات والسائرون نحو الموت والآلالات الموسيقية المقطوعة الاوتار وبكرات السيللود السينمائية المتأكسدة غير الصالحة للعروض السينمائية" وغير هذه المفردات الكثير ضمن مكان يوحي بالفضاء المطلق الذي لا تحده حدود او جغرافيا غسقية غير قادرة على التبدل الا ضمن اجواء طقوسية متعددة في العرض المسرحي.
أما العنصر الثالث والاخطر في مسرح الصورة لدى القصب، فهو النص المسرحي الذي يمثل تنظيم الرؤية وتفسير العالم على وفق المضمون الذي يتماشى وفلسفته الاخراجية. فهذا المخرج يطلق على الدوام على اختياراته النصية مصطلح "محطات الذاكرة" حول النصوص المشاعة والمعروفة في المسرح العالمي، ويفترض بمشاهدي عروضه مسبقاً انهم قد تجولوا مع شاعرية وليم شكسبير في "هاملت، الملك لير، العاصفة، ماكبث..". أو سعوا مع واقعية انطوان تشيخوف في منتصف القرن التاسع عشر من اجل تقويض اسسها او هدّ مداميكها مع ابراز سحرها الباطني من خلال "طائر البحر، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث". ثم اقتحام غير مسبوق للنص الشعري "الصوري" لزميلنا الشاعر خزعل الماجدي في نصوصه الاشكالية الثلاث: "عزلة في الكريستال، حفلة إلماس، الحلم الضوئي"، او تحويل الحلم الذهني الى صور وتكوينات انشائية كما فعلها القصب في "احزان مهرج السيرك" بعد مدخله الاول في "الخليقة البابلية".
وبخلاصة اخيرة، لقد كسب صلاح القصب في مشروع مسرح الصورة الفنار السامق المضيء في التجديد والتجريب والاشكالية المسرحية الحدثية في العراق وبلدان الخليج، ومصر وشمال افريقيا، اسوة بكبار المسرح المعدودين معه، لأنه تفرد في صنع المسرح الجاد مع حسن الاستجابة في جميع الاوقات التي تعقب لحظة ولادته.