ادب وفن

"ع.. ضياع".. تأويلات العنونة والأمثولة التاريخية / أحمد عواد الخزاعي

تميز الفن القصصي العربي، بخصوصيته التي جعلته يختط لنفسه منهجية، مكنته من الحفاظ على هويته وموروثه الفكري والشعبي، وارثه الديني والحضاري، مع امتلاكه القدرة على التماهي ومسايرة المدارس السردية الغربية الحديثة، كما عبر عن ذلك الناقد المصري حسين حمودة "التجارب التي صاغت أهم ملامح الهوية القصصية العربية، لدى من حلموا بهذه الهوية القصصية وسعوا إلى الاستمساك بها وتجسيدها على المستوى الفني، حيث كانت هذه الملامح معلماً على كتابة قصصية متصلة بموروثها المحلي، من جهة، وغير منقطعة الوشائج بمنابع الفن الإنساني، من جهة أخرى، تزاوج بين اعتماد تقنيات القصة القصيرة واستلهام جماليات الحكاية الشعبية والتاريخ والتراث".. في المجموعة القصصية "ع... ضياع" للقاص كامل التميمي، والصادرة سنة2017 عن دار أمل الجديدة – دمشق، والتي احتوت على ستة وأربعين قصة قصيرة جدا، نجد فيها تنوع في الأساليب السردية، منح نصوصها زخما جماليا مكنها من تخطي فخ الرتابة والتكرار، اعتمد فيها القاص بالدرجة الأساس على الأمثولة التاريخية، والتناص اللغوي القرآني، في صياغة جمله السردية، والتلميح من خلالها إلى قصدية متوارية، تتخذ من التاريخ والتراث قناعا لها لتتمثل بهيئة الحاضر، أو كما عبر عن ذلك الناقد ميشيل فوكو "جعل الحاضر موشورا تمر به أطياف التاريخ والتراث".. بدأ بالعنوان الذي يمثل العتبة السردية والقصدية الأولى للمجموعة، والمفتاح الأيديولوجي لها كما أشار الناقد رولان بارت بقوله "لا يوجد أي عنوان لا يحمل أثارا أيديولوجية ومعرفية موجهة تكون لمصلحة القصد من موضوع العمل الأدبي".
"ع... ضياع" عنوان يحمل إشارات إيحائية وتأويلات لغوية وفلسفية عدة، لا يمكن فك شفرته إلا بالاستعانة بشاخصين مهمين مثلا عتبتين استدلاليتين للمجموعة القصصية هما "صورة الغلاف والإهداء".. صورة الغلاف التي تمثلت بعين بشرية تنزف ألوانا عدة، والإهداء الذي حمل بعدا خطابيا تداوليا مؤثرا "إلى الأقلام التي تحترق كي تضيء دروب الجمال".. هذا الثالوث الاستهلالي مكننا من وضع تصورات منطقية وجمالية لفحوى العنوان، ووضع مسميات تأويلية افتراضية منها "عين الضياع أو على دروب الضياع" وبغض النظر عن ماهية العنوان ودقة مقاربتنا لقصديته، فهو يمثل حضورا حداثيا موفقا استهلت به المجموعة، التي تنوعت نصوصها بين الومضة النثرية، والقصة القصيرة جدا، وما اقترب من القصة القصيرة، كما في قصة "صدمة" التي ذكرت فيها أسماء وألقاب أبطالها.
وهنا أود أن أشير إلى أهم محطات المجموعة:
1- الأمثولة التاريخية والمقاربة القرآنية: هيمنت الأمثولة التاريخية على بعض نصوص المجموعة.. عن طريق التناص والمقاربات اللغوية مع نصوص قرآنية، لامست الموروث الفطري على المستويين الديني والاجتماعي للقارئ العراقي والعربي، كما في قصص "ضحية، بقرة، نحس، عتمة، غصة، خلد، سماء".. في قصة "ضحية" نجد الأمثولة التاريخية قد شكلت جوهر النص، متخذة من الخطيئة بعنوانها الميثولوجية ثيمة محورية تعكز عليها القاص في بنائه السردي لهذا النص، مستحضرا من خلاله التاريخ والأسطورة ليجعلهما معبرين عن الحاضر والمستقبل، وفي قصة "بقرة" التي تحاكي القصة القرآنية التي حملت نفس العنوان، حاول القاص أن يزج القارئ في معترك الأحجية العراقية القائمة منذ عدة عقود، وتشخيص أصل المشكلة القائمة هنا، الأخوة الأعداء الذين اختلفوا على لون بقرتهم الحلوب مصدر ثروتهم، فاستعان كل منهم بمن يقوي عضده على أخيه، فكانت النتيجة صادمة للجميع وهي جفاف ضرعها:
وقع الخلاف بين أهل الدار على شكلها ولونها
فاستعانوا بالأصدقاء...
تهربوا من دفع الثمن...
فاستنجدوا بالجيران... جف حليبها.
قصة "نحس" كانت فيها الاستعارة على شقين.. الأول أمثولة تاريخية، تمثلت في حادثة هجرة النبي من مكة إلى المدينة، والناقة التي تُركت لتحدد موقع بناء أول صرح إسلامي، يؤذن ببداية عهد جديد في المنطقة والعالم، واستخدمت هذه الرمزية للدلالة على الوحدة والألفة والتعاضد بين أبناء المجتمع العراقي الواحد:
برك الجمل، فاتضحت الرؤيا، حين جاء الناس أفواجا، ليدخلوا المكان...
أما الشق الثاني فانه يطرح استعارة قرآنية "أخوة يوسف" رمزية أزلية للخيانة والفرقة والتناحر.. استعان القاص بجزئية من هذه القصة القرآنية، وهي دخولهم متفرقين من أبواب شتى:
لم يقل لهم احد: "لا تدخلوا من باب واحدة، وادخلوا من أبواب متفرقة".
2- البعد الإيديولوجي :"ع... ضياع" مجموعة قصصية مؤد لجة، ضمن سياقات فكرية، مقيدة برؤى نقدية، الأولى سياسية، كما في قصص "رماد، جدل ، امة، بقرة، رفض، كشفي".. والثانية حملت نقدا اجتماعيا لعدة مظاهر سلبية في مجتمعنا العراقي، وشملت اغلب قصص المجموعة، كما في قصة "ضحية" التي أشارت إلى بعض بؤر التأزم في المجتمع، من خلال تصوير دقيق لمعاناة امرأة كانت ضحية لواقع اجتماعي واقتصادي سيئ فرض عليها حياة غارقة في الرذيلة والانحطاط:
"يفجر الأرصفة بحثا عن دولارات، يعثر على فخذين نائمين ترفين، يزيل عنهما أتربة العوز وبقايا من آثار حرب، ليلا باتت متيقنة بعد اندثار حجرها الأبيض، سيعثر عليها مرتزق آخر".
3- اللغة وتنوع الاساليب: يقول الناقد الروسي بختين "لقد ساهم تطور اللغة، في تكريس مفاهيم أيديولوجية جديدة انتجت أساليب حديثة تتماشى مع التطور الاجتماعي والحضاري للعالم المعاصر" لقد تميزت لغة المجموعة بأنها كانت مختزلة إيحائية، استخدم فيها القاص أساليب عدة، مثل "الإيجاز والتلميح والتورية"، لتوضيح دلالات نصوصه، إضافة إلى احتوائها على جمل شعرية في بعض محطاتها أضفت عليها نسقا موسيقيا، وجعلتها اقرب إلى القصيدة النثرية لغويا.. كما في هذا النص من قصة "عيادة":
"انهارت في داخلي كل الحواجز، فخرجت جيوش جوعى من فيوض الحرمان... طالبتهم بالعودة والامتثال للأوامر"...
ونص آخر من قصة "زائر":"
جمعت كل خزين ذاكرتي، وشرعت ادقق فيه... أتكون المواقف مكررة بكل تفاصيلها؟
انبجس من عمق ذاكرتي إحساس بسنة أفلاطونية، أعيش خلالها دورة جديدة قد سبقني إليها روحي في دورة فلكية مضت...".
احتوت بعض النصوص على انتقالات لغوية مفاجئة، غيرت من السياق الدلالي لها، لكنها بقيت محافظة على إيقاعها كما في قصة "فراق":
"الضحك المتواصل ينضج فيتساقط من فمي مثل كرات حمر..
الهستيريا تعلن عن ضحيتها...
النبتة التي يسكنها أخي بشغف وولع...
تقرر الرحيل إلى الأبد".
هناك انتقالة واضحة من مشهد الضحك الهستيري المتواصل.. والجملة الخبرية التي تقر بان احدا ما "الأخ" فقد شيئا عزيزا عليه بصورة مفاجئة.. بدأت معظم النصوص بجمل خبرية تقريرية مباشرة، وأفعال إرادة "أضرم، اقسم، وقع، برك، تنثر، يتأمل، أنصت،...." هذه الأفعال منحت النصوص زخما تواصليا مع المتلقي واضفت عليه مسحة خطابية .. وهو ما أطلق عليه الناقد سيرل "القوة المتضمنة في القول"