ادب وفن

الافتراضي والواقعي في سردية – بغداد نيويورك / قراءة: صباح محسن جاسم

"أن تقرأ كتاباً لا يعني مجرد أن تأخذ فكرة عما يقوله، بل أن ترحلَ معه وتسافر برفقته".. اندريه جيد
رواية "بغداد نيويورك" هي الجُهدُ البِكْر للمحامية الكاتبة نهاد عبد، المغتربة في نيويورك - وقد جئتُ على ذكر الجهد كونها اعتنت به مدة خمس سنوات بحسب ما عَلمتُ.
سردٌ روائي مشوّق بفتنة التخييل والتشويق على التواصل لمتابعة حدثٍ رئيسٍ لا يخرجُ عن إسار اليومي المعاصر، على أنه قائمٌ على توظيف ما هو افتراضي حتى ليكاد يبدو واقعياً يعايشه أغلب من تعرّف على وسيلة التواصل الشبكي في عالم تقنيات ميديا التواصل الاجتماعي – خصوصا في ظروف تراكبية التأثير بين تعالق النزعات الإنسانية المقموعة وما اضافت اليه وعمّقته طبيعة الحروب بدءا من الداخلية منها في احداث الشمال العراقي أو بالأحرى ما سبقها بعد الحرب العالمية الثانية مرورا بمراحل احتلال العراق وأنواع الغزو والى فرض الإحتلال الخارجي لفلسطين والعراق والهيمنة على منطقة الشرق الأوسط واجزاء اخرى من العالم وفق ما تمليه أزمات الرأسمال العالمي وشؤون مصالحها الأنانية المعروفة.
قدّمَت الكاتبةُ نَسَقاً مغيّباً – وهو ما يُكتب لها – دُفن تحت ارهاصات وعي سلوكيات الناس في العراق ما بعد الاحتلال 2003، في سرد تضمّن أربع محطات بأربعة اجزاء وبمقدمات أقوال لكتّاب عالميين وكاتبة عراقية وشاعر سعودي.
فهي تنحو إلى كتابة تذكّر بأدب السيرة الذاتية – اوتوبيوغرافية - من خلال توظيف ضمير المتكلم لموقف نصوحٍ ومقاوِم. . في مقدمتها تذكر الكاتبة ".. ما اكثر الكتابات الخالية من الأهمية، كتبٌ تفيضُ كلاماً تنقصه كلمة واحدة." وتعود لتكرر هذه الحاجة إلى الكلمة ذاتها ، ثيمة لعبتها السردية – ". . فسألته: كيف تغامر بنفسك في مثل هذا الوقت؟ قال: " لا أحد في ذلك الوقت يبارح بيته ولكنها لقمة العيش، وحاجة البلد وقتذاك الى كلمة صادقة، ترأب الصدع، وتلم ما تناثر من أعضاء الجسد. فلم يعد للصدق مكان، حيث احتلت الدماء عقول الناس وما عادوا يفقهون..".
امرأة مهندسة تبحث في عالم غربتها عن حضنٍ ينتشلُها مما هي فيه من اغتراب على الرغم من فضاء السلام الذي تعيشه في "وطنها" بديلاً عن الذي افتقدته خلل دوي الإنفجارات المتلاحقة حتى تعمّق في داخلها استقطابٌ مضاد لعاطفة متقدة كرّستها لحبيب افتراضي، يعمل اعلاميا في احدى الوكالات الفضائية.
التمرّد مدخلا:
" ناي" اسم لفتاة شابّة مغتربة، تنتمي الى عائلة " يتكئ تاريخُها على سُمعة نسائها"، اختار ابوها اسمَها لأنه " يعشق العزف على الناي" ص77، فقدته ما أن بلغت دكّة نضجها وتخرجها في الجامعة، فحُرِمَت من حنانه ورعايته وهذا ما شكّل نقطةً من نقاط ضعفها. اقترنت حياة عائلتها بالرحيل بين المدن، امرأة تفيضُ حيويةً ونشاطاً وحباً للحياة وللرسم والموسيقى والرقص. . وكتابة الشعر. هاجرت من بلدٍ يُضطَهدُ فيه مواطنوه، فصاروا يرحلون بالجملة اسوةً بغيرهم القادمين من دول الحرب والموت المُباح. كرّست حياتها " لحب الكتروني" تُكاتبُ رجلاً متزوجاً له اولاد. " انثى بلا حدود "، ترابطُ جلوساً عند الشبكة العنكبوتية ليلَ نهار، فتعجّل الكاتبة بقارئها إلى ما يشبه ايقاع حكاية تراثية قديمة تعيد انتاجها في " ألف قبلة وألف لثمة"، على أنها تنحاز إلى نمط من السرد الحداثي اداةً ومبنى إذْ لا تألُ جهدا في الوقوف في الضد من استشراء النزاعات الطائفية. وبطلة روايتها لا تفتأ في تمردها متسائلة بتذمّر " لِمَ لا يكون سبب انكسارنا الآ رجُلٌ ؟ هل خلقكم الله لهذه المهمة ايها السادة ؟".
"كريم الشرع" الشخصية الرئيسة الثانية، مخرج ومعد برامج وإعلامي متخرج في كلية الطب لكنّ حبّه للإعلام والصحافة دفَعَهُ الى العمل بها، من اسرة كبيرة تهتم بإدخال ابنائها في مدارس دينية، رجلٌ خجول "لا يجيدُ الحوارَ مع الجميلات" لكنه يُسمعها عبارات ما سمعتها من قبل! يعاني بعض المشاكل الزوجية، يجيد الطبخ، رسام ومصمم اغلفة للروايات والقصص. أجمل ما فيه انتماؤه إلى " طيبة الطين. .. من أبناء الأرض ذاتها. . لهم نكهة خاصة تميزهم عن غيرهم".
من الشخصيات التي تبدو ثانوية – أم ناي – المدرّسة المفجوعة بفقد ابنها البِكْر في حادث تفجير ارهابي، تلك الأم العراقية الثكلى وإن ظهرت كظلّ في هامش الأحداث الآ انها المعادل الموضوعي بطبيعتها التي لا تختلف عن الكثيرات من امهاتنا العراقيات ممن يعشقن الأرض فتبادر لزراعة أرض بستان بور في امريكا.
الرواية تؤثث إلى ضرورة توفّر الكلمة الصادقة في العلاقات المجتمعية. المصداقية التي تجمع ما بين الخارج والداخل. الخارج المسيطر المهيمن والداخل الموّار بالثورة على كل ما هو متخلّف وفاسد. كما تشخّص بأناة طبيعة النظام الرأسمالي وما يعكسه من استلاب لطاقة الناس، فالحياة في امريكا " تحتاج إلى قتال. عمل بلا توقّف، هنا لا استراحة ولا استرخاء... الضرائب كثيرة، كل ما يدخل في جيبك سيخرج مرة أخرى".
يتبلور الصراع بعد اخفاق في هذا الحب وتصالحات قلقة مشوبة بالرغبة والتراجع من قبل كريم. فتحسم " ناي" موضوع زواجها التقليدي لترتبط بـ "عز الدين" المهندس ذي التجارب العاطفية الذي يكبرها سنّاً والمقيم في ولاية ميشيغان، ذلك المحب للأشياء المغلقة والمغلّفة حيث يفتح عنها "أغلفتها".
ومثل تجربتها تقدم تجربة صديقة لها "منى" من الرمادي، التي طار سقف بيتها أثر تفجيرٍ أقضَّ مضجع المكان.
لقد احسنت الكاتبة في وصفها أماكن وشخوص روايتها وحتى وصفها الشخصية الرئيسة عبر مقارنة ذكية مع صديقتها "منى".
الرمزيّة:
ومع ما يبدو من خطابها فهو زاخرٌ بصخب من الرومانسية والمِخيال الشعري والعاطفي الآ أنه يتضمن رمزية عالية من التمرّد على بيئة عرفية ومعالجة لحالة من حالات الاغتراب على الصعيد الدلالي عبر اعادة انتاج الماضي لقارئ من نوع خاص قادرٌ على ملاحظة ما تُريده من انتباه. فهي تناورُ بذكاء للإقرار بالمعنى السردي الإستنطاقي بغية الإمساك بوطنٍ يذوب ويحترق ويهرب ويهاجر فيما هو ثابت القرار في الزمان والمكان.
نقف في اكثر من مفصل للسرد على رمزية شفيفة بالغة المعنى. نقرأ "ما خرجنا عن المألوف بين العشاق يوماً،. .. حوار أرواح التقت.. لا أجساد احترقت لتجد صحراء ترمي حمولتها وتنتهي".
عَمَدت الكاتبة إلى أن تطوّر عالماً متخيّلاً تؤسس من ورائه خطابها السردي ورسالتها التي توسّعها وتختصرها تكثيفا بكلمة عَبْرَ علاقة تجاذبية بين بغداد "الحمراء" بدماء الحروب ونيويورك "الناصعة البياض" كما الحلم المستقر، إن هناك رابطا مفتعلا مقصودا بل مشوّهاً بين رجلٍ متزوّج بأثرٍ قلِق وبناء علاقة "فيسبوكية" بفتاة لا يمتلك منها سوى صورة "ضبابية" وجزء من بعض يدها، دخلت قلبه وأشعلت فيه النيران، كذلك تأطّرت علاقتهما عبر مراسلاتهما بوحاً وجدانياً طيلة ثلاث سنوات.
مسلّمة الوطن:
في تعريفها الوطن ترى الشخصية "ناي": "هو حديقة بيتنا، البساط الأخضر الذي نسميه "ثيّل"، تتوسطه الأرجوحة.. وكأنها بصمة عراقية"، فيما توضّح أكثر ".. البدن هو الوطن والروح هو المواطن.. ما إن ينفصلا حتى يموت كلاهما.."، في الوقت الذي تدخل فيه دول العالم" في تكتلات واتحادات، بينما نحن نتمزق قوميا وطائفياً..".
كما أخذ مفهوم الوطن منحىً آخر تناولته الكاتبة عبر رمزيّة مقصودة أو دونها من على المونولوج الداخلي للزوجة "ناي": "الغريب إني لا أشعر بإثم التفكير في رجلٍ آخر، وأنا بين أحضان زوجي"، على أنها تبقى تعيش تمزّق المغترب عن وطنه على الرغم من كونها قد استقرت في امريكا" بيتي صغير وجميل، وأنا وسطه لست بخير".
من ثمّ فهي أي "ناي" تحسبُ وطنها حين تخبز أمّها أرغفةَ الخبز وما تشيع على محيّاها من ابتسامة عريضة وهي تنهي عد أرغفة الخبز، "وحين تتجاوز العشرين رغيفاٌ... تنادي على "هيفاء" ابنة الجيران لتعطيها رغيفين، ما زالا ساخنين... هذا هو الوطن...".
تمضي "ناي" في تأهيل وطنها بكل ما ينقصهُ من حاجيات مادية ومعنوية "أكلّمه عن فستانٍ اشتريته، أو عطرٍ اقتنيته محاولة تعويضه عن حالة الحرمان البائسة، التي حولت حياته إلى صحراء قاحلة، تشتاق الى الخضرة".
تعالج الرواية موضوعاً نفسياً يتركز في اسلوبية العلاقة بين المحبين، فمراعاة الجانب الروحي والإحترام المتبادل يؤسسان لصدق العلاقة وهذا ما يُذكّر بثيمة الرواية المتركزة على " الكلمة".
فكذبة مهما بدَت بسيطة تُحدثُ تأثيرها في كسر التواصل وفي الإخلال بالحب. انعكس هذا يوم بعثت "ناي" صورةً أخرى غير صورة ابنتها "مِنَن" فزعل كريم اشد الزعل.
في المواقف الصعبة يزور خيال الأب ابنته في المنام.الأب بمثابة الوطن والوطن العراق لا ينفك عن متابعة ابنائه المغتربين، هو العارف والرائي لكل ما يجري من حيف لأبنائه المساكين.
يتكثف نسيج الأحداث في الربع الأخير من الجزء الرابع وتتصاعد وتيرة البوح العاطفي بشكل متوهّج "أنا امرأة تركها زوجها وطفلين ثم رحل، أنا المُ فقدان وطن". ويبقى القارئ مع تساؤل "ناي" الضائعة بين جغرافيتين " كيف يحرس الجندي وطنه، ويترك زوجته تحتضن الوهم؟"
الحرب وتناسلها:
للحروب آثارها الوخيمة على النبات والحيوان فكيف بالبشر! الناس ما عادوا يحترمون بعضهم والأنكى تفرّق الأقارب "لم يعد أحدٌ يحتفظ بسر الآخر، ولا التزامهم بالمواعيد ولا العهود؟ لماذا أضحى الموظف يستسيغ الرشوة بل يفرضها فرضا..؟ كيف يأخذ الموظف من الدولة راتباً دون أن يكون في موقع عمله؟".
تؤشر الكاتبة إلى وضع سايكولوجي غاية في الأهمية سيما حال المغتربين خارج الوطن الأم، اذ ترصد حالةً غريبةً من السلوك في الغربة " نحن القادمون من مشارق الأرض، لا نتمنى أن تلتقي حدقات أعيننا، حتى حين نلتقي قسراً، تتشوّشُ الأبصارُ ونبحثُ عن زاويةٍ في العين، تعفينا من مصيبة المواجهة.".. " هكذا نحن في ديار الغربة، لا نريدُ أن نرى بعضنا".
اللغة:
لغة السرد "تحاورنا بكل اللطف الذي تمتلكه اللغة العربية"، واضحة سلسة متقنة تفرض هيمنتها في الخطاب السردي وبتمثلها في الأحداث دونما حذلقة فنية، اذ نعثر على مقاطع تشكّلت فيها من شعر ونصوص تواصلت بل عززت من المعطى السردي، تستعرضها الكاتبة على طريقة بريشت حيث يدخل القارئ في عمق المشهد كما ستارة تزاح من على المسرح تُطفأ معها الأنوار لتبقي على صوت قطرات المطر ومشهد طبيعي احتفائي يذكّر بالنماء والثمر وبعض احساسٍ بالبرد. فاللغة بما تترجمه من علامات ودلالات تستمد صفاءها من نسغ الأشجار المحيطة، والثمار المعاندة مصدر الحب والعطاء.
وحين تميل الى اللهجة العامية الجنوبية للعراق انما توظفها لغاية وقصدٍ حميمي :" ناي؟ تعالي سويلي جاي. . " و - بروح ابوج تره آني ميت. .". وفي "شلونهن الحلوات".
وعلى الأغلب اخضعت الكاتبة بعض تعابير اللهجة العراقية استلهاما لروح الوطن واستحضاره وتربّعه الروحي على عرش استحقاقه.