ادب وفن

رشدي العامل في ذكرى رحيله / رحيم الحلي

في عام 1990 كنت مع صديقي الحلي الأستاذ حفظي شهيد ، متجهين صوب بيته أو خرابته في سفح قاسيون، ونحن نصعد بين الأزقة المتعرجة الحادة ، اخبرني بوفاة الشاعر رشدي العامل، تسمرت في مكاني وأخذت شهيقاً، كانت مصيبة حقيقية وخبراً مؤلماً في تلك الفترة الصعبة من حياتنا نحن المهاجرين البعيدين عن وطننا الملبدة سماؤه بالمصائب.
فتتسرب لنا بين حين وآخر أخبار مؤلمة برحيل أحبتنا في السجون وساحات الموت المجاني، ونرى الطاغية يزداد غلواً وعنجهية في ظل اصطفاف دولي مؤيد له، فنلحظ ان قبر الدكتاتورية لم يحفر بعد، فجاءت وفاة شاعرنا رشدي العامل بمثابة جرعة مرة يطفح بها كأس مراراتنا الممتلئ ولتزيد من مساحة احباطاتنا.
من مدينته الغافية على الفرات ببيوتها المسورة وشطآنها المرصوفة بحبات الرمل، بنواعيرها الحزينة وأشجار الصفصاف والتين اللائذة بالصمت وهي تدفع ريح الصحراء، حياة موشحة بالأحزان لولد شقي أراد أن يختصر الزمن والمسافات، عندما عرف للمرة الأولى ماذا يعني الظلم وهو يسمع خبر إعدام ثلاثة رجال وطنيين في بغداد بقرار ملكي قاسٍ، صار يرى في أحلامه أجسادهم المعلقة بالحبال، فتذكر مشاركته وهو صبي في متظاهرة ضد الاستعمار وضد معاهداته، وتذكر قصيدته البسيطة التي ألقاها في المقبرة التي دفن فيها بعض الشهداء، في تلك السنوات سمع بالشيوعية فهؤلاء المشنوقون هم شيوعيون، بدأت قراءاته تتعمق ومن المكتبة المتواضعة في مدينته، ابتدأ ركضته المبكرة في البحث المعرفي، انه سعي مضن للوصول الى فهم العالم وكينونته وصراعاته وثوراته، والبحث عن اجوبة لاسئلة ذكية تسبق عمر الصبي الجميل المدلل في اسرته المكافحة، فقد عاملته الأسرة بدلال واضح، وأرادوا ان يصنعوا منه شيئاً مميزاً، قد توقعوا له مستقبلاً باهراً، فقد زرع والده فيه حب الوطن والشعر والتاريخ، وبدأت تتشكل أفكاره وتنمو بسرعة مثل الشجيرات الغافية على نهر الفرات، فبدأت الماركسية تغزو ذهن ذلك الفتى الصغير، واستطاعت مخيلته الواسعة ان تربط جسراً بين قراءاته الأولى من الكتب التي توفرت له في أسرته وبين كراسات الحزب وأدبياته، وابتدأت علاقته بالحزب الشيوعي وهو الذي كلف للذهاب إلى بغداد لربط أولى خلايا الحزب في عانة مع المركز، ليعود بمظروف فيه منشورات حزبية وكراريس صغيرة، توسعت مداركه وراح يفكر بالبؤس المنتشر في وطننا بالمظالم والفقر والاستغلال ثم الاستعمار الذي يهيمن على مقدرات بلدنا المقيد بالمعاهدات والأحلاف الجائرة.
بداياته الاولى في عالم النشر، كانت مع مجلة العراق التي يصدرها رزوق غنام وابتدأت خطواته الاولى في شارع المتنبي وهو يمد الخطى صوب عالم الكتابة والنشر ثم اصدر مجموعته الشعرية الاولى عام 1951بعنوان " همسات عشتاروت" بمساعدة صديقه فيصل الياسري .
تعرف على الشاعر عبد الوهاب البياتي عندما كان طالباً في متوسطة الرمادي، وترسخت في ذاكرته تلك الأبيات التي خطها بالطباشير على اللوح المدرسي:
أجمل أيام الهوى أفلتت
منا، وأخشى أنها لن تعودْ
كانت سراباً عابراً وانتهى
كأنها حلم عزيز الوجود
في سنة العالم من بدئه
ان يسلم الشوك وتفنى الورود
جنة اهل الحب، في سحرها،
كانت وعوداً، وستبقى وعود
في مدينة الرمادي بدأت تتعمق قراءاته من خلال المكتبة العامة حيث كان الموظف المسؤول عن المكتبة هو احد أصدقاء خاله الكبير السيد ثابت الراوي، الذي يسر له فرصة المطالعة في المكتبة وحرية البحث بين رفوف الكتب، اتاحت له قراءة اولية لمؤلفات طه حسين والعقاد والمازني والرافعي وشوقي والرصافي وعشرات غيرهم، يتحدث رشدي العامل عن تلك الفترة من حياته في مذكراته التي نشرتها صحيفة المدى بعنوان طائر الفرات في إحدى عشر حلقة:
لقد كانت فترة اكثر من خصبة ضمن حدود الحياة القاحلة لبلدة عراقية مهملة، في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين، وبالنسبة لصبي في نهاية دراسته الابتدائية وبداية لدراسة المتوسطة.
في مدينته عانة تعرف على الأستاذ عزيز شريف مؤسس حزب الشعب وشقيقه الشهيد عبد الرحيم شريف وعلى العديد من المعلمين الذين جاءوا للتدريس فيها او المناضلين الشيوعيين المنفيين إليها، منهم المناضل خلوق امين زكي (سكرتير أول تنظيم طلابي في العراق جرى انتخاب قيادته في مؤتمر السباع بعد وثبة كانون 1948 الملهمة، باسم اتحاد الطلبة العام والآخران هما: محمد صالح الحيدري، ومحمد رسول الحيدري. الذين نفتهم السلطات الملكية الى هذه المدينة الفراتية البعيدة والتي استعملت كمنفى لبعض الشيوعيين الذين قضوا محكومياتهم في سجن الكوت او في نكرة السلمان.
تعرض للفصل أكثر من مرة، ففي عام 1954 تم فصله من كلية الحقوق، وفي عام 1958 عاد من منفاه في القاهرة وعمل في أول جريدة شيوعية علنية وهي اتحاد الشعب، حيث عمل محرراًً في الشؤون الثقافية، وبعد انقلاب 8 شباط 1963 تعرض للاعتقال والسجن، ثم سُجِنَ في قصر النهاية بعد انقلاب 17 تموز1968.
وفي عام 1973 عمل محرراً بارزاً في الشؤون الثقافية والسياسية، استمر في عمله في طريق الشعب حتى العدد الأخير، قرر البقاء في البلاد بعد الحملة الدموية ضد الشيوعيين أواخر السبعينيات مما جعله يدفع ثمناً كبيراً بين مطاردات واعتقالات واعتكاف، وظل قوياً أمام كل الإغراءات التي مارستها السلطة الصدامية مع النخبة المثقفة، ليرحل في 19 أيلول 1990 وتحت وسادته نسخة من آخر أعداد جريدة "طريق الشعب" السرية.
واجه العديد من المحن ليس اقلها محنته في ضياع بيته وابتعاد زوجته وبقائه وحيداً مع خمرته وذكرياته الطويلة، حزنه على رفاقه الغائبين المتوزعين بين السجون وبين المنافي، كيف يستطيع صبراً حين يرى الطاغية ضاحكاً وهو يحرق البلاد ويزجها في حروب وحماقات عبثية، قافلة الموت الممتدة في كل بقعة من الوطن، الحزن وقد حط رحله في كل البيوت، كيف يتحمل رؤية السياج العالي الذي طوق فيه الدكتاتور الوطن والثقافة فتعرض كل شيء للموت او التزييف، ماذا عساه ان يفعل في مثل تلك الظروف، ظل معتكفاً يجتر ذكرياته يندب وطناً تلتهمه النيران، وكأن الموت بلسمه الاخير، رحل المغني وهو ينشد:
أمس كنا أربعة
شاعر ظلَ طريقه ُ
كاتب يبحث في الظلمة
عن نور الحقيقة
ثالث يرسمُ بين الشوك والصبار أزهار حديقة
راهب يستلُ أنات من القيثار
وسط الزوبعة
أمس كنا أربعة
هكذا كنا،
ولكنا افترقنا،
عند نصف الليل
حدقنا طويلاً وضحكنا
عندما قال لنا الراهب،
أنا أغنياء،
خبزنا الصبر الإلهي،
ومأوانا العراء،
لم نخن شيئاً ولم نكذب،
ولم نلبس أثواب الرياء،
وافترقنا..
نغرفُ الضحك وكنا سعداء..
في مراسلاته ومكالماته الهاتفية مع محمد سعيد الصكار المقيم في باريس، يبحث الشاعر رشدي العامل عن حبل النجاة ليخرج من حصاره، طلب من الصكار ان يرسل له دعوة زيارة، وبعد إلحاح شاعرنا المحاصر بادره الصكار يسأله عن رقم جوازه ! ليجيب بمرارة وخيبة ان جوازه ساقط سيسعى للحصول على جواز جديد، ولكن هل سيعطي الجلاد جوازاً لشاعر شيوعي معروف؟ أحلامه هائمة دون جدوى، فلقد مات المغني انهم يهيلون التراب في قبره الثري والشمس مالت للغروب وقبل ان يوارى التراب، قرأ الدكتور علي جواد الطاهر كلمة رثاء أخيرة قائلاً:
ماتَ صوتُ القادمين إلى العراق ..
وطني مات المغني...
فهل سنعيدُ حكايات السنين؟؟
أقول لك ايها الراحل، صديقنا الجميل رشدي:
نحنُ نعيدُ حكايات السنين..
وطني لن يموتَ المغني...
الشاعر رشدي العامل يمتزج بجيلين شعريين هما جيل الخمسينيات وجيل الستينيات فهو يعبر كل المساحة الممتدة بين هذين الجيلين، هو شاعرُ مجيدُ، رغم انشغاله بالعمل السياسي الذي اخذ الكثير من وقت شاعرنا وتفكيره، ورغم سنوات السجن والتشرد لكنه استطاع ان يحتفظ بمقعده في الصف الأمامي لشعرائنا المبدعين، قصائده حافظت على علاقة وثيقة بالحياة والناس، لم تكن قصائده بطرة او معجونة بزبد السلاطين او المترفين ولم تكن مفرداته متطايرة بمزاج عبثي، كان طعم قصائده حاداً في افواه الحاكمين الظالمين، وحلواً عذباً عند العاشقين، ظلت قصائدة شديدة الحساسية كصانعها تنضح حزناً والماً، متحدية وصلبة لكنها لينة وطرية شعرياً بمفرداتها الجذلة المعجونة بماء المحبة، نفخ فيها من روحه، فأعطاها ديمومة البقاء، وطعم الحياة المنقوع باوجاع الفقراء والمظلومين، ومن قصائده البارزة التي كتبها في تشرين الثاني 1989، وألقاها دون وجل وفي جو مشحون بالرعب، قصيدة تلمز بوضوح للدكتاتور ممثلاً بشخصية يزيد، اما الحسين فهو في القصيدة رمزُ لقافلة الشهداء الممتدة عبر الزمان والمكان في وطن القهر والسبي الأزلي، في بلد الثورات والقتل والسجون.
بعد شهر من اجتياح الكويت توقف قلب الشاعر الذي ظل غريبا في وطنه، مات وتحت وسادته نسخة من إحدى صحف المعارضة لصوت الجلاد، شاعرنا الراحل رشدي العامل حين نزور ضريحك سنفعل ما طلبته من أحبتك، حين قلت: اطرقوا ثلاث طرقات على قبري اذا سقط الطاغية حتى اعلم ان ليل العراق قد انتهى"، هكذا كان العراق، لا فرق بين نهاره وليله، كان أنشودة يترنمها المناضلون بعذاباتهم، حتى يجيء موسم البوح والغناء سندع شاعرنا مستريحاً في نومته رغم رغبتنا في ان نسمع صوته وإلقاءه الشجي، كلماته ونصوصه الباذخة، اين ذلك الخزين المعرفي هل حفظته كتبنا؟ ام اين مخزون تجاربه النضالية؟ اين عطر الصبا وذكريات مدينته الجميلة ؟ اين تلك القراءات الشعرية وتلك الأيام الشقية هل سيتذكرها المحبون؟ أم أن ضجيج البلاء قد دفع المغني إلى جب النسيان؟