ادب وفن

"أرميك كبذرة وأهطل عليك" تعدد المداخل.. تعدد القراءات / حميد حسن جعفر

ما أن يقرأ المتابع للشعر العراقي - للشعراء الشباب الثمانينيين والتسعينيين عامة، والشعراء المسرحيين من خريجي معهد وأكاديمية الفنون الجميلة/ قسم المسرح خاصة، حتى يتأكد هذا المتابع من أن المسرح كان ومازال هو الفضاء الأول للشعر، وهو المنقذ للشعر و للقصيدة من محنتهما، أو من السقوط في فضاء اللا شعر، حيث تكون العودة الى الجذور، أي عودة الشعر الى المسرح، وعودة المسرح الى الشعر،
هذا ما كان واضحا لدى الشاعر صلاح حسن في كتابه "الحياة في اللغة الأجنبية"، كذلك لدى الأكاديمي التشكيلي الشاعر مازن المعموري في كتابه "حب مطلق"، ولدى الشاعر سعد جاسم في "ارميك كبذرة واهطل عليك".
وإذا ما كانت الأدوار متبادلة في الإسناد والتكافل من أجل إحياء ذكر وتاريخ كل منهما، فإن السرديات، وحراك الفن الروائي استطاعت أن تجد لها مكانا فسيحا في جسد القصيدة المعاصرة، وكذلك السينما و تقنياتها لدى العديد من تجارب الشعراء.
كل هذا الحراك حصل بعد انسحاب الشاعر/ الأب، شاعر إدخال القصيدة في نفق الأدلجة، والتي لا تخرج عن فضاء الراديكاليات، حيث التعصب المطلق للموروث، على اعتباره جزءا من المقدس، وأن المساس به والدعوة إلى تجاوزه هو مفصل معاد لتاريخ الأمة، واللغة والفكر العربي و الاسلامي، وليجد الشعر ضالته بمحاذاته السرد، والعودة إلى فن ورح السينما والتشكيل، وكل ما ينتمي الى المعرفة ولا ينتمي الى الشعر، حيث توفر هذه المفاصل/ الأجناس آفاقا جديدة، هذا جمهور ناظر/ متفرج، وهذا جمهور قارئ/ متأمل، وليمزج الشاعر ما بين منبرية المسرح وحراك الرواية وتقاطعات/ مونتاج السينما وتقلبات التشكيل، من أجل إنتاج نص شعري قادر على إقناع المتلقي/ القارئ من أن الذي بين يديه هو الشعر لا سواه، حتى باتت القصيدة العراقية تتشكل وفق الخزين المعرفي للروافد المتعددة "سينما، مسرح، تشكيل، سرد، شعر واجناس أخرى بمقدور القارئ الفطن أن يضع أصبعه عليها مكتشفا" هذه الروافد التي يمتلكها الشاعر ،هذا الامتلاك البعيد كليا عما يسمى السليقة، أو القريحة أو الموهبة/ الحالات المنتمية الى الفطرة، ولتجد المعارف فضاءاتها، وتأثيراتها على القارئ/ المتلقي، من خلال القراءات الشعرية، فإذا بهذا القارئ يبحث عن القصيدة المختلفة، القصيدة التي تنتجها اهتمامات أخرى مختلفة كذلك، اهتمامات تقف بقوة في محاذاة الشعر، رغم عدم انتمائها إليه، ليشكل الشعر و اللا شعر نسيج القصيدة التي تداركت أمرها عبر انتهاج مفصل المغايرة.
سعد جاسم الشاعر منشغل بثنائيات الانا والانت، المرأة والرجل، الأنثى والذكر، الأنثى/ البلاد، المرأة /العراق، المرأة/ الفرات، الفتيات/ الفتيان فالشرق ما زال متمكنا منه، من دواخله، الشرق بكل واقعيته، ولا واقعيته، الشرق المنتج البداوة، و قصص الحب، والغرام، والهيام، الشرق المنتج لألف ليلة وليلة، المنتج للأديان والأساطير والخرافات والمنتج لمناسك الحياة،
الشاعر يجوس المناطق المعتمة، يدخل/ يصل حيث الخصوصيات، تلك النمنمات/ الشظايا المختلفة الأنسجة والأشكال والالوان ،والتي تصل حد التضارب و التضاد عندما تكون خارج يدي الشاعر.
والقارئ المصاحب لها قد يزدردها نتيجة لإنتاجها الدهشة والانبهار، ولحالة المفاجأة هذه سوف لن تتيح للقارئ فرصة ما ينتمي الى المحاكمة، أو لوضع النص على منصة الكشف وربما المحاسبة، معتقدا أن النص قد قال كل ما لديه إلا أن ماء الشعر قد تذهب به القصيدة لغة وصورا ذهابا بعيدا نحو أقاصي الآخر، وإذا ما كان الشاعر يعمل على تجميع العالم، فإن القراءة تسعى إلى تفكيك النص بعيدا عن تدميره، أي أن تفكيك النص يجب الا يكون هدفا للمعرفة، ولا هدفا إلى إلغاء النص ضمن موقف مسبق، ،الكشف لا يعني بعثرة النص، بقدر ما يعني وضع اليد على الخصائص التي يتمتع بها سواء ضمن مجموعة النصوص، أو التفرد بها.
نصوص سعد جاسم نصوص منتجة للجمال، والألفة، فالأنثى التي يسعى اليها تشتغل على الذاكرة، والبلاد التي يتطلع اليها لا تعمل على إنتاج الحروب، إنها بلا سلطات، أي أن الشاعر يعمل على صناعة الاحتفاء باللا حرب، حيث تكون الأنوثة هي كل ممتلكات، وخزائن القارئ والشاعر والنص.
الشاعر يغترف من اختياراته، والقارئ يستنشق رحيق القصيدة التي لم تفقد ذاكرتها، النص هنا يستمد بقاءه عبر استثماره القراءات، وعبر ما لديه من الكمون و التستر، ما يحوله إلى سبيكة لحجر كريم، لا يمكن أن يفقد حيواته ،عبر خروجه من سلطة تحديد الأزمنة/ الأعمار، هذه هي صفة الديمومة التي تتمتع بها فرصة الإبداع.