ادب وفن

قصة "عقوق".. بين العقل والأسطورة / داود سلمان الشويلي

كل الطرق، ومن ضمنها سكك الحديد، تتقاطع فيما بينها في مكان ما، والنصوص الادبية، وغيرها كذلك. إذ يلعب التناص كآلية اجرائية داخل النصوص الادبية دورا مهماً في الكتابات الحديثة، رغم انه لعب الدور ذاته في كل الكتابات، أدبية أو غير أدبية، منذ أن دون الانسان شيئا ما، أو فكر به على شكل خبر، أو حكاية، عدا النشأة الأولى لقول ما قد قيل عن أمر ما كما قال باختين.
ومن الأمور الواجب ذكرها عن علاقة الام بابنها، انها تظل مسيطرة على جميع افعاله وسلوكه وكلامه بصورة واعية لهذا الامر من قبل الام وابنها، او غير واعية لمثل هذا التصرف الذي في بعض الاحيان ينتبه له الابن، وفي هذه الحالة اما ان يعالج هذا الامر، وإما ان يتركه خشية ان يفقد ما تمثله الام له، من حب وحنان، ورعاية اخلاقية أو اجتماعية، أو اقتصادية أو ثقافية حتى.
في هذه الدراسة، سأناقش، واحلل قصة قصيرة جداً مع هذه الاسطورة، لبيان الفائدة التي جنتها من هذا النص من خلال آلية "التناص".
ويمكن عد نص القاص طلال سالم الحديثي "عقوق" الذي كتبه كقصة قصيرة جداً، من هذا الامر، إذ انها تتقاطع وتتناص مع جزء من حكاية/ اسطورة "جودر الصياد ابن عمر وأخويه"، كالطرق التي تحدثنا عنها في اول سطور هذه الدراسة.
وبعيدا عن عنوان القصة الذي يحمل البصمة الاخلاقية عند وضع العناوين، والذي يشير الى فعل احد الابناء ضد احد ابويه، فإن هذه القصة تذكرنا بأسطورة "جودر" الالف ليلية، من خلال تناصهما "تقاطعهما" في أمرين هما:
- قتل الام "خنقها" التي ربته صغيرا.
- رمي جثة الام في النهر.
في الامر الاول تتقاطع الحكايتان، وفي الامر الثاني تختلفان، الا ان نتيجة الاختلاف تبقى هي واحدة، ذلك ان سبب الاختلاف هو العقل الذي انتج الفكر، الفكر الذي تحكمه الاسطورة، والفكر الذي طرد الاسطورة والخرافة منه.
***
النص القصصي: "عقوق":
"خنق أمه ووضعها في كيس ورماها في النهر، ثم رفع يديه داعياً: "ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً".
النص الاسطوري:
في حكاية/ اسطورة "جودر الصياد ابن عمر وأخويه" الألف ليلية،يقول التاجر المغربي لـ "جودر":
"اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه فإنك تسمع قائلاً يقول: من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟ فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك: إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك، فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء. وأما إذا خالفته فإنه يقتلك. ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال. فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرس وعلى كتفه رمح فيقول: أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الأنس ولا من الجان؟ ويهز عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك، ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك، ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه، فإن وصل إليك فأعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس، فتقدم إلى الباب وقل له: يا عيسى قل لموسى يفتح الباب، فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين، وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال، فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا ابني أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة، اخلعي ثيابك. فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، كيف تعريني؟ فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك. وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً، فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط، وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد، وقد أمنت على نفسك، فأدخل تجد الذهب…".. "ألف ليلة وليلة".
***
قبل ان نناقش هذين النصين، الاسطوري والقصصي، علينا ان نذكر ان فنون الادب السردي، وفنون الادب كافة، في وقتنا الحاضر، تختلف عنها في ازمان قديمة، مثل ان تكون في زمن حكي الاساطير والحكايات التي دونت في كتاب سمي بـ "الف ليلة وليلة" شفاهياً، على الرغم من ان فنون السرد في وقتنا الحاضر قد بنيت اساساً على ما كان سابقاً من بناء اسطوري وحكائي مع بعض الاختلافات، أي على نواة حكائية، وهذا الاختلاف سببه التطور في الثقافة والمعرفة، والواقع الذي يكون سبباً في ظهور مدارس ادبية في الفن السردي.
في أسطورة جودر يقتل "جودر" شبح امه تحت ماء النهر، عندها يتخلص من كل ما يشده اليها، أي يتخلص من تبعيته لها، وسيطرتها عليه.
فالحكاية، أو الأسطورة، في جزئها هذا، تتألف من حركة واحدة، هي: القتل. وتنتج عن تلك الحركة حركة اخرى واحدة ايضاً، هي: التخلص من سيطرة الام، ويتم ذلك تحت ماء النهر.
اما في الق. ق. ج. "عقوق" فان بطلها يقتل "يخنق" الأم، خارج النهر، ثم يقذف بجثتها الى ماء النهر، فيتخلص منها، بحيث يقرأ بعد رميها في النهر آية قرآنية تؤكد ان الام "احد الوالدين" هذه قد اعتنت بتربيته صغيراً، أي انها كانت مسيطرة عليه في صغره، وكذلك في صباه، وربما في فترة غير معلومة من شبابه، وقد تخلص من تلك السيطرة، وخرج عن سيطرتها، وسلطتها.
الاختلاف الحاصل بين الاسطورة والق. ق. ج. في هذا الجزء جاء بسبب التغير الحاصل في الثقافة العامة، والكتابة الادبية عند الاديب، اضافة لما قلناه سابقا عن الفكر الذي ينتجه العقل الاسطوري والعقل العلمي، فكان "جودر" قد قتل شبح امه وهي تحت النهر، فيما "خنق" بطل قصتنا امه في الحقيقة، ثم رماها في النهر، أي ان النتيجة النهائية لما حصل للام هو قتلها.
الآية القرآنية الواردة في الق. ق. ج. "عقوق"، والتي تقول: "ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا"، تجمع الوالدين، الاب والام، فيما نص القصة يتحدث عن الام فقط، وهذا معناه ان بطل النص غير معني بالأب، بل هو معني اساساً بالأم. ونفهم منها، كذلك، ان الأم قد اهتمت بابنها عندما كان صغيراً، وحتما عندما كان صبيا، وحتى وقت "خنقها"، وهذا معناه، ان الابن قد تخلص من الأم عندما كان في سن يؤهله للخروج من سيطرتها، وسلطتها، والاستقلال بعيدا عنها.
كلنا نمارس هذا الخروج من هيمنة وسلطة وسيطرة الام علينا، الا النادر من الحالات التي تصل فيها الهيمنة والسيطرة الى ما بعد الزواج، وربما يبقى الى وفاة الام، وقد تكفل بهذا الامر اخيراً التلفزيون في تقديم "المسلسلات" التي تناقش وتبدي الرأي فيه.
ان هذه الق. ق. ج. تبرهن على ان هذا الفن السردي قابل لان يمتص بين كلماته وجمله، الاساطير والحكايات، او ما يردنا من موروث أدبي، أو غير أدبي، فينهض بالتالي على اسس صلبة وقوية، فيمنح هذا الامر دفعة قوية في تطوير الفن السردي المعروف عند المبدعين.
ان آلية التناص قادتنا الى وجود التأثر ما بين الق. ق. ج. والاسطورة/ الحكاية الالف ليلة، وهذا ليس معناه وجود سرقة بين الاثنين، لان السرقة لا تتم فقط في الافكار "المعاني"، بل يجب أن تحدث في الأفكار والألفاظ الحاملة لها، وفي الصياغة.
والجاحظ يقول في "البيان والتبيين" عن المعاني في الشعر، وهي تنطبق عليها في النثر: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك".
تخير اللفظ، وصحة الطبع، وكثرة الماء "أي الطراوة والطلاوة"، وجودة السبك، هي المطلوبة، وليس المعنى المطروح في الطريق، وهذا يعيدنا الى مقولة باختين التي اوردناها في البداية ايضا، فقط آدم لا يتناص مع احد قبله.