ادب وفن

مسرحية: حقيقة حلم / سعد عزيز دحام

تُفتح الستارة، ظلام دامس، ينبثق ضوء من عمق المسرح، يأتي من خلال شاشة
بيضاء كبيرة، تصاحبها موسيقى حسب اختيار المخرج، تظهر كتابة على الشاشة:
حين تُقطع الزهور، سنسمعُ بكاء الفراشات.
تختفي الكتابة تدريجياً، ثم بقعة ضوء على يسار المسرح حيث السجين، مع وجود
بعض الإكسسوارات البسيطة.
السجين: جيوش من الوجوه احتواها هذا السجن معي، ما أن تتشبع ذاكرتي بأحاديثهم
وجدلهم وثقافتهم وشعرهم وفلسفتهم، حتى يذوبوا بهذا السرداب، ولا يطول المقام حتى
يمتلئ المكان مرةً أخرى، كلهم أتوا، وكلهم رحلوا مع الراحلين، فلاسفة وشعراء، علماء دين وملحدون، كتاب وأدباء، فنانون ومفكرون، كلهم غرسوا أفكارهم في هذا الرأس، حتى كاد أن ينفجر،
قالوا: إن الإنسان هناك، لابد أن يمتهن التصفيق، حتى يتحول إلى قردٍ لتسلية الجواري ، ومن لم يفعل سيحيى موتاً بطيئاً
سعيد أنا بهذا السجن، فخلف هذه الجدران شعوبٌ تتكون من جماعات مذعورة، أحذيةٌ لامعة وانعكاس أعين الفقراء فيها. السجنُ قد حدد جسدي بهذه الجدران، ولكن روحي ليست سجينة، فحفزت إيقاع روحي الداخلي وصنعت لها هيكلاً، فاخترقت الجدران وتخطت المسافات
زرتُ عوالمَ، أعطتني شعوراً روحانياً، قد عمّق البُعد الخفي لشخصي، تلك العوالم أكسبت حياتي بعداً جمالياً وروحياً. لكّلٍ منّا وطن، وهذا السجن وطني، لأني ولدت هنا، وبعد أربع سنين من ولادتي، اصطحبوا أمي لتتعلق هناك على ذلك الحبل، أُمي أتذكرها، أتذكرها، أتذكرها،(كأنه يترنم أو يُغني) لقد حفظتها كنشيد الأطفال، وفي كل الصباحات هي أول القادمين إلي، وحين نسمع خطوات الآخرين تتسلل لمساماتي كلها. حين سألت أمي عن أبي، أين أبي؟ من هو؟ أشارت بحياء الى جميع السجانين، كلهم أبي، لقد تناوبوا على صنيعتي، اغتصبوها ثم قتلوها، أخفوني لئلا يُفتضح أمرهم. قالت لي الوجوه، التي مرّت بي: لا تخف، لقد اقتربت الثورة سنتحرر جميعاً
أيُ تحرر؟
قالوا: كسر قيود السجن والخروج الى الحرية.
وهل توجد حرية خلف هذه الأسوار؟
قالوا: نعم
لماذا إذن ترافقكم أعين الرقيب حتى في المنام؟
قالوا: وهل رغبتك هي البقاء سجيناً مدى الحياة؟
أنا لستُ سجيناً، السجين هو جسدي، أما أنا فأملك من الحريةِ ما لا يملكه الجلاد.
حين ولدت خلف الأسوار، حُجبت عن ضيائكم وألوانكم ومدنكم وهمسات عشاقكم ومغامراتكم، فآليت على نفسي أن لا تبقى حبيسة هذا الجسد السجين، هكذا تحررت روحي، وانطلقت إلى حيث تشاء من خلال الحُلم، وما تسمونه الأفق كان بدايتي، لقد اتسعت الرؤيا، وامتد النظر ليسع كل شيء
وجدتُ مدناً وعوالم لاتشبه مدنكم وعوالمكم.
في مدني، حين تتوهج الضياءات، تتفتح العوالم والمدن كما تتفتح الورود، وعندكم حين تتوهج الضياءات
تُخلف الظلمة.
كلما حاولتم أن تُحرروا أفكاركم، تجدوا أنفسكم عائدين من جبهات القتال.
تريدون أن تصنعوا التاريخ، وما التاريخ إلاّ حماقات تتوالى عبر الأجيال، كل الحضارات التي بُنيت هدمها الغازون، وسفكوا دماء أبنائها، وكل الحضارات التي شيدها الغازون هدمتموها أنتم، وأستبحتم دماء أبنائهم.
في مدني حتى في قاع البحر لي أصدقاء، أما أنتم فقد منحتكم أعين الرقيب توجساً فعانقتم الوشاية
وفتحت الأرض لكم أزرارها،
في مدني يتوالد الفرح، فتتحول الحياة الى نغمةٍ ذات شجن، وفي مدنكم تتراكم الأحزان، فيتحول الليل الى سوط جلاد.
دخلتكم الحرب ولم تخرج حتى وإن انتهت لأنها بقيت بنفوسكم. حتى ذكرياتكم أصابها الوهن، لأنها تبحث عن وجوه أبنائها الغائبين
في مدني ليس هناك بشر، بل هم أقرب الى الملائكة، لأن البشر لايمنحون السلام لأحد.
في مدني لا ضباب ولا حراب، ومدنكم بوابة تحتفل بقدوم سرفات الدبابات، والغرباء المدججين بالسلاح.
مدني فيها الصمت لغة يتخاطب بها الجميع، ومدنكم فيها الصمت يعني التكتم على الأسرار التي ستقضي على حياتك وحياة من حولك.
في مدني تلاقحت أرواحنا بمحيطنا، وفي مدنكم كل الكائنات بريئة إلا الإنسان، ففي كل مكانٍ تنزلون فيه يبدأ ترقب الكائنات المحيطة بحلول الكارثة.
مدني حُلمٌ جميييييل، ومدنكم ثورات وانقلابات، حصارات، حروب، احتلالات، مقابر جماعية، مهجرون، اغترابات، منافي، عوز، حرمان، سرقات، اغتيالات.
صحيح أن نهاركم مشمس، وفي سماء ليلكم تسطع النجوم، ولكن نهاركم يلف الموتى، وليلكم كابوس يجثم الصدور، وما أنتم إلا مثل يد الغريق
أنا لم أرَ يوماً ضياءً للشمس، ولم أستنشق عطر زهرة، ولم أحتسِ كأس نبيذ معتق، ولم أجرِ في طرقات تكتظ بالحسناوات، ولم تتحسس نظراتي أجسادهن، ولكني حلمت بكل هذا، فوجدته أكثر عمقاً وجمالاً، لأنه غير مصحوب بخوف.
مساحاتكم تتوزع على الأرض، وجهاتكم كثيرة، لكنها بمجملها مُغلقة، أما أنا فأحلامي أكثرُ سعةً من الأرض
حين أعود في آخر الليل من مملكتي الواسعة المليئة بسحر النساء اللاهثات خلفي، أنظرُ من بعيد الى جسدي وقد تكوّر في إحدى زوايا السجن كقبضة طفل
ها أنتم تدعوني لترك عوالمي، ومشاركتم خوفكم وثورتكم، لماذا؟
ستسقى كل نباتات الأرض بدمائكم
قلتم لا بأس
ستثكل جميع الأمهات
لا بأس
سيتيّتم جميع الأبناء
لا بأس
سيتحول الغناء الى بكاء ذي شجن
لا بأس
سيطول انتظار الحبيبات دون عودة عُشاقهن
لا بأس
سيختفي الزرع ويشح الرغيف
لا بأس
سيحل الظلام
لا بأس
ستُنتهك القوانين
لا بأس
ستعم الفوضى
لا بأس
ستتفشى الأمية
لا بأس
ستقودنا الخرافة
لا بأس
ستفقدون البصيرة وتنقادون كالقطعان للذئاب
من يسلمُ منّا سيرسم إشراقة صباح جديد
لكن من يسلم سيكون منكسراً
سيتشافى مع الأيام
حينها سيذبل العمر، وينحني الظهر
حينها سيكبر الأحفاد وتتفتح الورود
يالهذا الكابوس
يالهذا الُحُلم

انتهت