ادب وفن

ديوان "والماء".. وخرافات العولمة / قيس مجيد المولى

لاشك في واحدة من مفاهيمه الانتقال من مطبات الواقع وركوده الى التسامي والقبض على المبتكر وإحالته الى مناطق الاشتغال لتجري عليه التعديلات اللازمة كي يكون ملائما مع فعل العاطفة مصاحبا لمخرجات المخيلة حين يكون كل شيء قد وقع خارج المحسوس بعدَ أن تجرى عمليات التحليل للموجودات البصرية والإفادة من تشكيلاتها التي تنسجم مع اللحظة الحرجة حينها يبلغ الشاعر حراكه النهائي للبدء بــ إنتاج النص ، ويقينا أن تلك العملية هي المقود الأول للبدء بترتيب نوايا المضمون ومن لحظة البدء تلك تتلازم الإشكاليات والتفرعات والرغبة من عدمها لإعطاء بنيوية النص قاعدتها النهائية كي يتم التأسيس ويتم بالتالي تقدير مديات الحرية التي يمتلكها الشاعر وتوقه للوصول الى المناطق المعتمة والساحرة والغرائبية، وهنا لابد من الإشارة ونحن نستعرض المجموعة الشعرية الجديدة "والماء" للشاعر رجب الشيخ من الإشارة الى أن الماء بنصوصها المركزة والتي جعلت من تضييق المسافات بين تداولية المشهد وبين التعاقبية النسبية ومس المفردات بعضها للبعض مرة بِتواصلٍ افتراضي ومرة أخرى ضمن معطيات الحالة التي تجيز للشاعر أن يبوح بدلالته وتعقبها وحث أبعادها على التناسل ضمن موردات الصور الشعرية التي تترابط بصيرورتها وفي عمقها التوهجي مادام النص الواحد من هذه المجموعة الشعرية يرتكز على الظهور الفجائي وعلى وعي جدلية الخطاب ضمن أبعاده الثلاثة وما يتشكل من رؤية الشاعر رجب الشيخ تجاه الحياة وكيفية إدامة تواصله مع انتقالات النصوص من نص لآخر ومن استباق لغوي للمتوقع ضمن مجادلات المخيلة وخزينها من المشاهد والوقائع والتواريخ واللقطات اليومية، فالبناء النسيجي أي الترابطي في الوحدات والعناصر يشكل أول أوجه الاستجابة لزحزحة الجُمل المُخزنة ووضعها خارج الآلية العقلية وتحصينها من العلاقات السائبة التي قد تقع فريسة الموروث وهذه من المزايا الإيجابية التي تحسب للشاعر حين يقوم بتقليم النص ويقوم بتقديم بيانات ضمن "الكثافة المركزة" فأي من المفردات التي استخدمها الشاعر تمثل وجودا قابلا للاشتراك وليس ضحية فردية ، ومن هنا فالشاعر يرى أن قيامته للوجود وجود الشاعر الحقيقي تكمن في نوايا لغته وإن مخاتلة اللغة بقصدية ما لا يمكن أن تتوافق مع المعطيات الروحية ومن هنا أتت المزية الثانية في العمل على توأمة اللغة ومحيطها النفسي ضمن أبعادها الثلاثة لتكون مخرجاته بعيدة عن السياق وبعيدة عن المتوقع وكأنها محكية في باطنه وما عليه إلا أن يأذن لها بالخروج:
أجلسُ تحت ضغط الوحدةِ
أرشقُ ذاكرتي ،
ذاكرتي الرديئة جداً
أُصفقُ للوجعِ
يلامسُ خرافةَ أنفاسٍ
يختزلُ حكاياتٍ
تحت شريانٍ
لا ينبض،
إن من ملامح هذه المجموعة الشعرية الانفصال التام عن المعطيات المباشرة ضمن توجس الشاعر المستمر للحفاظ على النكهة العاطفية وسياقات النصوص واتجاهاتها الى التعامل مع الجوانب ذات الإحساس العميق كالفراق والحزن والانتظار وإقامة جداره العازل دونهما ومس الأشياء الأخرى مسا شفافا وذكياً أمام يقينه من أن الشعرَ ليس بتجربة عامة إطلاقا بل هو تجربة ذاتية أمام تطويع العام وترحيله للخاص وليسَ احتيالا على ذاكرة وأحاسيس الأخرين والتحديث هنا يعني تفعيل المستحدث للتحسس بالأزمة اللغوية وعدم الوقوع في مطبات اللغة القديمة المكررة الاستخدام والمُعدة سلفاً وهذه مزية أخرى وإضافية من مزايا هذه المجموعة ، ولعل البيئة الشعرية للشاعر رجب الشيخ تقدم بدائلها بين منحى شعري وآخر لإبقاء مخيلته في مجهولها وهو ما يقتضيه العمل الشعري انتظارا لانشطار المخيلة والإفادة من القوى الكامنة في المجهول حين يتفرس الشاعر بموجوداته الباطنية وقد تحقق من مديات فعله وانسجام هذه المديات ومؤثراته السّيميائية إن كان ذلك ضمن تأليب الرثاء وتشكيله ضمن عناصر مختاره وهو يندرج ضمن الرثاء العاطفي، أو بوساطة السخرية (Irony) السخرية الخفية التي تتأتى كنتيجة من صراع طويل الأمد بفعل عاطف عميق الشعور (Sentiment) من تراكم جمعي لقوى اللبيدو بدافع غريزي أو يكون بدافع مكتسب :
احياناً..
تغمضُ عيناي
تحت خيمة الليل
وأسدل كل حكاياتي
كي أصرُخَ
لا فرار
من الحقيقة
حينما تلامسُ
جلودَ الموتى ،
مُحال
أن نشتري الفرحَ
من دكاكين العشاق
****
لا تختبئي
تحت معطفي
فالثلج
يئن بين أودية المسافات
البرد
يختارُ أمكنةً مظلمة
ليفتشَ
عن قبابٍ ناضجةٍ
بعض الشيء
أجد في خاتمة قراءتي أن الشاعر رجب الشيخ رسم ذاكرة جديدة للأشياء الحية ومن خلال الماء، فالماء الحياة والشعر ملازما لصفات الماء واختياره للماء عنوانا لهذه المجموعة تعني أن الشعر يديم الحياة حين يعيد تأثيث موجودات الكون بلغة جديدة.